لدى صالح علماني من يكاتبه

عاش ماركيز ليروي. أما هو، فقد عاش ليترجم. في ذكرى رحيله الثالثة، ماذا قدم لنا صالح علماني؟

  • لدى صالح علماني من يكاتبه

خلّف رحيل صالح علماني في 3 كانون الأول/ديسمبر 2019 "أزمة" في نفوس قرّاء أدب أميركا اللاتينية ومكتشفي ثقافة تلك القارة وكتّابها في العالم العربي منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي. 

كان صالح علماني صوت قارّةٍ كاملة لمدّة 40 سنة، منذ العام 1979 وحتى تاريخ رحيله، ولخّص حياته كما فعل غابرييل غارسيا ماركيز: عاش ماركيز ليروي، بحسب اعترافه في سيرته الذاتية الطويلة، أما علماني، فقد عاش ليترجم، كما قال مرّة عام 2010.

استطاع علماني خلال تلك السنوات أن ينال مرتبة من الصعب على الكتّاب الوصول إليها في المكتبة العربية. لم يعرّفه قرّاؤه بصفته "وسيطاً" ينقل بين لغة وأخرى، بل بصفته مؤلّفاً خلّاقاً، يعيد خلق ما يترجمه مرةً جديدة، وهذا ما عُرِف به "مؤلّف الظل" الذي تسابق القرّاء العرب على تخصيص ركنٍ لترجماته في مكتباتهم، بعدما أصبح اسمه على غلاف الكتاب "علامة جودة".

اكتشاف قارّة 

  • غابرييل غارسيا ماركيز
    غابرييل غارسيا ماركيز

يمكن، عبر مجازفةٍ ما بعيدة من الحرفيّة واتّخاذ الموقف، مقاربة اكتشاف صالح علماني كمترجم، واكتشاف علماني نفسه قارّة بعيدة، باكتشاف أميركا الذي امتدّ قروناً من الزمن.

وكما يوجد ما يُسمّى "اكتشاف ما قبل كولومبوس" لأميركا، يوجد كذلك "اكتشاف ما قبل علماني" لأدب أميركا اللاتينية. كان روّاد هذه المرحلة مترجمين مثل محمود علي مكي والطاهر مكي وعبد الحميد يونس، لكنّ موجة الواقعية السحرية لم تكن قد انتشرت بعد، ويبدو أنها انتظرت رجلاً مثل صالح علماني حتى تفجّرت.

الفرق بين الاكتشافين أنّ اكتشاف أميركا اللاتينية تطلّب آلافاً من الرجال، فيما كان صالح علماني وحده الرجل المؤسسة. إنه كولومبوس وجيوفاني كابوتو والإخوة غاسبار وبيدرو ألفاريز كابرال، وهو كذلك أمريكو فسبوتشي.

استطاعت ترجمات علماني تقديم صورة كاملة تقريباً عن تيار الواقعية السحرية في 20 دولة في أميركا اللاتينية تتحدث لغة ثربانتس الإسبانية، ليس في الرواية والقصة القصيرة فحسب، فقد امتدّ ذلك أيضاً إلى الشعر، إذ ترجم مختارات لرافائيل ألبيرتي والنشيد الشامل لنيرودا ومختارات لثيسار باييخو، وإلى المسرح، إذ ترجم 4 مسرحيات للوركا، ومسرحيتي "الحياة الزوجية" و"لا" لماكس أوب، ومسرحية "حكايات السجن" لأوزفالدو دراغون.

وامتدت الترجمة إلى التاريخ، بترجمته كتابين هما: "أميركا اللاتينية، تاريخ الحضارات القديمة ما قبل الكولومبية" للأوريت سيجورنه و"إسبانيا ثلاثة آلاف عام من التاريخ"، وترجم أيضاً "البوبول فو أو كتاب المجلس، الكتاب المقدس لقبائل الكيتشي".

 أما في أدب الرحلات، فيمكن ذكر ترجمته كتاب "الرحلة من سيلان إلى دمشق" لأدولفو ريفادنيرا. وفي روايات الأطفال، ترجم "الدب القطبي" لإستر برات، و"القطار الأصفر" لمانويل غاليتش، وترجم رواية وثائقية هي "العملية مجزرة" لأدولغو ولتش.

وشملت ترجماته كذلك بعض الدراسات النقدية التي يمكن أن نذكر منها "رؤى إسبانية في الأدب العربي" لعدة مؤلفين، وكتاب ألبيرتو كوستي بعنوان "نيرودا". كذلك ترجم مقالات لماركيز بعنوان "كوبا تحت الحصار لماركيز"، وبعض كتب أدب السيرة الذاتية والمذكرات، مثل كتاب "شيء من حياتي" للويس كورفالان، واهتم بنقل ورشات السيناريو لماركيز، منها ترجمته "نزوة القص المباركة" وغيرها. 

في الطرف الآخر، يمكن تلخيص هذا الاكتشاف بكلمات علماني نفسه في واحدٍ من الحوارات معه: "تزامن احترافي الترجمة مع ظهور لافت للرواية الأميركية اللاتينية تحديداً، وليس الأدب الأميركي اللاتيني بشكل عام، لأن الشعر في أميركا اللاتينية كان سابقاً للرواية". منذ أربعينيات القرن الماضي، ظهر الشاعر بابلو نيرودا، كما ظهر الشاعر قصير باييخو، ولمعت أسماء شعراء عظام آخرين، قبل ظهور الرواية. وفي الستينيات، جاءت اندفاعة الرواية الأميركية اللاتينية، ممثلة ببعض الكتاب المهمين، مثل ماريو بارغاس يوسا في البيرو، وغابرييل غارسيا ماركيز في كولومبيا، وكارلوس فوينتس في المكسيك، وآخرين في كوبا. هؤلاء الكُتاب سبقهم في الحقيقة خلال الخمسينيات كتاب مهمون، مثل ميغل أنخل أستورياس صاحب رواية "السيد الرئيس"، التي أهلته للحصول على جائزة نوبل للآداب عام 1967، وقبله الكاتب الكوبي أليخاندور ألفاريز.

