"قبر الرمل": رواية عابرة للحدود للكاتبة الهندية جيتانجلي شري

تلتقط "قبر الرمل" هذا الإيقاع الدوار للحياة بينما تراوغ بين الموت والجذل. ورغم فكرة الزوال التي تلتقطها الرواية ببراعة، الرواية ذاتها تعد بأن تدوم. 

  • رواية
    رواية "قبر الرمل" للروائية الهندية جيتانجلي شري.

إذا كنا نبحث عن دليل على امتداد التقاليد، وعلى انعكاسها في الرواية الهندية المعاصرة، فلا حاجة بنا أن نستمر في البحث بعد رواية جيتانجلي شري "قبر الرمل". صدرت الرواية باللغة الهندية عام 2018، وبالإنكليزية عن دار بِنغوين عام 2022 بعد أن ترجمتها ديزي روكويل. كما فازت أخيراً بجائزة بوكر الدولية للرواية المترجمة دورة عام 2022، لتكون كاتبتها أول كاتبة هندية تفوز بهذه الجائزة، ويكون فوزها اعترافاً بحيوية الثقافات في مناطق العالم المختلفة. 

تهدي جيتانجلي شري روايتها قائلة: "إلى مرشدتي، ملهمتي، العزيزة كريشنا سوبتي". توفيت سوبتي (وهي روائية هندية مهمة) عام 2019، إلا أن الكثير منها يستمر بالعيش في رواية شري. ورثت شري عن سوبتي مهارتها في استخدام التعابير الاصطلاحية المتنوعة في اللغة الهندية. علاوة على ذلك، يحضر المكرَّس الهندي، الأوردي، البنجابي، بوضوح في "قبر الرمل". ويظهر هذا على وجه الخصوص حين يبلغ السرد معبر واجا بين الهند وباكستان، ليكون معنى الحدود هنا مشبعاً أدبياً بقدر ما هو مشبع حرفياً.

مهارة سوبتي الأساسية التي ورثتها شري هي في استخدام الأصوات، لا سيما وهي تهتاج وتغلي في ملحمة العائلة الهندية متعددة الأجيال التي تتناولها الرواية. يزدحم السرد بالكثير من البشر والأنوات الهشة. ويتذكر الأفراد الأكبر سناً شبابهم، بينما يتغير العالم من حولهم. يلتقط عمل شري هذه الدوامة من الأصوات والتغييرات في النبرة؛ إذ ليس ثمة خطيّة مباشرة في السرد ولا تحديد صارم للأحداث أو لوضع العائلة. بدلاً من ذلك، نلاحظ تبدلاً مستمراً لحالة العائلة وهي تتشابك أو تتفكك أو تنمو بلا شكل محدد. ولذلك، على القراء الذين يشتتهم غياب حبكة واضحة، أن يتحلّوا بالصبر وهم يقرأون "قبر الرمل"، لا سيما مع وجود هامش للغموض. إن هذه الرواية تتطلب إعادة قراءة أو قراءة متأنية، على الأقل، مُتيحةً للصور أن تحتشد وتختمر في نفس القارئ. ولا ننسى أنها رواية من حوالى 700 صفحة في عصر تدوينات تويتر القصيرة، وهذا في حدّ ذاته تحدٍ شجاع.

تتحرك الحبكة بوتيرتها الخاصة عبر ذوات أفراد العائلة المختلفين، ولا سيما النساء منهن. وهي تأخذ وقتها قبل أن تصل إلى الخط السردي الرئيسي لامرأة في الثمانين من عمرها اسمها "ما" تقرر فجأة أن تسافر إلى لاهور، باكستان. 

تجري أحداث الرواية في شمالي الهند. "ما"، الأرملة حديثاً، وبعد إصابتها بالاكتئاب جرّاء موت زوجها، تدير ظهرها للعالم، حرفياً ومجازياً. تستلقي على سريرها، وجهها صوب الجدار، غير مبالية برونق شتاء دلهي، ولا باستجداءات عائلتها. غير أن شيئاً يقود إلى آخر، ولا تنهض "ما" وحسب، بل تختفي كذلك، لتبتعد عن عائلتها تاركةً لهم دليلاً حول مغامراتها القادمة. تنتقل "ما" للعيش مع ابنتها البوهيمية (بيتي)، ثم تخطط للقيام برحلة إلى باكستان. يبطئ السرد هنا، وتُسكت المفرقعات نفسها لبقية الرواية لتترك للقارئ أن يتوقف قليلاً ويستوعب رعب اللحظة البَدئية لأناركية جنوب آسيا، اللحظة التي تعود إلى عام 1947.

