ربيع ميخائيل شولوخوف الـ 118 في فيوشينسكايا

شاركونا هذه الرحلة إلى فيوشينسكايا التي تحتفل بالذكرى الــ118 لولادة الكاتب السوفياتي ميخائيل شولوخوف صاحب "الدون الهادئ".

لا يصل القطار أو الباص إلى فيوشينسكايا. هي إحدى قرى الدون الأعلى التي لا يشد الرحال إليها إلا أهلها وزائريهم وعشاق الأدب والفلكلور. تشهد القرية القوزاقية (ستانيتسا) مهرجاناً ثقافياً سنوياً يؤمّه آلاف الكتاب والشعراء والرسامين والفنانين والموسيقيين والمهتمين. وتبعد نحو 400 كيلومتر إلى الشمال من مدينة روستوف على الدون عاصمة المقاطعة.

هناك طرق أخرى للوصول إلى مهرجان "ربيع شولوخوف"، المخصص للذكرى الــ 118 على ولادة الكاتب السوفياتي ميخائيل ألكسندروفيتش شولوخوف (1905-1984)، ومنها الالتحاق برحلات تنظمها مكاتب سفريات محلية صغيرة. 

الرابعة إلا ربعاً فجراً، ها نحن في ساحة لينين في روستوف. ينتصب تمثال الزعيم الشيوعي في الساحة الرحبة ناظراً إلينا، اجتمعنا في انتظار أن تسمح لنا المرشدة السياحية الستينية غالينا الودودة بركوب فان يتسع لستة عشر راكبًا. وصل الجميع، فالوقت مقدس هنا. 

انطلق بنا السائق سيرغي تمام الرابعة فجراً عابراً شارع لينين. يوم أنشئ هذا الشارع، خُطط له أن يكون أهم شوارع روستوف، كما هي الحال في الشوارع التي تحمل الاسم نفسه في المدن السوفياتية، إلا أن الظروف هنا حالت دون ذلك.

تمثال لينين لا يزال في مكانه، وكذلك اسم الشارع لم يتغير، ففي روستوف حوفظ على معظم آثار الحقبة السوفياتية، إلا أن الشارع الطويل لم يعد مركز المدينة. تمددت روستوف مع الزمن أفقياً بشكل كبير على الضفة اليمنى (الأوروبية) للنهر مبتلعة مساحات كبيرة من أراضي السهوب. أما مركز المدينة فقد بقي أقرب إلى مينائها النهري وسوقها المركزي، وهو شارع "بولشايا سادوفايا"، الذي حمل اسم فريدريك إنجلز في الحقبة السوفياتية.

  • فرقة هواة قوزاقية متجولة
    فرقة هواة قوزاقية متجولة

رافقنا مطر خفيف طيلة ساعات الطريق الخمس. كان الطقس قد تحول إلى ماطر قبل أيام، وكأن آخر شهور الربيع أيار/ مايو، أحب أن يفرغ ما في جعبته من أمطار قبل الصيف، الذي يبدأ رسمياً هنا في أول حزيران/ يونيو. أطفأ سيرغي الضوء في صالون الفان فور انطلاقته، وسرعان ما خلد الركاب إلى نوم متقطع في مقاعدهم غير المريحة. مررنا بشاختي، وغلوبوكي، وكامينسك حيث توقفنا للاستراحة ربع ساعة قبل أن نتابع مسيرنا شمالاً. استغلت غالينا استيقاظ الركاب لتبدأ حديثها الذي لا ينتهي عن قرى وبلدات حوض الدون، وأهلها، وثقافتهم وعاداتهم، أزيائهم وأغنياتهم. وتحدثت بشغف كبير عن النهر الخالد والقوزاق المقاتلين الأحرار الذين سكنوا ضفتيه.

صاحب "الدون الهادئ"

  • تمثال بطلي رواية
    تمثال بطلي رواية "الدون الهادئ" على ضفة فيوشينسكايا

أجواء احتفالية في القرية كيفما يممنا وجوهنا. يتوزع عدد كبير من عناصر الشرطة المستقدمين من روستوف، يقيمون حواجز تفتيش قبل دخول الساحة، يحرصون على أمن المشاركين وعلى عدم تمرير المشروبات الكحولية. عن يميننا متحف شولوخوف الأدبي، وأمامنا تمثال ضخم لفلاديمير لينين، خلفه مجمع كبير الملائكة ميخائيل الكنسي، وتتدفق حشود المشاركين في الاحتفالات من اليسار. أزياء تقليدية قوزاقية مزركشة، والكثير من الموسيقى. نصبت خشبة مسرح في الساحة، وأخرى على بعد 500 متر أمام مدخل الكنيسة، إلا أن منصة الاحتفال المركزية تبعد نحو 1000 متر، ننحدر إليها على درج طويل يوصلنا إلى الكورنيش النهري العريض، فقد أقيمت فوق ماء الدون وأمامها مدرجات كثيرة للمشاهدين. 

تتناوب فرق الهواة والكورالات على المنصتين الصغيرتين في الساحة وأمام الكنيسة، في برنامج احتفالي لا ينتهي. تلك أغنيات القوزاق التي جمع الكثير منها شولوخوف في ملحمة "الدون الهادئ" تخترقها راقصات تحمل كل واحدة منهن سيفين بكلتي يديها، ترقص بهما بشكل دائري على أنغام أغنية "أويسا". نسير على طول الشارع الذي يحمل اسمه، بين عشرات الأكشاك التي تبيع التذكاريات الخشبية والمعدنية والشمعية المصنعة محلياً. يتوافد أبناء القرى القوزاقية حاملين منسوجاتهم ليعرضوها، وتصطف أكشاك بيع الكتب لتأخذ حيزاً بينها. 

