فيلم "قدحة": إثنوغرافيا الهشاشة الاجتماعية في تونس

يلخّص مشكلات الطبقات الاجتماعية المهمشة في تونس.. ماذا يقول مخرج فيلم "قدحة" عن أبطاله ورسالته؟

يلخّص فيلم "قدحة، حياة ثانية"، للمخرج أنيس الأسود، مشاكل الطبقات الاجتماعية المّهمشة في تونس، كما يشير إلى تصدّع بعض ثوابتها القِيَمية والأسرية. نال الفيلم نحو 17 جائزة في مهرجانات سينمائية دولية، منها جائزة "أحسن فيلم" في "مهرجان القدس للسينما"، بالإضافة إلى جوائز أخرى خلال مشاركاته في مهرجانات القاهرة وكندا وألمانيا و"سيلكون فالي" السينمائي. 

وعُرِف المخرج أنيس الأسود طيلة مسيرته السينمائية، التي تمتدّ لـ15 عاماً، بتناوله المواضيع الاجتماعية التي تسلّط الضوء على تطلّعات الطبقات الدنيا في المجتمع التونسي، والوجوه العميقة لمعاناتهم. ولم يخرج فيلمه الأخير من هذا الإطار، حيث جاء صورة واقعية عن حياة صعبة في واقع  شديد القسوة؟

هل السينما إعادةُ إنتاج للواقع؟

في سياق حديثه عن العلاقة بين السينما والواقع، يشير المخرج جان لوك غودار إلى مسألة تخزين هذا الواقع وإعادة إنتاجه، عبر عدّة مراحل أهمّها النسيان، ثم التذكّر، لنصل إلى الحقيقة. وهو يُفرّق في هذا المجال بين السينما كأداةِ تسجيلٍ لأحداثٍ حصلت، وبين كونها أداةً طيّعةً لخلق فنٍّ فُرجويٍّ يستند إلى ركائز مشهدية مُعاشة، ويتمّ هذا التمشّي عبر تطوير الخطاب السينمائي إلى شكلٍ أكثرَ بساطة وعفوية. لكن وراء الكاميرا عمل جماعي يفوق مجرد رصد الشخصيات والوقائع التي قد تحدث في أي مكان، بصرف النظر عن هوية أصحابها، ومتخطّياً الحدود الجغرافية بحثاً عن حدود نفسية وذهنية متشابهة في وضعياتٍ إنسانيةٍ أخرى، وهو الحقل الذي يوحّد المشترَك الإنساني بين هذه الفئات. 

بينما يرى جيل دولوز أنّ هناك خصائص تَسِم السينما الاجتماعية، منها تعرية العلاقات بين المكونات الطبقية، كعلاقات الاستغلال، واستخلاص جملة من البيانات التي تصلح كعلاماتٍ تشمل الشرائح الضعيفة داخل النسيج المجتمعي، وكذلك الاستدلال بالجانب العام في الذاكرة الجَمعية، والعمل على مساءلتها، وهو ما يمكن أن نُدرِجه ضمن شريط "قدحة، حياة ثانية"، حيث قام هذا العمل الفني على جملة من المظاهر الفُرجويّة المُستَمَدَّة من المعيش اليومي، والتي تبرهن على الانتماء الطبقي للعائلتين اللتين تمثّلان نواة الصراع في العمل، وتبرزان من خلال جملة الأعمال والأقوال التي تحرّك الأحداث التنافر في الخلفية الطبقية في تونس.

ولعلّ الملصق الدعائي للشريط يُشكّل أداة طيّعة لفهم طبيعة هذا التباين، بين الهدف المنشود والظروف المحيطة به.

بين قوس الرماية والهدف المنشود 

نشاهد في الملصق الدعائي للفيلم طفلاً يصوّب قوسه نحو هدفٍ ما. لم يكن الهدف واضحاً، لكنَّ الملامح المنحوتة للطفل "قدحة"، أو رؤوف، وسمرته ونحافته، تثير جميعها في المشاهد الفضول نحو ثيمة الفيلم، وبالتالي تجعل البصر مصوَّباً إليه. 