تنطوي الرحلة إلى لاهور على عدة معانٍ، ويمكن ردها لعدة أسباب واعية أو غير واعية. إن قرار "ما" بالسفر هو محاولة لمواجهة المعنى الذي لا يزال ينضج لعام 1947(عام تقسيم الهند البريطانية إلى الهند وباكستان)، كما أنه محاولة لمواجهة الرضّات والصدمات النفسية غير المحلولة لسني مراهقتها وتجربتها آنذاك مع التقسيم. بالإضافة إلى ذلك، السفر هو فرصة لإعادة تقييم ماذا يعني أن تكون "ما" أماً، ابنة، امرأة، ونسوية. 

إن رواية "قبر الرمل" هي "حكاية تحكي نفسها. بوسعها أن تكون مكتملة، إنما أيضاً غير مكتملة، مثلما هي جميع الحكايات"، كما تقول كاتبتها في السطور الافتتاحية، لتقدم بذلك مفتاح فهمِ رواية تستمر بالتوسع والتمدد. إنها رواية فكاهية أحياناً، كئيبة أحياناً، حكيمة أحياناً، وأحياناً تفوق الاحتمال، لكنها غالباً تحاول ألا تنزلق إلى التراجيديا.

كذلك، ثمة بعض المضامين التي يمكن التفكير بها في عنوان الرواية ذاته بالهندية Ret Samadhi"". رغم ترجمتها إلى "قبر أو ضريح"، تشير كلمة "Samadhi" أيضاً إلى التأمل، الذاكرة، الغيبة أو الغشية، والقبر_ وكلها تُرَّد إلى الانعطاف الأخير لذاكرةِ جسدٍ يشيخ في رحلته الروحانية المتعرجة. أما كلمة "Ret" (الرمل) فهي تستحضر كلّاً من مشهدي تشكيل ذلك القبر، وزوال وبعثرة الرمل بينما ينزلق إلى جسد الأرض. تلتقط "قبر الرمل" هذا الإيقاع الدوار للحياة بينما تراوغ بين الموت والجذل. ورغم فكرة الزوال التي تلتقطها الرواية ببراعة، الرواية ذاتها تعد بأن تدوم. 

تمنح هذه الرواية أيضاً قراءها لمحةً عن عوالمها العديدة من خلال تقنية التلاعب بالألفاظ. وهو السبب في أن المترجمة تترك عمداً الكثير من الكلمات والتعابير من غير ترجمة محافظةً على أصالة الرواية. في أوقات الانقسامات في الهند، بما فيها الانقسامات اللغوية، تذكّرنا هذه الرواية بأن الفخر بلغةٍ ما لا يجب أن يكون لمجرد أنها لغة، أي وسيلة تواصل، وحسب. بل ما يجب أن يكون مصدر فخر هو نوعية ومنجز التقاليد الأدبية لتلك اللغة، وهو ما تساعد الرواية في تأكيده والتدليل عليه. إن الرواية، وفق قول مترجمتها ديزي روكويل، هي "رسالة حب للغة الهندية".

تمتاز هذه الرواية أيضاً بأنها رواية متعددة الأصوات. فنحن نقرأ قصة "ما" من منظور عدة شخصيات؛ بشر، طيور، فراشات، وحتى أبواب. بعضهم نتمكن من معرفتهم جيداً إلى حدّ أننا نبدأ برؤية أوجه من أنفسنا ومن الآخرين فيهم؛ بعضهم يأتون ويغادرون على عجل بعد إنهاء أدوراهم، من دون أن نعرف الكثير عنهم أو حتى نهتم بمعرفتهم. كذلك، نتلقى دوماً أثناء السرد إرسالياتٍ من المستقبل لتساعد في قص الحكاية، ونرى تمثالاً قديماً لبوذا ليذكرنا بالقصص القديمة قِدم الزمن.

يقول الرواة العديدون لهذه الرواية أشياء لا تحصى إلى درجة يبدو لنا أن القصة تستطرد وتنحرف عن مسارها، لكن ثمة نسقاً لكل هذا الجنون. وعلينا كقرّاء أن نثق به وحسب. وعندما نفعل، سنلاحظ أهمية امرأتين أخريين: "بيتي"؛ الابنة البوهيمية الهاربة التي جلبت العار للعائلة، وهي نسوية، وناشطة في مجال حقوق النساء. و"روزي"؛ شخصية مختلفة بكل الطرق، تقف على حدود الجندر. ووصولها إلى القصة ليس انحرافاً سردياً جديداً، إنما تحويلاً للحدود، لأنه بعد لقائها سرعان ما تعبّر "ما" عن رغبتها بزيارة باكستان.  

