لماذا لم تثر ذكريات منير شفيق جدلاً يتناسب وأهميتها؟

تجربة منير شفيق غنية وممتدة، إذ انتقل من الشيوعية إلى الناصرية إلى الثورة الفلسطينية، و(الإسلام) كخيار شخصي، فلم يدخل في الترويج ولا تاجر في الأمر، ولعلّه رأى أن باب الجهاد يتيح له خيار المقاومة بكل جوانبها وأبعادها.

يمكنني القول إن معرفتي بالأستاذ منير شفيق قد بدأت قبل أن ألتقيه وأعرفه وأقدّره كاتباً ومفكراً وإنساناً يتميز بصفات بوّأته مكانة لائقة بمسيرته الممتدة حتى يومنا، وإن حاول بعض الأشخاص الغض من أهميته لأسباب لا تخفى، يتداخل فيها التعصّب، وضآلة القدرة على الحوار والمجادلة الفكرية الرصينة. كيف حدث أنني قدّرته وأعجبت به قبل أن ألتقيه، وحين كنت طفلاً؟

الفضل يعود إلى والدي، ولهذا حكاية، فما هي؟

توجهت والدتي إلى بابور الطحين في القرية لطحن بعض القمح لأمها، جدتي، وهناك التقت صاحبتها، وبدأتا الممازحة، وفجأة تكسّر السطح الخشبي تحت أقدام والدتي فهوت وسقطت على الحزام العريض الذي يُشغّل الماكينة ومزّق يدها وفخذها وثديها.

نقلت والدتي إلى مستشفى في القدس، وهناك فارقت الحياة بعد 3 أيام. بعض أقرباء والدتي ادعوا بأن صاحبتها دفعتها عمداً وهو ما أودى بحياتها. هذا ما دفع ذوي تلك السيدة إلى تأليف حكاية عن السطو عليهم بينما كانوا يتوجهون فجراً إلى سوق الفالوجي، وأنهم يشكّون في محمود والدي، وبصديق له. تم القبض على والدي وصاحبه وزجّا في السجن، وقد تم تكليف المحامي شفيق عسل، والد منير بالدفاع عن أبي وصاحبه.

أخبرني والدي: كأنما لا يكفيني موت زوجتي وموت ابنتي بعدها بأقل من شهرين، وتشرّدك أنت، يورطونني في قضية مخترعة!

يُضيف والدي:  كان المحامي يصطحب ابنه الطفل منير، وكنت أجلس قريباً منهما يوم النطق بالحكم، فمال الطفل على أذن والده وهمس بصوت التقطته، بينما كان القاضي يكتب الحكم: براءة يا أبي..براءة. 

حين نطق القاضي الحكم بالبراءة، احتضنت الطفل وقبّلت رأسه وسألته: كيف عرفت بالحكم قبل النطق به؟ أجابني: من هزّة القلم (الألم) والقاضي يكتب الحكم.

ثم دارت الأيام، يقول أبي، والتقيت (الرفيق) منير شفيق الذي صار شيوعياً، وكنت أنا منتظماً في صفوف الحزب أيضاً.

من تلك الواقعة حملت الإعجاب للمناضل منير شفيق، وكان أبي قد عرفني إليه عندما جاء خطيباً إلى مخيم النويعمة قرب أريحا، يدعو الناس إلى انتخاب المرشحين الشيوعيين عبد الرحيم بدر ويعقوب زيادين.

أخبرني ابن عمي أحمد، وكان قد قضى 8 أعوام في سجن الجفر الصحراوي،أن منير شفيق قد انحاز إلى الخطاب القومي الناصري، وأخذ يدافع عن مواقف جمال عبد الناصر، وعندها اختلف مع قيادة الحزب في سجن الجفر، وتم الترويج بأنه يمهد لاستنكار الحزب للخروج من السجن، ولكنه لم يفعل، وأعلن أنه سيكون آخر من يخرج من السجن، وقد ثبت على موقفه، إضافة إلى رفضه تبعية الحزب لموسكو، وأن (الاستقلالية) شرط للفعل والتطور والاقتراب من قضايانا، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية التي انساق الشيوعيون العرب وراء سياسة قيادة الحزب في الاتحاد السوفياتي، وتبنّوا توجيهات القيادة السوفياتية بالقبول بتقسيم فلسطين!

