لميا جريج.. رؤيوية توثيقية تربط الحاضر بالماضي

الفنانة اللبنانية لميا جريج تقيم معرض "أزمنة ملتبسة"، وتجمع فيه التأريخ والتوثيق التاريخي بالفن مستندة إلى رسوم ونصوص طُبِعَتْ رقمياً عن وثائق ومستندات أرشيفية وصور من فترة الحرب العالمية لأولى.

  • الفنانة لميا جريج
    الفنانة لميا جريج

"أزمنة ملتبسة" هو عنوان المعرض الذي يقيمه "غاليري مرفأ" للفنانة اللبنانية لميا جريج (1972)، يجمع التأريخ والتوثيق التاريخي، بالفن، من رسوم ونصوص طُبِعَتْ رقمياً، عن وثائق ومستندات أرشيفية وصور من فترة الحرب العالمية الأولى في المشرق العربي الذي تقسّم بعد الحرب، وأنتجت تقسيماته دولاً منها لبنان، وفلسطين، وسوريا.

إضافة إلى البحث في الوثائق، تضيف جريج بخط يدها، ملاحظات شخصية عما عايشته في بحوثها في المواد الأرشيفية، وترجمات لبعض الوثائق.

عايشت جريج مراحل الاضطرابات والتحوّلات اللبنانية، وما تتضمنه من انعكاسات عن تطورات المحيط، بلوغاً إلى ما يمرّ به لبنان والمنطقة اليوم، فكان ذلك دافعاً للعودة إلى مرحلة تحوّلات سابقة ومشابهة، لــــ "المقارنة بين الماضي والحاضر"، بحسب كلام أفضت به لــــ "الميادين الثقافية"، مضيفةً أن "القلق والهاجس، وخوف المصير هي عناصر دفعتني للقيام بالبحوث التي أجريتها".

وترى جريج إن "البحث في هذا الماضي يؤثر على حاضرنا، وكان ذلك من دوافعي البحثية"، لافتة إلى أنّ لبنان والمنطقة يدخل ظروفاً غامضة، وملتبسة، فلا نعرف ما الذي يجري تحضيره للمنطقة، وإن كنا نتجه لتقسيمات جديدة نجهلها، أو إن كان سيتم الإبقاء على التقسيمات الموجودة"، فهكذا تقصٍّ للواقع والتطورات ليس من عمل الفنان، بنظرها، ف"أنا أحترم المؤرخ الذي يعتبر هذا الاهتمام من اختصاصه"، كما قالت.

التباس الواقع الذي نعيش، والمآل الغامض في مستقبله، حدّد عنوان المعرض بـــ "الأزمنة المتلبسة"، استرجعت فيه الفنانة بعضاً من ذكريات الماضي عن جدّها، الذي يمكن أن تشكّل رواية رحيله وثيقة من الوثائق الحيّة التي تبحث فيها في طيات تلك المرحلة، وتحولاتها، وبعضاً من حيثيّاتها، فجدّ جريج، أسعد ضوّ، محامٍ، أسس مدرسة للحقوق في بلدته الساحلية البترون، وجريدة "مشهد الأحوال" (1910)، تشكل روايته بداية المعرض، وقد رحل سقوطاً عن صخرة مرتفعة في بلدته، بينما كان يعاين سُحُب جرادٍ تردّدت أخبارها في سرديّات الحرب العالمية الأولى، وكانت من المآسي التي واجهها اللبنانيون آنئذٍ. 

الجراد الذي قضى على محاصيل الناس الزراعية، أضاف مأساة على مآسي الحرب العالمية الأولى، وما انفكت رواية الجراد ترعب بقصصها ذاكرات اللبنانيين المتناقلة عبر الأهل والأحفاد، فحلّ الجراد على الأعمال، رسوماً بيد الفنانة جريج، كــــ "ماركات" تشير لتلك المرحلة، أو رموزاً متلازمة مع ذاكرة تلك الحرب. 

عملت جريج على منتجة صور الوثائق، وما حصلت عليه من صور لتلك المرحلة، فأضافت لكل ّلوحة الصورة المتوافقة مع مضمون الوثائق، وعلّقت على العديد منها، كما أجرت ترجمات لبعضها، خصوصاً أن صور الوثائق تتنوّع بلغات متعددة، منها الفرنسية والعثمانية، كما أفادت.

