"غرفة يعقوب": تأريخٌ فنيّ للحياة في بريطانيا

كان الهواء خاملاً في غرفة يعقوب الفارغة، ولم يفعل الهواء سوى تحريك الستائر فبدت متورمة.

  • رواية
    رواية "غرفة يعقوب"للكاتبة فيرجينيا وولف.

يبدو دور الفنّ أزلياً في بحثه عن عالم بديل، وجعلهِ الواقعَ عملة الروائي الأثيرة. ولربما كان التغيير في عرض السرديات عائداً إلى رغبة في الاستمرار، فكان تجريب بعض الروائيين لتقنيات تقلب ما راج في زمنهم بدايةً لخطوط وجدت مكانها في الكتابة. وهو ما يجمع عليه النقاد والدارسون فيما يخص رواية "غرفة يعقوب" للكاتبة البريطانية فيرجينيا وولف (1882-1941). نُشِرت الرواية عام 1922 ونقلت إلى العربية عبر جهات نشر متعددة في العالم العربي، وصدرت مؤخراً بترجمة جديدة للدكتور باسل المسالمة (دار التكوين 2022) لتؤكد خلود العمل الفنيّ، وتجاوز جمالياته إطاره الزمنيّ. 

تأتي أهمية العمل لدوره في الانقلاب على الأنماط الروائية السائدة، واعتماده على خلق ما هو مضادّ للسرد الفيكتوري والميل إلى الحداثي، وهو ما تجلى عبر ما سُمّيَ تأسيساً لتيار الوعي بالكتابة وأساليبها ووظيفتها. 

تبدأ الرواية على الشاطئ حيث تقف إليزابيث الأرملة تلاحق أطفالها بينما تظهر حرصاً على كتمان رسائلها للكابتن بارفوت، تلك المراسلات التي خلّصتها مما تعانيه من كآبة ووحدة. نرى يعقوب في البداية طفلاً يعيش في بلدة سكاربورو الساحلية مع أمه بيتي وشقيقيهِ، إلا أن الأم تضطر لنقل عائلتها إلى كورونوال في أعقاب وفاة الأب، وهناك تتلقى زيارات الكابتن بارفوت في إشارة إلى علاقة رومانسية ملتبسة وغامضة. ذلك أن جميع من يسكن كورونوال يحدث بسرية العلاقة الغزلية بين الأم والكابتن. 

يتاح ليعقوب على الرغم من قلة المال والحال الاجتماعية المتوسطة دخول جامعة كامبريدج،  ويتابع اهتمامه في التعلم الذاتيّ والسفر. إذ تقفز الرواية بالأحداث إلى العام 1906 حيث يستمرّ يعقوب في دراسة الأدب ويلتقي برفيقيه تيموثي دورانت وريتشارد بونامي، وعلى الرغم من انتمائهما إلى عائلات ثرية، إلا أن يعقوب الأكثر ريفية من الجميع يصير الشخصية الأكثر جدلاً وجذباً للآخرين. 

  • الكاتبة البريطانية فرجينيا وولف.
    الكاتبة البريطانية فرجينيا وولف.

"هكذا نعيش كما يقولون، مدفوعين بقوة غير مرئية. ويقولون إن الروائيين لا يمكنهم الحصول عليها، وإنها تذهب مندفعة من خلال شباكهم وتتركهم ممزقين إلى شرائط. وهذا، كما يقولون، هو ما نعيش فيه، بهذه القوة غير المرئية". تسيطر على أسلوب وولف حالة خاصة في الكتابة، كما لو أننا نلمس بين السطور ذاك الماء الذي أنهت فيه حياتها. فالغموض والالتباس لغة الماء، والعمق أداتها للغرق في أدق التفاصيل التي عكست شكل الحياة في بريطانيا آنذاك. ولا عجب من تلك الحرب الخفية التي شنّها عليها روائيون معروفون مثل آرنولد بينيت، إذ أطلق صيحة يستنكر فيها أسلوب وولف متسائلاً " هل يا ترى تحتاج الرواية إلى التحليل؟". يبدو الخلاف علنياً، ذلك أن وولف تعمد عبر أجزاء قصتها بهجوم شبه طريف على ما دُعي بروائيي العصر الفيكتوري فتقول: "لكن ما الذي يدفع يعقوب لقراءة شعر مارلو في المتحف البريطاني؟ إنها روح الشباب، أجل الشباب. إنها شيء متوحش، شيء متحذلق. فعلى سبيل المثال، هناك السيد ماسفيلد، وهناك السيد بينيت. ادفع بهما إلى لهيب مارلو واحرقهما رماداً. لا تدع جزءاً منهما يبقى، ولا تتهاون مع الفئة الثانية. امقت عصركَ، وقم ببناء عصرٍ أفضل". 