إن لدى "ما" قصة من عام 1947 لتتعقبها، وهي تفعل ذلك على نحو بطولي، فاتحةً الأبواب السرّية لماضيها. لكنّ رسالتها ليست عن التقسيم وما تركتْه خلفها وحسب. ففي هذا الوصف الملحمي لسنتها الواحدة والثمانين، تنطبق رسالتها على كل جانب من حياتها: "الحدود لا تطوِّق، الحدود تفتح...الحدود أفق. حيث يلتقي عالمان. ويتعانقان". إنها رسالةٌ توحّد ماضي "ما" مع حاضرها، ومع مستقبل الكثيرين الذين قدموا المساعدة خلال حكايتها.

مع نهاية الرواية، تلتقي خيوط الحكاية العديدة، مع وثبة "ما" المرحة عبر الحدود إلى باكستان التي تعود بنا إلى الصفحات الأولى. أما بعد ذلك، فتبقى الصفحات الأخيرة غير مرقّمة، لأن ما من قصةٍ تتوقف عن النمو قط. وفي الوقت الذي ننهي به قراءة هذه الرواية المغيِّرة للأشكال، سيخيّل إلينا أن الصفحات الأولى قد حدثت منذ دهر. سنرى أن كل التاريخ البشري، الأدب، الفن، الفكر، السياسة، كانت في خدمة هذه الحكاية التي تحكي نفسها. إن "قبر الرمل" هي، بأكثر من طريقة، نشيدٌ لتاريخ القصّ الغني في جنوب آسيا.

تكتب جيتانجلي شري: "إن أي شيء يستحق العناء يتجاوز الحدود". وهكذا، تعبر "ما" الحدود بالفعل، مع ابنتها. ومن دون تأشيرة، لأنها عبرتها أول مرة بتلك الطريقة. ولأنه من بوسعه أن يقول لها إلى أين تنتمي؛ إلى هنا أو إلى هناك؟ وهل تحتاج إذنَ أحدٍ لعبور الحدود لمجرّد أن حكومتين قررتا رسم خط؟ في كل مرة يستجوب المحققون الباكستانيون "ما" عن محل إقامتها، تجيب بردود ساخرة وتهكمية. 

أخيراً، وأثناء عبور "ما" وابنتها الحدود، تكشف شري أوراقها: "ها نحن في واجا، حيث الحكاية هي دراما والقصة هي التقسيم. هل هذا سجل زمني لإمرأة تصبح أصغر عمراً أو أن كل قصة هي في الحقيقة قصةُ تقسيم؟" تدعو شري "كتّاب التقسيم" ليحضروا ويساعدوا في هذه الحكاية التي تحكي نفسها. وهنالك على الحدود سوف يبقون "حتى بعد زوال واجا" لأنهم لا يعرفون فيما إذا كانوا ينتمون إلى هذا الجانب أم ذاك.

إنه، من خلال روايات مثل هذه، يمكن للفهم الإداري أو التاريخي للتقسيم وتبعاته أن يُطرَّز بديناميات الذاتية الأبوية والعائلية. إن ظل تلك اللحظة لا يزال يخيّم على الحاضر، وأثرها لا يزال ظاهراً في الاحتياجات العنيدة، وفي الذكرى التي تلطخ بعتمتها غرف النوم، المطابخ، والأحياء لكل ساحة وحي فقير في دلهي. تتمكن شري من التقاط كلّ هذا حاشدة الحياة والتاريخ على الورق، بحميمية وتعاطف واغتراب أحياناً.

بالنتيجة، ومع حضور كل هذه العناصر، لا بدّ أن نتساءل: هل هذه رواية عن التقسيم؟ أو هي حكاية نسوية؟ هل هي رواية عن الهوية والانتماء؟ أو رواية مرشّحة لتكون مثالاً حديثاً عن أدب "تيار الوعي"؟ هل "قبر الرمل" هي كلّ هذا؟ أو أنها ربما رواية تتحدى التصنيف لأن عالماً جديداً يتطلب رفض الطرق القديمة في التعليب، الصنمية، والتعريف؟!

ترجمة وإعداد: سارة حبيب