  • منصة الاحتفال الرئيسة في فيوشينسكايا
    منصة الاحتفال الرئيسة في فيوشينسكايا

في المتحف الأدبي، تقودنا تاتيانا العشرينية في جولة على المعروضات. حكاية شولوخوف هي حكاية "الدون الهادئ"، من الطفولة والتنقل بين عمل وآخر، بين قرية قوزاقية وأخرى، وصلا إلى كامينسك وروستوف، إلى نشر "قصص الدون" والحب والزواج واتحاد الكتاب السوفيات، ثم العودة إلى فيوشينسكايا والاستقرار فيها.

هنا ولدت الحكاية وهنا كتبت بعض فصولها. المجلد الثالث من "الدون الهادئ"، الذي يروي مشاهد من انتفاضة فيوشينسكايا، كان إشكالياً بالنسبة إلى السلطات السوفياتية. فالانتفاضة وقفت ضد انقسام القوزاق بين أبيض وأحمر، وضد زحف الجيش الأحمر لإخمادها في آن معاً... والحقيقة إن رويت كما هي تكون مخيفة. تحكيها تاتيانا بهدوء، التي تعتز بكونها ابنة قرية شولوخوف. كيف استطاع شولوخوف أن ينتزع حق نشر هذه الحقيقة في زمن القائد الشيوعي يوسف ستالين، وكيف رفع صوت القوزاق الذين سُحقوا مرة بعد مرة حتى وصل الأمر بالكثيرين إلى الهجرة خارج ديارهم وخارج روسيا عبر ميناء نوفوروسيسك.

هنا يمكننا أن ننظر إلى وجوه أبطال "الدون الهادئ"، حيث عاشوا وقاتل بعضهم مع الحمر والبعض الآخر مع البيض، وآخرون تنقلوا بين علم وعلم، أو قاتلوا الاثنين معاً. هنا ماتوا، وهنا جمع شولوخوف حكاياتهم وصبها في ملحمته. 

"وقاتل الأخ أخاه"

  • نحو كنيسة ميخائيل
    نحو كنيسة ميخائيل

في مكتبة القرية قراءات وتوقيع كتب وسلسلة من الندوات عن شولوخوف وأدبه، وعلى الكورنيش تبدأ الحشود بالتجمع باكراً. فكل مشاهد في مكانه و"من سبق شمّ الحبق". نمضي إلى منزل شولوخوف القديم، حيث عاش حياة متواضعة مع أسرته. نتفقد أشياءه، نقف مطولاً أمام مكتبه، الذي شهد كتابة فصول من روايته الضخمة.

ننزل إلى القبو حيث الحياة الشتوية، ونتمشى في الفناء حيث المطبخ الصيفي وأدوات الصيد ومركب الكاتب الذي كان يبحر فيه عبر الدون من ضفة إلى أخرى.

بعد ساعات سيبدأ الحفل المركزي الرسمي، وستشارك فرق محترفة بالرقص والغناء، وسيحتل المنصة ابن لينيغراد الشمالية ألكسندر روزنباوم، مغني الشعب الروسي المقدر، وسينشد أغنيات القوزاق حتى منتصف الليل حين ستمتلئ السماء بالألعاب النارية بالتناغم مع ألحان أغنية "كالينكا" الشهيرة. أما الآن فنحن أمام معرض فريد من نوعه، وله وقع خاص في هذه الأيام التي تشهد أعمالاً قتالية غير بعيد عن فيوشينسكايا، التي تقع على الحدود من لوغانسك (إحدى جمهوريتي الدونباس). 

يشد معرض "وقاتل الأخ أخاه..." زوار القرية. وهي عبارة من "الدون الهادئ"، يضيف إليها شولوخوف "... والأب ابنه". إنها الحرب إذن. تلك الحرب التي مضى عليها نحو 100 عام، وهذه الحرب التي تدور رحاها اليوم على مرمى حجر من هنا.

في الحرب الأولى، أي تلك التي دعيت بالحرب الأهلية الروسية، انقسم قوزاق الدون أو جيش الدون الأكبر. أما اليوم فهم يقفون صفاً واحداً وراء قيادة الاتحاد الروسي، ويقاتلون منذ 9 سنوات في سبيل تحرير حوض الدون (الدونباس) من مرتزقة الناتو. إلا أن للضحايا المدنيين وجوهاً متشابهة، وأمل قريب لدى من بقي على قيد الحياة بسلام قريب. تصمت دليلتنا يلينا عند كل صورة، تقف طويلاً أمام معروضة تجسد قوزاقياً ربطت قبعته بشريطين أحمر وأبيض، وإلى جانبه لافتة حمراء كتب عليها "سوفيات بلا شيوعيين".  

في الخارج، باتت الحشود في ذروتها، وباتت الحركة في اتجاه المنصة متعذرة. تناوبت على الغناء والرقص 150 فرقة وعدد كبير من الفنانين المحترفين زاد عددهم عن 270. كان نصيبنا أن نقف على بعد نحو 1000 متر من المنصة الرئيسة لنشاهد العروض عبر شاشة ضخمة احتلت مساحة من واجهة المتحف الأدبي. إلا أن للمكان روعته، وحيث نكون يكون العيد، وحيث الموسيقى تلتهب الأجساد بالرقص وتصدح الحناجر بالغناء، حتى ينتصف ليل فيوشينسكايا الاحتفالي الطويل، حتى تختتم احتفالها الرئيس بالمهرجان الأدبي الفلكلوري "ربيع شولوخوف" بنسخته الـــ 38.