قال لي أحمد (أبو عمر): لما صدر حكم الإفراج عنا عام 1965، اقترب الرفيق عربي عوّاد من منير شفيق، واقترح عليه أن يكون في مقدمة المفرج عنهم  من سجن الجفر، لكنه رفض، وقال: أخبرتكم بأن مواقفي مبدئيّة، وبأنني سأكون آخر من يخرج من السجن..بعدكم! وهذا ما كان.

بعد أن فرغت من قراءة كتاب "من جمر إلى جمر: صفحات من ذكريات منير شفيق"، تدوين وتحرير نافذ أبوحسنة، صدر عن "مركز دراسات الوحدة العربية" عام 2021، تساءلت: "لماذا لم يُثر الكتاب حواراً، خاصة وهو يروي مسيرة منير شفيق (الشيوعية) ودوره ورؤيته ومسيرته في المقاومة الفلسطينية، وإدارته للخلافات، وتأثير خطابه الفكري في خيارات بعض أهم الكوادر السياسية والعسكرية في حركة فتح، وهم مشهود لهم بالصلابة، والأخلاق النزيهة، والتضحية، والترفّع عن المزاحمة على الوجاهة والمناصب..حتى استشهادهم رحمهم الله. 

يكتب الأستاذ منير شفيق في المقدمة: "أجرى معي الأديب والإعلامي الكبير وكاتب القصة المبدع نافذ أبوحسنة 14 مقابلة في قناة القدس حول سيرتي الشخصيّة. ومنذ تلك المقابلات، وهو يلح عليّ مع عدد من الأصدقاء أن أكتب مذكراتي. وكان ذلك بعيداً عن رغبتي وقناعاتي. وكانت المقابلات الإعلامية والصحفية أسهل عليّ بسبب اختصارها الشديد. طبعاً، لم يكن موقفي هذا مقنعاً لنافذ، أو لهم. وفي النهاية، قال لي أنا سأكتبها، وأتحمّل مسؤوليتها (ص13)".

استطاع نافذ أبو حسنة بعد تجميع لقاءات في صحيفة "المساء" المغربية، وحلقات تلفزيونية، جمعها نافذ بما فيها الحلقات التي أجراها مع منير شفيق نفسه، ثم طلب مني مراجعة القسم الأوّل بعد شعوره بنجاح المحاولة.

يوضح منير شفيق: "هذه المذكرات، إن جاز التعبير، على الضد من مذكرات ساسة عاصروا أحداثاً تاريخية. من هنا، فإن أهمية هذه الذكريات تكمن، بالرغم من تواضعها، في ما تقدمه من رؤية وتجربة نضالية وفكرية يسارية وقومية عربية وفلسطينية وإسلامية طوال المراحل الممتدة نحو 70 عاماً من نكبة فلسطين 1949 حتى اليوم 2020،فإذا كان ما قدمته من تجربة عملية وفكرية ومن تحليل سياسي وتقدير موقف، وتمسك بالثوابت والمبادئ صحيحاً، أو قريباً من الدقة والصحة، فستكون هذه الذكريات أدت الهدف منها (ص 14)".

يبدأ شفيق ذكرياته من البدايات، بداية حياته، والمكان الذي بدأ فيه: "في العام 1936، عمّ الإضراب العام فلسطين كلها لمدّة 6 أشهر، ثمّ اندلعت الثورة الفلسطينية التي أُطلق عليها (الثورة الكبرى) في مواجهة الاحتلال البريطاني والجماعات الصهيونيّة التي كانت تحظى بالدعم الكامل من حكومة الانتداب. وفي الشهر الثاني من العام ذاته، أبصرت النور في مدينة القدس، في حي النمامرة بالبقعة التحتا، وهو أحد أحياء القدس الغربية التي كانت تسمى القدس الجديدة، ثم انتقلت عائلتي بعد ولادتي بستة أشهر إلى حي القطمون. هذا التزامن القدري صبغ حياتي على نحو خاص، أمضي به العمر كله (ص 17)". 