يتخرجُ يعقوب من كامبريدج وينتقل إلى لندن، وهناك يتحول إلى رجل فاتر وفاتن. يرفض ممارسة مهنة ثابتة، ويعيش بلا أدنى حافزٍ. بل يتابع دراسته بشكل مستقل، ويدفن نفسه في قراءاته وتحليلاته داخل المتحف. تفتنهُ أحداث الماضي، وتشبكه الفلسفة بالشغف والرغبة بالبحث، لكننا سرعان ما نرى تطوراً بينه وبين الفتاة فلوريندا، وعلى الرغم من انتمائهما إلى عالمين مختلفين، تنشأ بينهما علاقة رومانسية، ويدفع مزاج الفتاة الاندفاعي وشخصيتها المتحررة إلى علاقة جنسية بينهما. وهنا يجدر بنا الحديث عن أسلوب وولف في عرض بطل القصة. ذلك أننا لا نراه إلا نادراً، وعلى الرغم من تركيز الرواية على يعقوب إلا أننا نقرأه بعيون الآخرين وأحوالهم وشخصياتهم، وهنا تكمن براعتها في الكتابة، وفي اختيارها تقنية فريدة من نوعها؛ أن نكتب عبر الآخرين. ونحن عبر الفتاة فلوريندا، نكتشف بأنها ليست الفتاة الوحيدة في حياة بطلنا الصامت، فهي إلى جانب أخت صديقه كلارا دورانت والشابة فاني إلمر مفتونون به كما الجميع، رجالاً ونساءً.

تلاحق كارلا يعقوب، تنتقل إلى لندن، وتحاول عبثاً التقرب إليه، فيما تتحايل فاني إلمر عبر قراءة كتبه المفضلة. إلا أن يعقوب يبدو في عالمٍ بعيد، وغير راغبٍ إلا في المغادرة والقيام في جولة عبر أوروبا. يتجه إلى اليونان بعد أن نال السأم منه، ويدرس الأدب اليوناني ويعجب بحضارته القديمة. هناك نقرأ يعقوب من زاوية مختلفة تظهر عبر رسائله لصديقه بونامي، ونلمس حساً فنياً عالياً في التعبير عن جماليات المكان، إلا أنه في الوقت ذاته، يبدو مشتّتاً من جراء العزلة، لتظهر ساندرا ويليامز، المرأة الجميلة المتزوجة، وتوقعه فريسة الإلهاء والإحباط. يعاين يعقوب هنا مشاعر الحب كما لم يعاينها من قبل. تظهر الأخلاق نقطة ضعفه الكبيرة، إذ يفضل عدم الوصول إلى أكثر النساء قرباً إلى قلبه، وتلك كانت ذروة الصراع في شخصية يعقوب وأكثرها وضوحاً إلى القارئ، ذلك أننا وعبر قراءتنا سيرة حياته نكتشف رفضه الانجذاب لما هو بعيد عن مناله. لذا يعود إلى لندن، ويستغرق في عالمه الداخلي، حزيناً على فقد ساندرا، وهائماً بين عواطفه المتضاربة. لكن الحرب العالمية تندلع، ويختفي يعقوب تاركاً غرفته بما فيها من رسائل وأوراق وكأنه أراد أن يترك للآخرين سيرة حياته، وكأن وولف أرادت عبرهُ رصد سيرة ذاتية لم تكن فردية وحسب، بل تعدت الأمر لتكون سيرة مجتمعية أرخت للحياة بعمل فني رفيع. 

"كان الهواء خاملاً في غرفة يعقوب الفارغة، ولم يفعل الهواء سوى تحريك الستائر فبدت متورمة. تحركت الأزهار في الجرة، وأحد الألياف في الكرسيّ الخشن أصدر صريراً، على الرغم من عدم وجود أحد يجلس هناك".