سوسنة لحسب الشيخ جعفر: عن شاعر الحنين الدائم والتوتر الهادئ

لم يعتنِ بالضجيج ولا بالشهرة والمكاسب المادية. عاش ورحل درويشاً ناحتاً بعمق وهدوء في الثقافة العربيّة.. من هو حسب الشيخ جعفر؟

  • سوسنة لحسب الشيخ جعفر: عن شاعر الحنين الدائم والتوتر الهادئ
    حسب الشيخ جعفر

بهدوئه المعتاد، وعن عمرٍ ناهز الثمانين عاماً، غادر الشاعر والمترجم العراقيّ حسب الشيخ جعفر عالمَ المادّة بعد صراعٍ مع المرض. نعاه " الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق" ببيانٍ وصفه فيه بــ "صاحب التجربة المهمة"، و"الشاعر المبتكر"، و"الأديب الأصيل"، و"الإنسان النبيل"، مشيراً إلى أن رحيله "خسارة فادحة للأدب العربيّ". 

لا شكَّ أن الشعراء لا يعوّضون، ولا ينوب واحدهم عن الآخر، ولا شكَّ أيضاً أن الخسارة فادحة برحيل صاحب "رباعيّات العزلة الطيّبة"، البعيد من الصخب والعدسات والمتفرّد بنصّهِ وإحالاتهِ ومغامراتهِ الشعريّة حتّى عن مجايليه الذين عُرفوا في العراق بالشعراء الستينيين، نسبةً لعقد الستينيات من القرن الماضي، ولعلَّ هذه الإضاءةَ السريعةَ على سيرته وأثره، تجدُ مكانها سوسنةً على صورتهِ الغائبة، وتحيّةً لروحه التي ستبقى حيّةً في الشعر والذاكرة. 

عام 1942 وفي ناحية فقيرة تدعى هور السلام بمدينة العمارة جنوب العراق (محافظة ميسان) ولد حسب الشيخ جعفر، "أكواخ من القصب والبردي، والجاموس سابحاً في الغدران، والبقر نسوقه إلى الحقول والمواقد المتوهجة في الشتاء. الجوع، والبلهارسيا، والملاريا، وحماها تزورك كل ليلة"، هكذا يصف الشيخ جعفر طفولته في أحد حواراته النادرة. الطفولة التي أسّست لشخصيّة هادئة متوتّرة "كأنّها تقعُ في مكانٍ وسط بين انكسار السيّاب وغضب خليل حاوي"،بحسب تعبير الشاعر اللبناني شوقي بزيع، شخصيّة بنت عالماً شعريّاً كاملاً من الذكريات واختلاطها وتوالدها. 

شكّلت النوستالجيا الحسيّة المادّة الأولى لتجربةَ الشيخ جعفر في كلِّ مراحلها. 

مع بلوغه سنَّ الــ 18 وإتمامه دراسته الابتدائية والثانوية في ميسان، حصل على منحة من الحزب الشيوعي العراقيّ ليكمل دراساته العليا في "معهد  غوركي للآداب" في موسكو. هكذا دخلت تجربته في طور النضج متأثّرة بالشرخ الهائل الذي أحدثه الانتقال من طبيعة معزولة ريفيّة قاسية، إلى طبيعة لا تقلّ قسوة في موسكو، إلّا أنّها تتّسمُ بطابعٍ مدنيٍّ منظّمٍ وبارد. قضى حسب الشيخ جعفر سنواته في روسيا يحنُّ إلى العمارة وأهوارها وأكواخها ونسائها، ولم يلبث أن عاد بعد تخرّجه بدرجة ماجستير عام 1966 ليعين رئيساً للقسم الثقافي في "إذاعة بغداد"، كما عمل محرراً في "جريدة الثورة".

