ذكرى رحيل عمر الزعنّي: مزيج من بيرم التونسي وسيد درويش

في ذكرى رحيله، كتاب شعري جديد يصدر للشاعر والمغني الشعبي اللبناني عمر الزعنّي، الذي تميّز بقربه من الناس وإيصال صوتهم من خلال كتاباته النقدية الساخرة.

  • من اللقاء الذي استضافته دار
    من اللقاء الذي استضافته دار "النمر" في بيروت في ذكرى الشاعر الراحل

بمناسبة مرور 61 عاماً على رحيله، و127 سنة على ولادته، ما يزال الشاعر والمغني الشعبي اللبناني عمر الزعنّي (1895-1961) يشغل العقول، لما احتلّته أعماله الشعريّة والغنائيّة من موقع محبّبٍ في القلوب، خصوصاً لدى العامّة من الناس، حيث عبّر عن هواجسهم، ومعاناتهم المتواصلة والمتفاقمة. 

صدورُ كتاب الزعنّي "قصائد ممنوعة" قبل أيام عن دار "نلسن"، يعيده إلى المشهد العام، بمسعى من "نادي لكلّ الناس"، الذي يوثّق أعمال الزعنّي بالتعاون مع حفيده كريم وبقية أفراد عائلته.

لم يترك الزعنّي مجالاً إلا وكتب فيه. كان متحسّساً آلام الناس، ومشاكل بلده، وقضايا المنطقة، فكتب في السياسة المحلية، وفي القضايا الوطنية والقومية، وتتركّز أهمية ما كتبه في أنّه عايش تطورات المنطقة، بدءاً بأواخر العصر العثماني، مروراً بالانتداب الفرنسي، وصولاً إلى الاستقلال وما أحاط بها من تطورات.

عمر الزعنّي هو شاعر  شعبي بيروتي ظريف الروح، تناول في أشعاره العاميّة مختلف الشؤون، وكان أشبه بلسان حال الشعب، فلقّب بـ"فولتير العرب"، وقال عنه الأديب اللبناني أمين الريحاني إنّ "عمر الزعنّي ليس بمغنٍ، بل فيلسوف"، كما قالت عنه الأديبة مي زيادة "لولا شكواه لكان شاعر الزمن".

مؤسّس "نادي لكلّ الناس"، نجا الأشقر، رأى أهميةً لصدور الكتاب في هذا الظرف، لأنّه "وثّق تاريخ بيروت، والمراحل التي مرّت بها، وجوانب عديدة من تاريخ المنطقة منذ أواخر القرن الـ19، ومثّل الشخص المناسب ليعبّر عن الظروف التي مرّت بها المنطقة، بطريقته الخاصة".

ورأى الأشقر في حديثٍ لـ"الميادين الثقافية" أنّ "ما كتبه ولحّنه وغنّاه عمر الزغنّي لا يزال حياً حتى اليوم، منذ أكثر من 100 عام، وأعماله تُعتبر اكتشافات لدى الأجيال الجديدة، كما أنّ كثيرين من الفنانين والملحنين عادوا ليستقوا من أعماله".

أما صاحب دار "نلسن" الناشر للكتاب، سليمان بختي، فرأى في حديثٍ لـ"الميادين الثقافية" أنّ "الزعنّي موهبة كبيرة ونادرة، لم تنَل حقها من الاهتمام والتقدير، اتّسم عمله بمراقبة السلطة وممارساتها في إطار ساخر وجريء، وكان متقدماً على عصره". ومن وجهة نظر بختي، فإنّ عمر الزعنّي كان "مزيجاً من بيرم التونسي وسيد درويش، بتعاطيه مع قضايا عصره من دون خوف من السلطات، على الرغم من تعرّضه للسجن مراراً".  

وأضاف بختي أنّ الزعنّي "يمثل روح بيروت ونبض شعبه، وكان لديه الاستعداد الدائم للتعبير عن الأوضاع الخاطئة".

محطات عديدة تُروى عن الزعنّي خلال عبوره مختلف مراحل تاريخ المنطقة، وأكثر ما يتوقّف عنده المتابعون له أغنية "البحريّة"، وما يرافقها من التباس بين النصّ الأصلي الذي وضعه الزعنّي، والظروف التي وضع فيها هذا النصّ، الذي يبدأ بـ"بدنا بحرية.. يا ريّس"، أما الأغنية الرائجة فهي "عندك بحرية.. يا ريّس"، التي غنّاها المطرب اللبناني وديع الصافي، ولحّنها الموسيقار المصري محمد عبد الوهاب.

لهذه الأغنية رواية إشكاليّة، إذ انتقد الزعني فيها رئيس جمهورية لبنان آنذاك، شارل دبّاس، لِمَا لاحظه فيه من لين موقف وتجاوب مع الانتداب الفرنسي، فكتب القصيدة معتمداً أسلوبه المعروف في التورية، قائلاً: "بدنا بحرية/ يا ريّس/ صافيين النيّة/ يا ريّس/ بزنود قويّة/ يا ريّس/ أبداً ما تحلّس/ يا ريّس".

وصلت الرسالة المقصودة من كلمات الأغنية إلى المراجع الأمنية، فأوعز دبّاس بإبعاد الشاعر من بيروت.