مرّت حياة منير شفيق بأدوار وتحولات في مسيرته الوطنية والفكريّة، وبتحولات فاجأت بعض من عرفوه، وإن رآها آخرون تسير سيراً مقنعاً ينسجم مع استقلالية تفكيره، وغنى ثقافته، وحرصه على المعرفة، ورفضه الانغلاق والخضوع للأوامر الحزبيّة الضيقة.

لقربه من والده المحامي الذي كان يتنقل في أرجاء فلسطين مترافعاً أمام محاكم مختلفة في مدن فلسطين، اعتاد على النقاش، وتأمل القضايا التي يترافع فيها والده، والإصغاء إلى نقاش والده مع القضاة، ولعلّ هذا ما رسّخ الميل لديه للتأمل والحوار وحسن الإصغاء للآخرين مهما كانت خلافاته معهم، والحرص على إقناعهم، وعدم القطيعة إلاّ إذا جاءت من طرفهم.

يكتب عن تأثير والده: "لم يبد والدي اهتماماً بتعليمي الديني، بسبب قناعاته الفكرية، إذ كان أقرب إلى العلماني، لكنه في الوقت نفسه، على معرفة واسعة بالدين المسيحي، والدين الإسلامي، ولم يكن يحمل موقفاً عدائياً من الدين...( ص25)".

مغادرة شفيق للحزب الشيوعي (الأردني) يمكن وضعها تحت عنوان (الاستقلالية الحزبيّة)، ورفض التبعية لقيادة الحركة الشيوعية في موسكو، والانطلاق في الرؤية الأممية من قضايانا المحلية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.

ينتقد أسلوب التلقين في الحزب الشيوعي، والنفور من التفكير المعمق في النظرية: "وكان جل القيادة والكوادر يركزون على ما يصدره الحزب من بيانات سياسية وتعليمات فحسب (ص83)".

أما عن موقفه من قرار التقسيم فيكتب موضحاً: "قصتي مع قرار التقسيم قديمة، وقبل الالتحاق بالحزب بسنوات، أي منذ صدور القرار. وقد أشيعت حجة تقول (لو أننا قبلنا بقرار التقسيم لكان أفضل لنا). طبعاً لقد تأكدت في ما بعد بأنها حجة خاطئة تماماً (ص111)".

في سجن الجفر يلتقي شفيق بالأمين العام للحزب فؤاد نصّار، ويبلغه بموقف الحزب: "إعادة تطبيق قرارات هيئة الأمم أصبح شائخاً، وما عاد ممكناً. ولهذا يجب المطالبة بالصلح، ضمن الأراضي التي احتلت عام 1948،يعني القبول بعمل صلح مع التأكيد على عودة اللاجئين أو أعداد كبيرة منهم، ونقبل بالحدود الخاصة بالهدنة". يوضح منير شفيق: "أي ما أصبح يعرف بحدود ما قبل حزيران/يونيو 67. هذا كان موقفه (ص 113)".

منطق شكلي زائف بمقدمة مضللة لفؤاد نصّار. يكتب منير شفيق: "كان من الحجج التي واجهني بها فؤاد نصّار وأنا أشدد على عدم شرعية الكيان الصهيوني الذي جاء به الاستعمار الحجّة التالية: أوافقك بأن اليهود جاءوا بصورة غير شرعية، لكن ماذا تفعل بطفل ولد بصورة غير شرعية، فما ذنبه، هل تقضي عليه، أم تعطيه حق المواطنة؟".

يصل منير شفيق إلى الجواب الصحيح المنطقي الوطني الإنساني العادل: "الطفل غير الشرعي ليس مثل كيان جاء ليقتلعك ويحلّ مكان شعبك (ص 113)".