عاد ليصطدم بواقع أنّ كل شيء قد تغيّر، هنا دخل في طور معاكس من الحنين إلى أيام دراسته طالباً أجنبيّاً في موسكو، وهكذا يمكن أن نلاحظ أن النوستالجيا الحسيّة شكّلت المادّة الأولى لتجربةَ الشيخ جعفر في كلِّ مراحلها. 

يصف الشيخ جعفر شيئاً من حياته كطفل في مسقط رأسه بالقول: "أكواخ من القصب والبردي، والجاموس سابحاً في الغدران، والبقر نسوقه إلى الحقول والمواقد المتوهجة في الشتاء. الجوع، والبلهارسيا، والملاريا، وحماها تزورك كل ليلة".

بين غوركي والأهوار وبين العمارة وموسكو، اكتسبت شخصيّة حسب الشيخ جعفر وتجربته الشعريّة سمات فريدة، فبينما كانت شيوعيّة الشاعر المصريّ أمل دنقل تتمظهر في مواقف حادّة وصراحة استعراضيّة فجّةٍ أحياناً حسب وصف زوجته عبلة الرويني، يبدو أن شيوعية حسب الشيخ جعفر كانت أكثر هدوءاً وانطواءً، فبقدر ما كان مؤدلجاً في تلك المرحلة بقدر ما كان صموتاً، وبنبرته الشعرية الخافتة ولغته الحسيّةِ الساخنة وصوره المتلاحقة الحيّة، كان يبدو شاعر حياة أكثر من كونه شاعر قضيّةٍ وثورات.

وفيما تحرّك مجايلوه لتجاوز أبيهم الروحي بدر شاكر السيّاب باتجاه نصٍّ أكثر تأثّراً واستغراقاً بروح الغرب وقصيدته ومدينته وضجيجه وقلقه العبثيّ، اتجه حسب الشيخ جعفر إلى الإرث الثقافيّ الماركسي، المدينة والمرأة والشاعر والقيم الإجتماعيّة المفارقة للنموذج الغربي. 

من هنا، وقبل أن نحاور شخصيّة الشاعر ونحاول فكَّ ألغازها وسبر أغوارها، نطلُّ على شخصية حسب الشيخ جعفر المترجم، الذي أدخل إلى الثقافة العربية لأول مرّة تجارب شعريّة روسيّة هامّة ابتداءً من ألكسندر بوشكين وألكسندر بلوك وسيرغي يسينين وفلاديمير ماياكوفسكي وآنا أخماتوفا وانتهاء برسول حمزاتوف، خصوصاً أن جهد صاحب "نخلة الله" لم يقتصر على ترجمة الشعر، بل قدم لكل شاعر بدراسة معمّقة ترسم صورة زمنه ومعالم شخصيته من حياته وشعره، الأمر الذي يجعلنا أمام جهد كبير لم يسبقه إليه أحد، ولأنه لم يترجم إلّا من أحبَّ من الشعراء، فقد أتت ترجماته بلغة شعرية عالية وإلمام واسع بمناخات هؤلاء الشعراء وأمزجتهم. 

أمّا حسب الشيخ جعفر الشاعر فيصفه الناقد والشاعر العراقي علي جعفر العلاق بأنه: "شاعر من طراز خاصّ، ترك آثاراً عميقة في تربتنا الشعرية العراقية والعربية. كان يصنع من طينتها الحارة عالماً شعرياً يشهد له بالفرادة دائماً". 

الفرادة التي صبغت تجربة الشاعر الراحل امتدّت إلى كلِّ جوانبها. فقد حضر التجريب الإيقاعيّ في معظمِ قصائده، وبلغ ذروته في ديوانه "الطائر الخشبيّ" الذي امتلأ بمحاولات جريئة لكسر رتابة الإيقاع التفعيليّ، إن كان من خلال تقنية "التدوير" التي يعدُّ الراحل أحد أبرز روّادها في القصيدة العربيّة الحديثة، أو من خلال القفزات الإيقاعيّة المحترفة بين بحر عروضيٍّ وآخر في القصيدة نفسها والمناورة البارعة بين إشباع القافية وتهميشها في جسد النص، ما أكسب شعره تماوجاً أخّاذاً وثراءً إيقاعيّاً مبهراً، ينبغي الوقوف أمامه طويلاً بوصفه امتداداً نموذجيّاً لشغف السيّاب بالإيقاع وأسراره المطويّة. 

