فك رزمة الذكريات

وددت لو أوضحت له أن الذكرى مثلنا، تتكرر هي الأخرى ثم تموت.

  • أخاف أن تتبدد في البحر أو تقرر العبور إلى الجهة المقابلة
    أخاف أن تتبدد في البحر أو تقرر العبور إلى الجهة المقابلة

بدأت الحكاية بالخطيئة الأولى، وهكذا بالضبط آن لحكايتي أن تبدأ. ربما كنا كائنات أبسط مما نعتقد، نكرر الأشياء ثم نموت. لكل منا خطيئته تلك التي تخرجه من عالم وتزج به في عالم آخر. بالنسبة لي، كانت خطيئتي الهرب. لا أعتقد أنني في أي وقت سابق كنت أتخيل نفسي هاربة، لكن الحياة تدفعك في منحنيات لا علم لك بها، فإما أن تتكيّف وإما يُقضى عليك، كما تحدثت الداروينية. أنت تختار، كما في الخطيئة الأولى، أن تُنصت إلى الشيطان، أو أن تكون الشيطان. وفي كلتا الحالتين أنت تخرج من الجنة وتضيع في أرض الله. 

ضعت في فيينا إلى أن وجدتني. أعيد ترتيب الأحداث من البداية، ويصعب علي أن أؤمن بأن لقاءنا ذاك كان محض مصادفة عابرة، أو قصة ليست ذات أهمية سأتخطاها بعد أحداث أكثر تشويقاً. لقد قطعت كل تلك المسافة، من الخطيئة الأولى إلى اللحظة، ومن وراء المتوسط إلى هنا. لا بد أن يعني الأمر شيئاً، بل يتحتم عليه ذلك، طبقاً لقانون كوني ما، يحتّم أن يكون للأشياء كافة معنى. 

أخاف أن تتبدد في البحر أو تقرر العبور إلى الجهة المقابلة، جهة النسيان حيث صفوف المدرسة، وأيام البرد، وبيوت الطفولة، وعهد الأصدقاء وأمسيات الأحد البائسة، وتمارين الرياضيات المعقدة، وأناشيد دار الشباب الحماسية، وأحلام يقظة رحلة سفر طويل. فأخبرك أنني سأحتفظ بذكراك ليوم سيئ.

ربما كانت كل أيامي سيئة بعدها، إذ لم تكد ذكراك تفارق ذهني، شأنها شأن فكرة مكررة، تظهر ثم تختفي. تزورني كل مرة بألوان مختلفة، وديكورات مختلفة، وأحاسيس مختلفة، وأبعاد مختلفة. مرة أحاول بصعوبة فتح عينَي الناعستين ونحن نتناول الفطور، ومرة أخرى، أحاول بشكل عبثي أن أخلق لحناً متوازناً على بيانو المطعم، أنا التي لم تلمس قط مفاتيح البيانو في حياتها. 

هكذا، تتضارب الأحداث في عقلي، وتصبح الذكرى شبيهة بملف بحث طالب دكتوراه، يسمّيه اسماً جديداً كلما صنع نسخة جديدة، أو كلما أوصاه المشرف بتعديل ما، فينتهي الأمر بالباحث مع عشرات الملفات على حاسوبه، خلقت كلها من نص واحد وحيد. ولأنه مصاب بالوسواس القهري، فإنه لا يستطيع أن يحذف أياً منها، إلا بعد حصوله على الدكتوراه. 

وددت لو أوضحت له أن الذكرى مثلنا، تتكرر هي الأخرى ثم تموت، وأنه في عشية يوم أحد دافئ، حين أحاول إخراج الكيكة من الفرن، سأشعر فجأة بحزن بسيط، غير مبرر، وسيستمر إلى صبيحة الإثنين، وفي استراحة الصبح حين أودّ أن أسترد ذكراك، لن أستطيع. وستعود غريباً من جديد. وستنتهي الحكاية إلى ما قبل الخطيئة الأولى، إلى النعمة الأولى: الجهل.