رواية "المحفل": "إمرأة سوداء" تختار بين سلم الترقيات الباردة والتصالح مع الذات

أجمع النقاد على أن السرد لدى ناتاشا براون يشتبك مع أسلوبي كل من فيرجينيا وولف وفرانز فانون في مسألتين: مع وولف في المونولوج الداخلي والمكابدة النفسية التي جسّدتها في التعبير الداخلي وصوت الأعماق.

رواية
رواية "المحفل": "إمرأة سوداء" تختار بين سلم الترقيات الباردة والتصالح مع الذات

تاريخ العنصرية العرقية، وصراع الطبقات والتفاوت الاجتماعي، والأزمات الناجمة عنها في العالم الرأسمالي، ما زالت تطل برأسها على رغم الحلول التسكينية المخدرة والادعاء عكس الواقع، الأمر الذي تقدمت ناتاشا براون لسبر أغواره في روايتها الأولى، "المحفل"، والصادرة عن دار فواصل عام 2022، من ترجمة أحمد م. احمد. في حكاية عن حياة "امرأة سوداء" مسالمة من المهاجرين، وموظفة لطيفة في بنك للشركات في لندن، وصديقة لرجل أبيض ليبرالي مرتاح في تقويمه لذاته، وهو يرى أن علاقتهما دليل على أسطورة ما بعد العنصرية، لكنها تنفصل عن هذا كله، وتشعر بالاختناق، وتغرق في الاكتئاب كونها ترى المشهد بعين مغايرة في التحليل اللاذع للمشهد العرقي في ذلك المجتمع.

يأتي السرد عبر خطين: الأول وجودها في العمل، والفوقية الاستعلائية التي تلمسها من الزملاء والمديرين. والثاني تلبية دعوة حبيبها الأبيض إلى المشاركة في احتفال عائلي. وفي هذه الزيارة لعائلة الحبيب تصطدم بأفكار الطبقة الرأسمالية التاريخية. وفي كل منها يظهر الصوت الخفيض للساردة، الأمر الذي يشي بمعاناة امرأة تتعرض للاستعلاء والتنمر والتمييز في لوحة حديثة للصراعات الكامنة من خلال الجمل التي تُظهر عدائية الشرائح الأخرى حيالها، هي المرأة  ذات الجذور الجامايكية واللون الغامق، على غرار "تمر الشاحنات وهي تصيح عودوا إلى بلادكم"، أو "الأمور تسير أسهل معكم أنتم السود والإسبان اللاتينيون"، وخصوصاً في مفهوم التمييز الإيجابي؛ أي  حالة تصحيح اللامساواة وإتاحة الفرصة للمهمشين.  فنجاحها في العمل عُدّ نوعاً من العناية الموجَّهة إلى المهمَّشين أكثر من كونه نشاطها ودأبها، ولما كان الفقر مشكلتها الأساسية، أكثر من العِرق، لذا اجتهدت في الإنجاز والعمل في مقابل أن تندرج في القطيع، وأن تكون مقبولة من محيط مُعادٍ، وهذا معناه "أن تخفض رأسك وتبقى صامتاً وتتابع المسير". فأن تروّج شركة ما، معناه أن تكذب وأن تصمت، وإن اعترضت معناه ألا تنجح في العمل، وتفقد امتيازات التطور والارتقاء، التي ستحلّ، في المقابل، مشكلتك الحياتية، لكن هذا العمل اللاأخلاقي لشركتها يصبّ، في المقابل، في النهاية، خارج مصلحة الجماعة التي تنتمي إليها.

 ومع ذلك، على رغم هذا السير في ركب السياسة العامة والاندراج في وظائفها وصبّ المال في خزائنها، فإنه يأتي وقت تقول لهم إنهم ليسوا بريطانيين، وإن هذا ليس وطنهم، و"عودوا إلى بلادكم أو واجهوا الاعتقال". 

تبرز هنا مشكلة الانتماء والهوية والجنسية، فمهما اندمجت ونجحت في مجتمع العمل والارتقاء الوظيفي، فثمة نظرة دونية تجاهها، وهي تبقى ناقصة المواطنة، وعبر هذا الطرح تدخل عمق السياسة الرأسمالية التي تبحث في قضايا الفئات الدنيا من المجتمع، من فكاهة أطلقها ويل روجرز إلى جون كينيدي بشأن نظرية الانسياب الاقتصادي التاريخي، في عبارة تفسر أن ارتفاع المد يرفع كل القوارب؛ أي أن الرفاه العام والغنى العام يرفعان سوية الجميع، ضمن أمواج العدل المتصاعدة من خلال دور قيادي عالمي للمركز الرأسمالي. 