لاحقاً عاد الشيخ جعفر إلى الغنائيات وإيقاعاتها، واستفاد من شكل "السونيتات" وجرسها الموسيقيِّ العالي لتوافقها أكثر ربّما مع الشكل السّرديّ الذي اتّخذته تجاربه الشعريّة المتأخّرة. 

عاش حسب الشيخ جعفر صامتاً وبعيداً معظم حياته، لم يعتنِ بالضجيج ولا بالشهرة ولا بما يمكن أن تجلب له موهبتهُ وثراؤه الفكري من مكاسب مادية. عاش درويشاً منشغلاً تماماً بقصيدتهِ وعالمه، فنحتَ بعمقٍ وهدوء في الثقافة العربيّة.

على صعيد الأبعادِ الثقافيّة لقصيدة الشيخ جعفر، يتحدّث الناقد العراقيّ حاتم الصكر عن "تمازج الثقافات من دون عقدة أو شعور بالنقص أو الخوف من المثاقفة مع الآخر، من خلال التعرف على أدبه وثقافته وحضارته، والنهل منها لتعميق التجربة الشعرية، ونقلها إلى العربية لتعميق مجرى الشعرية العربية وضخها بروافد جديدة. والسفر الحر عبر الأزمنة والأمكنة امتداداً من اعتقاده بالمواطنة الإنسانية، والعيش في أزمنة متعددة، والعودة من تلك الأسفار إلى بؤر مكانية وزمانية، لها في ذاكرته أثرها الراسخ، هي في الأغلب طفولته وصباه في قرى على حافة الأهوار في  مدينة العمارة جنوب العراق". 

وهنا تجدر الإشارة إلى أن حسب الشيخ جعفر تماهى مع شعراء الستينيات باستبدال الأسطورة التموزية التي تشير إلى الانبعاث بعد الموت كما عمّمها السيّاب، بأسطورة أخرى هي الأورفية (نسبة لأورفيوس في الأسطورة الإغريقيّة) حيث يعود أورفيوس من جحيم العالم السفلي بحبيبته الميتة يوريديس، لكنه ينظر إليها قبل خروجه، خلافاً لشرط الآلهة، فتختفي عائدة إلى عالم الموتى، فيتملكه الحزن ويحس بالخذلان، ويتحول غناؤه وعزفه الساحران نشيجاً وأسفاً أبديّاً.

يرى الناقد والشاعر المغربي بنعيسى بوحمالة أن هذه هي "خلاصة رؤية حسب الشيخ جعفر والستينيين. فرمزهم الأورفي لا يعود منتصراً كتموز بل مهزوماً. وفي حالة حسب الشعرية تتعمق الهزيمة واللاجدوى والاستحالة، فيتيقن بأنه لا مصير لقصيدته إلا في متاهات الفقد والغياب والاستحالة". 

عاش حسب الشيخ جعفر صامتاً وبعيداً معظم حياته، لم يعتنِ بالضجيج ولا بالشهرة ولا بما يمكن أن تجلب له موهبتهُ وثراؤه الفكري من مكاسب مادية. عاش درويشاً منشغلاً تماماً بقصيدتهِ وعالمه، فنحتَ بعمقٍ وهدوء في الثقافة العربيّة، وربّما لم تحظَ تجاربه الشعريّة والروائية المتأخرة بقراءات نقديّة وافية، وربّما تضافر زمنهُ وعزلتهُ على ظلمهِ وتهميشه طويلاً، برحيله تطوى صفحة من الشعر العراقي العظيم وتنفتح نوافذ كثيرة على آفاق ساحرة تركها لنا هذا العملاق. 

