حياة صقر تُشكِّل لوحاتها بالخيطان

من الشائع الرسم بالخيطان والمسامير، لكن هل سمعتم عن الرسم على الخَيْش؟ تعالوا معنا في هذه الجولة في معرض الفنانة السورية حياة صقر.

من الشائع الرسم بالخيطان والمسامير، ومعروف كثيراً فن التطريز على القماش، لكن المغاير في معرض الفنانة حياة صقر في "غاليري مشوار" بدمشق، هو الرسم بالخيطان الملونة على "الخَيْش"، بحيث تمت الاستعاضة عن الريشة بإبرة خياطة بسيطة، وتم استبدال تعبيرية الألوان ودلالاتها بدراميّة من نوع خاص، تكفَّلَت بها الخيوط الصوفية بالتواءاتها وتجاور ألوانها، على خلفيات تتناوب بين لون الخيش الأساسي الترابي، والخيش المصبوغ بعدة ألوان مختلفة.

هكذا بات الحديث عن موضوع اللوحة وتكوينها والخطوط المشكلة لها مع الفراغات المحيطة، وملمسها، ونغمة ألوانها، جانبياً نوعاً ما أمام الكيفية التي تم فيها التفكير باستخدام الخيوط من أجل بناء عمل فني مكتمل الأركان، ويمتلك من الحساسية في علاقته مع المتلقي الشيء الكثير.

المميز في أعمال صقر هو البلاغة في استخدام الخيطان، إذ لم تسعَ لكثافات لونية في ملء الفراغ، بل اكتفت بما يُشبِه التوشيحات اللونية في الرسم، وكأنها بهذه التقنية الفريدة في التشكيل سعت إلى صياغة لوحات تُكمِلُها عين الناظر، مُتخليَّةً عن المباشرة الفجّة في طرح مواضيعها، سواءٌ في رسمها للوجوه المتعبة والحانية على نفسها، أو في تصويرها للديكة والدجاجات، أو حتى في تركيزها على العين كعنصر من أكثر عناصر أعمالها لفتاً للنظر.

لم تتعامل الفنانة السورية مع الخيطان كأنها خطوط رسم تقليدية، بل وازنت بين الكتلة والفراغ بتوزيع مميز يوحي بالشكل الذي تريده، وفي بعض الأحيان، كانت "قُطبُها" التشكيلية، إن صح التعبير، هي العامل الحاسم في زيادة تعبيرية لوحاتها، وإن كانت تبدو عشوائية للناظر، لكنها مدروسة بعناية لتحقيق توازن العمل، وخاصةً عندما تترك خيوطها متدليةً على هواها بفعل الجاذبية، ولو امتدَّت خارج إطار اللوحة.

وفي بعض لوحات المعرض ثمة تداخل بين الخيطان واستخدام ألوان الإكليريك في تلوين الوجوه، وهو ما جاء كمحاولة لتكثيف الحالة الشعورية، وتأكيد على امتلاك صقر لتقنية التلوين، لكنها مع ذلك كانت بالحد الأدنى، بحيث تبقى الخيوط هي الأساس والألوان داعمة لقوَّتها وحميميتها وفطريتها.

تناوبت على اللوحات التي قاربت 25 لوحة وجوه بإيحاءات مختلفة، منها ما جاء بمثابة بورتريه شخصي مشغول بخيطان زرقاء أبرزت عينين واسعتين وشعراً قصيراً، ليأتي اللون البرتقالي الفاتح لتلوين الأنف الدقيق، مع بعض الخيوط الحمراء لتموَّجات الشعر، محققةً نغمة لونية أصيلة، وهناك وجه باللون الزهري وخيوط بنية وعينين خضراوين. لكن التلوين كان شفيفاً لدرجة ظهرت من خلاله خلايا "الخيش" كأنها مسامات، وتختفي العين في وجوه أخرى في مقابل ما يُشبه ضربات ريشة متوترة أحدثتها الخيطان، محققة جرعة من الانفعالية الواضحة على الملامح المتعبة، في حين تتلاشى ملامح وجوه متقاربة في حالة اندغام آسر، لا سيما مع تموضع العيون بنسب تشريحية مغايرة للطبيعة، ويبرز مهرجان الخيوط اللوني في رسومات الديكة والدجاجة على خلفية سوداء، في حين تتكثف التعبيرية في لوحة "الفزّاعة" بأسمالها المهلهلة وملامح وجهها الحزين وعصفور صغير على يدها الخشبية وكلها على خلفية صفراء، وكنمط مغاير هناك لوحة هندسية لدوائر متحدة المركز أشبه بزهور متجاورة بتلاتها خيوط ملونة وفي أسفلها قلب أخضر يانع.
 
في حديث خاص مع "الميادين الثقافية"، وإجابة على سؤال كيف استطاعت إيصال الإحساس عبر الخيطان وتحقيق دراما خاصة بها، قالت الفنانة حياة صقر إن: "الحقيقة أنني غصت بالخيطان إلى الآخر، حتى أعطتني أسرارها، كانت مرَّةً تجذبني نحوها، وفي مرَّة أجذبها نحوي، حتى وصلنا إلى حوار مُثمِر بيننا".

وأضافت: "الاشتغال بهذه الطريقة صار بالنسبة لي مغامرة، خاصةً أنه لا تخطيط مسبق للوحة، وكل ما فيها هو وليد اللحظة، أحياناً أكون بدأت التفكير بشيء وأنتهي بشيء آخر، وكنت أشعر أنني عندما أدخل إلى مرسمي، فإنني أخطو نحو المجهول، لكن كان لدي نوع من المتعة بالعمل، انتقلت مع الزمن من الحالة العفوية إلى حالة السيطرة على اللوحة، وكنت أحصل أحياناً على رضى من النتيجة التي أصل إليها، وفي أحيانٍ أخرى أعود وأفكّ اللوحة خيطاً خيطاً، وأعيد تشكيلها، وفي كثير من الأحيان كنت أندم على فعلتي بعدما أرى صورة اللوحة التي فككتها".

من أين أتت فكرة التشكيل بالخيطان بالأساس؟ سألنا صقر التي أجابتنا أن نشأتها في الريف غذَّت مخيلتها، فهناك كانت ترى نساء الضيعة يصنعن أوجه مخداتهن ومفارش أسرة أطفالهن وأغطية أزواجهن، ولكنها لم تفكر ولا مرة أن تشتغل معهم بالتطريز مثلاً.

لكن صقر في العام 2007 عملت في مضمار الأزياء، وكانت موضوعاتها الأساسية "كيف يقرأ الفرنسيون مسرح سعد الله ونوس؟"، كما اشتغلت كمصممة أزياء لفيلم سينمائي بعنوان "السابعة والربع مساءً" وهو من إخراج ابنها رامي نضال.

وتقول صقر: "كل فنان لديه خامة صديقة، وأنا الخيط بالنسبة لي هو تلك الخامة، وبيننا علاقة حميمة، وهو دائماً قريب مني، وكون هذا المعرض هو الأول لي، أحببت أن أعمل على شيء غير تقليدي، لذا ابتكرت فكرة جديدة، أهم ما فيها أنها تخصني وتلامسني بشكل كبير".