نلاحظ الصوت الداخلي الخفي لاستنكارها ردود الأفعال العنصرية انطلاقاً من حاجتها إلى إثبات نفسها كامرأة وملونة، ورصد ذلك الزيف في المجتمع الأرستقراطي في تجميع شتات ذاتها في مقابل تفكيك ذلك المجتمع المتغطرس الزائف. ففي الحفل، على رغم دماثة الأب ومجاملة الأم ورقة الابن، فإنها تريد الولوج إلى الأعماق، و"أن تفتح فمه وتباعد بين أسنانه لتلمس ما في الداخل". ما تريده أبعد من المرئي الظاهر، تقول لماذا أواصل تعريض نفسي لنظرتهم المنتقصة بعد أن صار في مقدورها أن تختار، لتأتي إصابتها بالسرطان رمزاً لذلك الورم في وجودها، في مكان تشعر فيه بالانتقاص من كينونتها وكيانها. هو داء يجري في العروق لتتساءل متى يصبح شعور الانتماء طبيعياً لديها ولدى الآخرين. وعلى الرغم من أن حضور ذلك الحبيب في حياتها يعزز قبولها لدى مدراء العمل، وكذلك حضورها في المقابل يعزز ليبراليته التي يعتدّ بها في موقعه إلى يسار الوسط، إذ إن كل شيء مقايضة، فهو صبي يرى، مما ورثه، أنه وُلد ليدير دفة هذه الأمة العظيمة، ولا يدرك عمق معاناتها وإحساسها الحارق بأزمة الوجود.  

ولأن الذات التاريخية تنسال إلى الأحفاد في المفاصل الحرجة، تظهر الكاتبة كيف يتبجحون بكرم بريطانيا في شراء الحرية لجميع العبيد في الإمبراطورية، وتعويض الملاك من ممتلكاتهم تلك التي خسروها نتيجة هذا السخاء، في نفي أي نضال قام به المضطهدون لرفع الظلم عن أعناقهم. 

في سلاسة بالغة، تتنقل ناتاشا براون بين كلام الذات الداخلي وعالمها الجواني وبين الحوار العام مع الآخرين ومع الجزء المعادي منهم، وتبرز في ذلك الجانب النفسي آثارُ الفصل العنصري والتمييز العرقي، وكيف يبدو التعاطف مع المتعرضين له كمن يمنح شيئاً نفيساً من التواضع يجمل به ذاته النرجسية، أو في جانب أخر كمن يعطي مكتسباً زائداً على الحاجة، وليس حقاً طبيعياً في المساواة الإنسانية. 

رواية "المحفل"، أو التجمع، وصلت إلى القائمة المختصرة لجائزة أورويل للرواية السياسية 2022، وكذلك القائمة المختصرة لجائزة Rathbones Folio 2022، كما فازت بجائزة "London Writers Awards" لعام 2019 في فئة النثر الأدبي.

وأجمع النقاد على أن السرد لدى ناتاشا براون يشتبك مع أسلوبي كل من فيرجينيا وولف وفرانز فانون في مسألتين: مع وولف في المونولوج الداخلي والمكابدة النفسية التي جسّدتها في التعبير الداخلي وصوت الأعماق عبر التداعي الحر، وخصوصاً مشهدية الحفل الذي شبّه باحتفال "السيدة دالواي". أما الأمر الثاني فلدى فرانز فانون، وهو الذي عُرِف بنضاله ضد الاستعمار ومقارعته التمييز العنصري، تبيان أن الشفاء منها لن يتم إلا بجلاء المستعمر النهائي.

في طرحها السؤال الوجودي: لمَ أعيش؟ هل تتصالح مع ذاتها وتشهر إلى العلن ما تحس به، أم تستمر في سلّم النجاح الوظيفي بكل الزيف وممالأة الأخرين، وبكل الدونية والاستلاب لتيار استهلاكي عام؟

إذ إن في ازدواجية الداخل والخارج في معتركها النفسي والواقع المادي المضاد، تقوم بتفكيك هذا المحيط، وتراه بكل عريه لتلتئم ذاتها وتلملم شتات نفسها. وفي المقابل، يتداعى جسدها ويتفتت في رسم تفككها بسبب ما تشعر به من الظلم في لحظته المعاصرة في بريطانيا الحديثة. 

و"فجأة في أقصى الشك"... هكذا تنهي العمل في أقصى الشك، وتترك التأويل للقارئ عما تزمع فعله في خضم ذلك الضجيج الذي يعتمل في أعماقها، بين الاندماج في تلك التركيبة، وبينها علاقتها الشخصية، التي على الرغم من القبول الظاهري لها من جانب المحيط، فإنها لا تمسّ إلا الحواف من سريرتها الداخلية. فهل تستمر في سلم الترقيات الباردة والصعود في الهرم الاجتماعي، أم تتصالح مع ذاتها وتترك كل شيء وراءها، كنهاية مفتوحة لقضيتها، مبقيةً إياها في دائرة الشك والرفض والسؤال.