ذكر السينمائي الفرنسي هنري لانغوا أنّ الفيلم لا يفرض نفسه على الجمهور مباشرةً، لكنّه يحتاج إلى الدعاية للكشف عنه، وأحد عناصر الدعاية الرئيسة هو الملصق الإعلاني. إنّها مهمة صعبة للغاية أن يتمّ تجسيد موضوعِ فيلمٍ يدوم ساعةً ونصف الساعة على ورقةٍ تبلغ مساحتها بضعة سنتيمترات مربعة. يجب أن يكون ملصق السينما مفهوماً من قِبل الجميع، وأن يكون موحياً بتركيب مبسَّط للموضوع، يشكّل عنصر جذب وإمتاع للعين، ويشغل أكبر قدر ممكن من المساحة التي تلفت الأنظار. 

وإذا رجعنا في إلى الملصق الإعلاني لفيلم "قدحة، حياة ثانية"، نجد طفلاً يصوّب نظره نحو الهجرة غير الشرعية، على الرغم من أنّ الارتقاء الاجتماعي من القاع إلى وضعية أقل قسوة كان هدفاً عائلياً مخطَّطاً له من طرف والدته، إلّا أنّ المال وسيلة فقط للانتقال المكاني والتواصل الوجداني مع الأب، الذي رحل بدوره في غموض تام عبر مركب صيد، في هجرة نحو التخوم الأخرى للمتوسط، وعلى الرغم كذلك من أنّ ياسين الترمسي، وهو الاسم الحقيقي لبطل الشريط، يحاكي بصورة تكاد تشبه النسخ واقعه الاجتماعي والعائلي في الحياة، إلّا أنّه يراكم لدى المتفرج أسئلة كبيرة حول السينما الواقعية، منها السؤال عن كون الأبطال حقيقيون فعلاً ولا حاجة لهم إلى التمثيل، بل كل ما يحتاجونه هو فتح كوة أمامنا نحو واقعهم كما هو، ومن دون "رتوش"؟

تُعرف السينما الواقعية الجديدة بأنّها تمتاز بكونها تستمدّ شرعية قوتها الجمالية من الإقناع، وهي بذلك تسحب أبطالاً من الواقع بشخصياتهم الحقيقية، وليس بالضرورة أن يكون أبطال الفيلم نجوماً أو وجوهاً سينمائية مشهورة، لكن أشخاصاً طبيعيين في بساطتهم وانفعالاتهم، يعبّرون بصدقٍ عن معاناتهم ومشاغلهم، وقد تكون طموحاتهم صغيرة وضئيلة بالمقارنة مع الطبقات الأكثر رفاهية، بالإضافة إلى أنّهم ليسوا أبطالاً لهم خاتمة متوّجة بالنصر، بل يكون الفشل في أغلب الأوقات حليفاً ملازماً لهم، وهذا يتطلّب عمل المخرج على اللغة السينمائية، من أجل إقناع الجمهور بأنّه يتحرّك على أرضية واقعية صلبة، ومفتوحة على الاحتمالات كلها، لأنّها كما الحياة، تخفي وتظهر من الوقائع والتبريرات ما تشاء، وفي الوقت الذي تريد فيه ذلك.

حوارات تعكس جسداً مبتوراً

يبدو "قدحة"، بطل الفيلم، الذي يحمل هذا اللقب الشعبي الذي يُكنّى به من يتمتّع بالنبوغ والاندفاع، منسجماً مع محيطه الاجتماعي القديم، فهو يتماهى مع رفاقه الصغار في العبث واللهو في البحر، وفي المقهى، ويرفض التعليم الأجنبي المدفوع الأجر لأنّه يلامس النخبة التي لا يعرفها. فهو طفل جاء من المدرسة الشعبية بهنّات التعليم العمومي المجاني، وما يلفظه من تلاميذ شبه أميين، كما تعكس شخصية هؤلاء براءة كبيرة، ممّا يدفع المشاهد إلى التشكيك في فرضية أنّ هؤلاء، ومنهم "قدحة"، يحملون مأساتهم كامل الوقت. 

ومع أنّ الحوار بين الأطفال جميعاً، وقد انضمّ إليهم زكريا المترَف، لا يعترف بالفوارق الطبقية، لكنه يفسح المجال لعالم أكثر رحابة هو الطفولة، لذلك جاءت افتتاحية الفيلم بقول جبران خليل جبران إن الأبناء هم أبناء الحياة.