قد لا يتم تذكر هؤلاء أحياناً، ولكنهم في الحقيقة كانوا الإرهاص للواقعية السحرية، إذ كان أول من تحدث عن سحرية الواقع في أميركا اللاتينية ألفاريز الذي قال: "إننا نعيش التراث الأفركوباوي، أي الأفريقي الكوبي، نحن حالياً نعيش تراثنا ونحياه". أما الجيل الثالث من هؤلاء الكتاب، فبرز منهم غابرييل غاريسا ماركيز وكارلوس فوينتس وآخرون، وكان التفات حركة الترجمة العالمية حينها مكرساً نحو هؤلاء الكُتاب. وقد تزامن هذا مع تعلمي اللغة الإسبانية وإتقاني لها، فخضت تجربة الترجمة ونجحت فيها".

إلى جانب هؤلاء، ترجم علماني لإيزابيل الليندي وخوسيه ساراماغو وإدوارد غاليانو وإدواردو ميندوثا (ترجم له "مدينة الأعاجيب") وخوسيه ماريا ميرينو (ترجم له "رؤى لوكريثيا" و"الضفة المظلمة") وأنطونيو سكارميتا وخوان رولفو، ورغب في الترجمة لكتّابٍ مغمورين يمكن أن نذكر منهم الأرجنتيني توماس إيلوي (ترجم له "سانتا إيفيتا")، والأورغوياني خوان كارلوس وينتي وأوغوستو روا باستوس (شرع في ترجمة روايتيه "ابن الإنسان" و"أنا الأعلى"، ولا نعرف إذا كان قد انتهى من الترجمة)، وجيوكاندا بيللي (ترجم لها "اللامتناهي في راحة اليد" و"بلد النساء")، وسيرجيو راميرث، الذين ينتمون إلى تيار ما بعد الواقعية السحرية، وتشير المراجع إلى أنّ رغبات دور النشر لم تتوافق مع رغباته.

أما عن الترجمة العكسية من العربية إلى الإسبانية، فقد جرّبها مرة حين ترجم "لماذا سكت النهر؟" لزكريا تامر، ولم يستمر في ذلك، ربما لعدم وجود ناشرين متحمسين في أميركا اللاتينية للأدب العربي. وقد كتب عنه وعن بعض ترجماته خليل صويلح في كتابه "قانون حراسة الشهوة".

يوجد مَن يكاتب كولونيل الترجمة

  • ترجمات صالح علماني
    علماني الذي أحيا أدباً كاملاً في البلاد العربية عمل كمؤسسة هدفها نقل أدب وتراث كاملين

في الحوارات مع علماني، تتردد قصة انتقاله من الطب إلى الترجمة في إسبانيا على هذا النحو: "عام 1970، غادرت إلى برشلونة لدراسة الطب، ثم تركته لدراسة الصحافة، لكنني صمدت سنة واحدة فقط. عملت بعدئذ في الميناء، واختلطت بعالم القاع كأي متشرد. وبينما كنت أتسكع في أحد مقاهي برشلونة ذات مساء، قابلت صديقاً كان يحمل كتاباً ونصحني بقراءته. كانت الطبعة الأولى من "مئة عام من العزلة" لغابرييل غارسيا ماركيز. عندما بدأت قراءتها، أصبت بصدمة. لغة عجائبية شدتني بعنف إلى صفحاتها. قررت أن أترجمها إلى العربية. وبالفعل، ترجمت فصلين ثم أهملتها. عندما عدت إلى دمشق، نسيت الرواية في غمرة انشغالاتي، لكن ماركيز ظل يشدني، فترجمت قصصاً قصيرة له، ونشرتها في الصحف المحلية، ثم ترجمت "ليس لدى الكولونيل من يكاتبه" (1979)، الذي لفت الكتاب انتباه الناقد حسام الخطيب، فكتب أن شاباً فلسطينياً يترجم أدباً مجهولاً لقراء العربية".

مزّق علماني مخطوط روايته الأولى في ذلك الوقت، وسار وفق قاعدةٍ بسيطة: "أن تكون مترجماً مهماً أفضل من أن تكون روائياً سيئاً"، وانخرط في ترجمة روايات الآخرين. هذا ما دفع محمود درويش إلى القول إنّ علماني ثروة وطنية ينبغي تأميمها. رغم ارتباط عمل علماني بماركيز في الدرجة الأولى، إلّا أنّ صديق روحه، كما قال، هو ماريو بينديتي.

يبقى اكتشاف صالح علماني ضخماً في حياة أيّ قارئ، ويُبقيه هذا الاكتشاف مدفوعاً ومحموماً برغبة لمكاتبة المترجم أو الكتابة عنه.  

علماني الذي أحيا أدباً كاملاً في البلاد العربية عمل كمؤسسة هدفها نقل أدب وتراث كاملين. وقد كتب عنه ماريو بارغاس يوسا: "أسهم صالح علماني بعمله كمترجم في نشر الأدب الأميركي اللاتيني في العالم العربي. وبفضله، صار عدد كبير منا، نحن الكتاب الأميركيين اللاتينيين، مقروءاً ومعروفاً في الشرق".