يكتب منير شفيق عن الموقف السوفياتي وتحوّله، أو بالأحرى انقلابه: "كان الموقف الشيوعي قبل عام 1947 يعدّ الهجرة اليهودية عملاً رجعياً صهيونياً استعمارياً. وكان ضد إقامة (دولة إسرائيل) في فلسطين، وكان يعدّ هذا الأمر مشروعاً بريطانياً استعمارياً وإمبريالياً".

ثمّ يروي له فؤاد نصّار كيفية الموافقة على قرار التقسيم: "في الساعة الرابعة صباحاً، أيقظه عامل الصف في المطبعة، وقال له: يا رفيق أبو خالد قوم شوف لقد وافق الرفيق قروميكو (مندوب الاتحاد السوفياتي) على قرار التقسيم. فقام فؤاد نصّار كمن لسعته أفعى، وطلب منه التقاط إذاعة موسكو، ففعل، وعبرها تأكد من صحة الخبر، فما كان منه إلاّ أن سحب المقال السابق وكتب مقالاً جديداً على الفور عنوانه: قرار التقسيم في مصلحة الشعبين الشقيقين اليهودي والفلسطيني".

يكتب منير شفيق أنه سأله: "كيف غيرت موقفك من دون أن تعود إلى المكتب السياسي وتراجع رفاقك؟ فأجابني: عن أي حزب، وعن أي رفاق تتحدّث؟ طالما وافق الرفيق ستالين فعليهم أن يوافقوا، واللي مش عاجبوا يشرب البحر (ص 114 و115)".

 هذا الجواب، وهذه الواقعة يلخصان تبعية الحزب الشيوعي، وهذا ما أدّى إلى مغادرة منير شفيق صفوفه واختيار طريق المقاومة لتحرير فلسطين.

الخضوع لأوامر القيادة، وهي فردية غالباً، وانعدام الحوار، وتنفيذ الأوامر، والافتقار  إلى ديمقراطية الانتخاب، وانعدام الشفافية، هذه بعض أمراض الأحزاب العربية التي لا تعيد النظر في سياساتها، ومواقفها، لأنها لا تجري مراجعات جادة تنطلق من المصلحة الوطنية والقومية.

أدّى منير شفيق دوراً هاماً وبارزاً في حركة فتح تثقيفاً وتوجيهاً ومحاوراً، وقد التف حوله عدد من الكوادر المؤثرين. يروي في كتاب مذكراته كمشارك فاعل جوانب عن أولئك الذين أبدعوا في القيام بأدوار تنظيمية وعسكرية، وتميزهم  ككوادر قيادية صلبة وشجاعة وناصعة الحضور في مسيرة الثورة الفلسطينية، ومنهم أبوحسن، وحمدي التميمي، وسعيد جرادات، وجورج عسل (شقيقه) الذي استشهد على قمة صنين وهو يواجة الانعزاليين.

لقد تساءلت عن موانع الكتابة عن مذكرات منير شفيق، فتوصلت إلى اجتهادات شخصية، أعيدها إلى أن الحوار الفكري، وتقييم التجارب التنظيمية، والوقوف أمام مراحل المسيرة الفلسطينية وتقييمها، خضع (للتحريم) ومن مارسه، غالباً، رمي بتهمة خدمة (أعداء الثورة).

تجربة منير شفيق غنية وممتدة، إذ انتقل من الشيوعية إلى الناصرية إلى الثورة الفلسطينية، و(الإسلام) كخيار شخصي فلم يدخل في الترويج ولا تاجر في الأمر، ولعله رأى أن باب الجهاد يتيح له خيار المقاومة بكل جوانبها وأبعادها.

مبكراً عمل منير شفيق (أبو فادي) على ترجمة كل ما يسهم في صقل وعي المقاومين الفلسطينيين والعرب، فترجم وألف في قوانين التناقض، والنظرية والممارسة وأحياناً كتب القصة القصيرة والشعر.

كتاب "من جمر إلى جمر" جدير بالقراءة، والكتابة عنه، وهو عندي سيرة غنية تؤرخ للمسيرة الثورية الفلسطينية، وتنصف ثوريين قضوا شهداء وتحفظ ذكرهم، والكتاب يضع أمام القرّاء حقائق الخلافات والصراعات في الساحة الفلسطينية.