رمزية الماء والمرآة في الفيلم 

  • المخرج أنيس الأسود
    المخرج أنيس الأسود

على الرغم من أنّ الفيلم يتطرّق إلى موضوع التبرّع بالأعضاء، إلّا أنّه ينفتح على مشاكل أعمق بكثير، منها تهافت نظرية الدولة العادلة بين الجهات وبين البشر، وتمثَّل الحل بالنسبة إلى أم تعاني الهجران والفقر في أن تتبرّع بكلية ابنها، ليحيا الكل حياة كريمة. ومع أنّ العائلة التي تلقّت الكلية تنظر نظرة امتنان التي نلاحظها إلى المتبرعين، إلّا أنّها تبقى محافظة على التراتبية الاجتماعية في علاقتها معهم. هناك علاقة نفعية واضحة، تُجمّلها نظرة إنسانية عطوف، لكنّها ليست مستعدّة للمساواة التامة في التعامل مع جميع الأطفال، ونلاحظ ذلك في لحظة الغطس في حوض السباحة، حيث يقول "قدحة" لرفيقه إنّه هو أيضاً لديه جرح، وينكشف هذا اللغز له حين يتفاجأ بإجابة الأم المقتضبة، التي توضح له بأنّ كلَّ ما هم فيه نتيجة بيع كليته إلى هؤلاء المتفوقين مالياً. فكيف وظّف المخرج أنيس الأسود رمزية الماء في الفيلم؟

يرى الناقد السينمائي الفرنسي، كريستيان ميتز، أنّ كلّاً من الفوتوغرافيا والسينما تعتمدان على شيفرات بصرية وموسيقية وشفهية، يتعيّن على المشاهد فكّها حتى يتمكّن من فهم المعنى، وبالتالي فهو يُسقط أفكاره على ما يشاهده. فالواقعية ليست نافذة على الواقع، لكنّها مرآة يرى فيها المتفرّج نفسه. وانطلاقاً من هذا التعريف، يمكن أن نسلّط الضوء على العلاقة بين المشترَك النفسي والانفعالي، أي بين المشاهد والممثل. تبدو علاقة "قدحة" بالماء وبالحلم وبالمرآة غير بعيدة عن التفسير النفسي السائد في التحليلات، التي يزخر بها علم النفس ومدارس التحليل السوسيو سيكولوجي للسمات المشتركة بين البشر في وضعيات مشابهة، فالمحلل النفسي غاستون باشلار ربط المياه العميقة والمظلمة بالفناء والموت، وتلك الصافية بالنضارة والجمال، وذهب فرويد إلى إيجاد علاقة بين الماء والحالة الجنينية الأولى للبشر، وهو ما نلاحظه في الفيلم، فالماء مصدر اكتشاف ومتعة، بينما المرآة تُعرّي وتكشف الحقيقة والعواطف الكامنة في أعماق العين.

وقد طرحت "الميادين الثقافية" على المخرج أنيس الأسود الأسئلة التالية حول فيلمه: 

كيف بلورتَ شخصيات هذا الفيلم؟ وما هي وظيفة الكاميرا في إظهار هذا الموضوع الشائك الذي عبّر عنه الأطفال ؟

لا شكّ في أنّ الممثلين هم صُنّاع الفيلم، وهؤلاء الأطفال هم روح هذا العمل الفني. ولا بُدّ من الإشارة إلى أنّ الاميرا لغة يمكن التخاطب بها، وهي أقوى من الكلام المكوَّن من حروف، لأنّ لها معجماً بصرياً مختلفاً، ومن جهة ثانية نعلم جميعاً أنّ المخرج يلعب جميع الشخصيات التي يكتشفها خلال إجراء الـ"كاستينغ"، وتتبلور من خلال المكياج والأزياء والديكورات، وتتطور خلال التصوير. فالمخرج يَهِب جزءاً منه لكل شخصية لأنّه يتصورها في مرحلة ذهنية سابقة، ثم يعمل لاحقاً على تجسيدها في إطار عمل جماعي متكامل.