ومن أبرز المحطات التي تُسجَّل للزعنّي، انتقاده لأول رئيس جمهورية لبناني بعد الاستقلال سنة 1943، وهو بشارة الخوري، الذي كان الزعنّي على صداقة معه في بداية الطريق، لكن عندما أراد الخوري التجديد لنفسه في نهاية ولايته، رأى الزعنّي أنّ ذلك فساد، ووضع قصيدة شهيرة في عصرها، قال فيها:

"جدّدلو ولا تفزع/ خليه قاعد ومربّع/ بيضل أسلم من غيره / وأضمن للعهد وأنفع/ بأمنيته ظفر/ ومدامته شبعت سفر/ والمحروس نال الوطر".

فأودت هذه القصيدة بالزعنّي إلى السجن، ولم تكن المرة الوحيدة التي سُجِن فيها بسبب قصائده الانتقادية لقيادات تلك المرحلة.

وفي إطار تحسّسه لواقع بلده، كانت حساسيته شديدة من التمايزات الطبقية، والممارسات التي رافقت دخول عصر الحداثة، فكانت قصيدته الساخرة الشهيرة "لو كنت حصان"، وفيها:

"لو كنت حصان في هالأيام... 

كان لي خدّام ورا وقدّام

مثل الحكام أحسن بزمان...

لو كنت حصان كان من بختي... 

اهتمّو بصحّتي.. فرشو تختي

فوقي وتحتي ورد وريحان... 

لو كنت حصان ببيت سرسق

بفقّش فستق.. بطقّش بندق

ما كنت بسرق زي الزعران

لو كنت حصان ببيت بيهم

باكل أكلهم.. بشرب زيهم

أشكال ألوان...

لو كنت حصان ببيت فرعون

كان لي "بانسيون".. عشرين غارسون

لو كنت حصان لو..لو". 

وتُنقَل هذه القصائد بطرق مختلفة، بسبب تناقلها الشفاهي على ألسنة الناس من العامة، نظراً لما كانت تتركه من وقع في قلوب الناس.

انهماك الزعني بالوضع اللبناني لم يمنعه من متابعة قضايا المنطقة الحسّاسة، خصوصاً قضية فلسطين، فكتب بعد وعد بلفور: "لو فرضنا المستحيل/ وصحّت أحلام إسرائيل/ وفازت الصهيونية/ كبّر عالإنسانية".

كتب الزعنّي كذلك بعد انتصار حركة "الضباط الأحرار" في مصر سنة 1952، وناهض العدوان الثلاثي عليها في حرب السويس سنة 1956، كما زار العراق وكتب: "بغداد يا بلد الرشيد، يا منارة المجد التليد..."

صدور كتاب جديد وحفل إحياءً لذكراه

  • كتاب
    كتاب "القصائد الممنوعة" الصادر عن دار "نلسن"

وبمناسبة صدور كتاب "قصائد ممنوعة"، استضافت دار "النمر" في بيروت لقاءً حول الشاعر، بالتعاون مع "نادي لكلّ الناس" ودار "نلسن" وعائلة الزعنّي.

وتحدّث كريم، حفيد الشاعر الراحل في المناسبة، مؤكّداً حرص العائلة على حفظ تراثه، بينما تحدّث مؤسس "نادي لكل الناس"، نجا الأشقر، عن الاهتمام باستكمال الأرشيف وإصداره ليكون بمتناول الأجيال الصاعدة، معلناً أنّه "سيكون هناك ثلاث ألبومات جاهزة في أول السنة".

تخلّل اللقاء سماع لبعض أعمال الزعني المُرَقْمَنة، بعد أن جرت إعادة تأهيل النسخ المتوافرة منها لدى العائلة، مقارنة مع النسخ الأصليّة المشوّهة بسبب اختلاف التقنيات بين اليوم والعصر الذي سُجِّلت فيه. وتتناول عملية إعادة تأهيل تراثه 70 أسطوانة.

كما أدى الفنان اللبناني أحمد القعبور بعضاً من أعمال الزعني، وهي "بيروت زهرة"، "يا ريت في تلفونات"، "دنيا قايمة"، و"أبو عفيف". 

ولد عمر الزعنّي في بيروت سنة 1895. دَرَس في مدرسة الشيخ أحمد عباس الأزهري، ثم في الكلية الإسلامية، ونال شهادة البكالوريا سنة 1913.

 أسّس فرقة "المزيكا" في المدرسة، وتخرّج سنة 1941 من المدرسة الحربية في حمص، وعيّن ضابطاً إدارياً في الجيش العثماني. دخل بعد الحرب إلى جامعة القديس يوسف (اليسوعية) في بيروت، وتخرّج منها محاميّاً عام 1920. وكان من رفاقه في اليسوعيّة رئيس الجمهورية كميل شمعون، ورئيس الحكومة عبدالله اليافي. 

عمل الزعني أستاذاً في مدارس فلسطين. ثم افتتح مكتباً للمحاماة في شارع المعرض مع صديقه الأديب عمر فاخوري، أطلق عليه اسم مكتب "العُمَرَيْن". بدأ نشر الشعر باسم مستعار هو "حنين".

ستظهر إعادة إحياء تراث الزعني شخصيّةً فذةً نادرةً، "لن تتكرّر" في نظر الناشر سليمان بختي، "حيث لم تظهر شخصيّة من نوعه، وبمستواه، قادرة على التشخيص السريع لأمراض المجتمع، وممارسات السلطة بروحيةٍ مقرّبةٍ من إحساس الناس، وبأسلوب ساخر محبّب لقلوب العامة"، كما يؤكّد.