ولتكن خاتمة هذه الرحلة مع مختارات من قصائد حسب الشيخ جعفر أو طقوسه في الخلود:
 

من أوّل الليلِ إلى آخرهِ 

أقرأُ أو أكتبُ أو أُعيد 

ما كنتُ قد كتبْتُهُ 

مُصحِّحاً، مُنقِّحاً. 

سيّدتي، آنستي. 

ولا أقولُ: يا أخي القارئَ، يا شبيهي

كما اسْتَهلَّ الشاعرُ الرجيم 

ديوانَهُ اليتيم. 

وكلُّ ما أوَدُّ أن أكتُبَهُ 

عن شاعرٍ أحَبَّ، في غرفتِها، صبيّةً روسيّةً 

حسناءَ، بل جنيّةً لا تعرفُ 

الخيرَ مِنَ الشرِّ مِنَ الضحكِ 

مِنَ البُكاء. 

شيءٌ فريدٌ لا يُرى، يُبهِجُها:

الرقصُ على الحبال. 

أينَ هيَ الآن؟ وأينَ الرقصُ والغِناء؟ 

والكأسُ والهناء؟ 

أهيَ ظلالٌ ترتمي على ظلال؟

الصائدة

في الليلِ، تحتَ ثلوجِ موسكو 

يَخطُو إلى (الميعادِ) عند السينما. 

الفلمُ: قِيلَ لها: مُملٌّ كالخريف. 

لكنّني أهوى الخريف 

مُتَلبِّداً بِغيومهِ أو مُمطرا. 

في (محفِلِ) المقهى؟ لقد كُنّا هناك البارحة. 

لم يبقَ إلّا المطعمُ الألِقُ، البهيج. 

لكنّني لا أستطيبُ الرقصَ إلّا هادئا 

واليومَ أمسى الرقصُ قَصفاً وارتعادا. 

فإذا بها في المِعطَفِ الضافي، الطويل. 

- اليومَ عادَ إليَّ بَعلي 

ولَكَم ألَحّا 

مُتَضرِّعاً، مُتَندِّما 

مُتَوسِّلاً، مُتَهدِّما 

حتى ارتَضَيتْ. 

والآن دَعْ عنكَ التَجَهُّمَ والكَدَر 

هو ذا القَدَرْ. 

دعْنا نُسدّدْ حَظّنا في صَيدِ ثور، 

في القَبوِ، في المرمى الأنيس 

في سينما أُخرى قريبة.

أربع رباعيات

- 2 - 

أنا لا أقول: هي المُبَشّرةُ الحمامة 

وأنا ابن نوح أو أنا الملّاح نوح 

لا البَحرُ يُومِئُ للسفينةِ بالسلامة 

لا الريحُ بالنُعمى توافي أو تَروح! 

- 3 -

ما هَزّني شوقاً إلَيكِ أنين عود 

أو سَجْعُ شَاديةٍ، مُغَنّيةٍ طَروب 

أو نَفْحُ أنفاسِ الخُزامى والورود: 

بل هَزّني الشَفَقُ المُخَضَّبُ في الغروب 

- 4 -

أنا لم أعُدْ أدري: الشروقَ مِن الغروب. 

قالوا: فَدَعْ، يا شَيخَنا، الكأس الشَقيّة 

ما افتَضَّ مِثلُكَ مِثلَها ثَكلى طَروب! 

قُلتُ: اسكُتوا. هَل في الزُجاجة مِن بَقيّة؟ 

- 5 -

الليلُ ساجٍ، والديوكُ بِلا حَراك 

والريحُ تَعْبى كالتَأَوّه، كالأنين. 

مَن أيقظ القَلبَ الوحيدَ، ولم يَنَمْ 

إلّا دَقائِقَ، بَل ثَوانيَ، منذُ حين؟