قدحة"، الشخصية المحورية في العمل، صورة تفضح ما يحدث داخل مجتمعٍ يتغيّر بما يحمله من قسوة وخيبات وانتظارات، فهل هذا ممكن فنياً؟

بالموازاة مع اكتشاف البطل لخفايا مأساته العائلية، يرافقه المُشاهد الذي يعرف أننا نرسم، بطريقة ما، معاناةً ليست شخصيةً، كما توحي بذلك القراءة السطحية للفيلم، وأظن أنّ الثورة التي حدثت في تونس هدّدت الطفولة بطريقة ما، وأربكت المشهد الاجتماعي، كما أربكت الهجرة السرية مسارات عائلات بأكملها، وهدّدت مصائر أفرادها، فـ"الحرقة" أو الهجرة السرية باللهجة التونسية، بعيداً عن الصبغة التوثيقية للعمل الإعلامي، تعبّر عن جانب إنساني موغل في الألم، وتُظهر عذاب هذه الطفولة التي كانت نتاج علاقات منكسرة ومهدَّدة بالتصدّع، بسبب الفقر وسوء المعاملة. وكما تلاحظين، كانت علاقة "قدحة" بالبحر مفتاحاً لفهم بحرٍ أكثرَ توحّشاً تجاه الأجساد.

وكما تلاحظين أيضاً، فإنّ علاقة "قدحة" برفاقه تُظهر بعمقٍ جذوره الاجتماعية وهويته. على الرغم من أنّ الطفولة لا تعترف بتصنيفات الكهول الرسمية، إلّا أنّ الفيلم يُظهر لنا كم يساوي ثمن الحياة، وهل التضحية أبدية، وكم يكلّف هذا الجميع، بما في ذلك الطبقات الفقيرة وتلك الغنية. يخلو الفيلم من خطابات أيديولوجية وكليشيهات، لكنّه يصوّر العالم بعيون طفل كان يحاول جاهداً أن يتأقلم مع واقعه الجديد، على الرغم من أنّه بقي مشدوداً إلى عالمه القديم. 

الفيلم، كما هي ميزة السينما عموماً، مرآة الشعوب، وهو يقوم بوظيفة الإبصار. كيف يحدد فيلمك مسارات الفهم لدى المتفرج؟

كنت وفياً للسينما الإيطالية الواقعية، التي تجلب الممثل من محيطه ولا تعتمد على الكادرات المغلقة، وتلقي الضوء على الفئات المقهورة. وهنا نعود إلى فيلم "سارق الدراجة"، وهو فيلم مرجع، وقد لاحظتُ في شخصية ياسين الترمسي هشاشة وغربة، وسمات فيزيولوجية تتطابق مع ما أبحث عنه، فقد شاهدت 650 طفلاً، وكان لأسامة ميزات تسمح له بالنهوض بدور الطفل المريض بالقصور الكلوي، وقد احترمتُ الجانب الطبقي في الطفلين، وحاولتُ أن أكون وفياً لمنطق الشريط.

أما قضية التبرع بالأعضاء، فهي تعلن أنّه لا يحقّ للآباء التصرف بمصائر أبنائهم، وعلينا أن نعي أنّ هناك مسألة تشغل البال، وهي أنّ الغني يأكل لحم الفقير في أغلب المجتمعات، وهي عبارة رمزية، لكنّها واقعية في هذه الحالة، وأكل اللحم أيضاً هو العمل بأجرٍ متدنٍّ في المعامل والمهن الهشة والبيوت، وتلك التي لا تعطي المستضعفين حقهم.

أنت راهنتَ على التيقّظ الذهني عند المتفرج، فلماذا تركتَ الفيلم مفتوحاً على الاحتمالات؟

أولاً، "قدحة" اسم البطل كما أشرت، وهو يعني لمعة النار التي إن أحسننا استخدامها تنير وتدفئ، وإن أخفقنا سوف تنطفئ. كذلك الأطفال، فإما أن نتعامل معهم بطريقة تليق بهم، وإما أنّهم سيتحوّلون إلى حاملي مآسي الكهول. و"قدحة" يحمل همّ شريحة اجتماعية، لم يكن إخفاقها في الحصول على حياة كريمة إلا نتيجة تراكمات توجهات اقتصادية فاشلة أو منقوصة، كان لها انعكاسات سلبية على المجتمع.