الوثائق

تُظهِر الوثائق العديد من التحولات، وخلفيات التحولات التي جرت في تلك المرحلة، منها وثيقة زيارة البحرية الفرنسية للبنان، وهي رسالة نشرتها صحيفة "زحلة الفتاة"، وفيها خُطَب حفل الترحيب بالضباط الفرنسيين الذين زاروا جبل لبنان عام 1912، وتعلن أن جبل لبنان، الذي كان "بؤرة الفتنة للرأي العام السوري، يمقت الحكومة العثمانية، ويدعو للتدخل الأجنبي".

وفي رسالة من والي بيروت (25 تشرين الثاني/نوفمبر 1913) إلى ما يُسَمّى "نظارة الداخلية"، تحذير من أن "النشر (الجاري) في الصحف المحلية قد يتسبب بصراعٍ وفوضى بين السكان المحليين"، ويفترض أن تكون تلك إشارة لتعاطف قطاع واسع من السكان، خصوصاً المسلمون، مع الحكومة العثمانية. 

وفي رسالة أخرى من والي حلب محمد جلال، بتاريخ اليوم التالي (26 تشرين الثاني/نوفمبر 1913)، تحذير من خطاب دعا صاحبه لـــ "ضم أرض البقاع إلى جبل لبنان"، بينما يذكر جلال أن الاعدام ينتظر من يقوم بدعوة لضم جزء من أرض الامبراطورية العثمانية .. إلى مقاطعة حكم ذاتي أخرى، وتصف الرسالة أن صاحب الخطاب، والجريدة التي نشرته، "قد اقترفا هاتين الجريمتين، وكل منهما تتطلب عقوبة الاعدام" لأنها "تخدم المصالح الأجنبية".

تعكس هذه الرسائل مرحلة التأسيس لما بعد حكم الدولة العثمانية عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، والأجواء التي هيّأها الحضور الاستعماري للمنطقة، وتحضيرات تثبيت هيمنته بفرض المشاريع التي حملتها حروبه، وتركيزه على الأقليات، وتحريضها على الانفصال، مما تسبب بصدامات ومجازر متعددة تضرر منها عشرات الآلاف من أبناء الشرق الأوسط، مسلمون وغير مسلمين، خصوصاً الفئات التي تحمل صفة الأقلية كالموارنة، والدروز، والسريان، والأرمن، وسواهم.  

وفي رسالة ردّ من "نظارة الداخلية" لوالي بيروت بتاريخ 7 كانون الثاني/يناير 1914، أي بعد أقل من شهرين، تفيد أن الباب العالي قد أبلغ متصرفية جبل لبنان قرار لجنة النظارة حول الصحف الصادرة من بيروت"، حيث "من الآن فصاعداً، سيتم إغلاق أي صحيفة تطبع أي خبر ضار".

هل تم تنفيذ أي من قرارات "لجنة النظارة"؟ بالطبع لا، فقد سبق السيف العزل، ووقعت الحرب العالمية الاولى، وخسرت الحكومة العثمانية الحرب، وخرجت من المنطقة ليسيطر عليها الفرنسيون والانكليز.

ومن الوثائق الهامة التي تقارن أحداثاً وتطوراتٍ جرت في حينه، مع تطورات اليوم، وثيقة بعنوان "ولادة أمّة"، وهي رسالة من وزارة الخارجية الفرنسية إلى الجنرال غورو بتاريخ العاشر من آذار/مارس 1920، يخبره فيها بــ "البرقية التي سيوجهها البطريرك الماروني المونسنيور الحويك إلى جنابكم، وإلى مؤتمر السلام"، صادرة عن بكركي بالتاريخ عينه تقريباً. 

يتحدث البطريرك الحويك عن تمثيله لما أسماه "الشعب اللبناني"، ويحتج على "المؤتمر السوري في دمشق"، مدّعياً إنه "يتعارض مع رغبات اللبنانيين"، ذاكراً أن "بعض المشاركين في المؤتمر السوري لا يمثلون الأمة اللبنانية"، مناشداً "الحلفاء إنصاف اللبنانيين".

في هذه الوثائق، واللغة المكتوبة بها، ما ينكأ جراح كل لبناني وعربي متأذٍ إلى حد بعيد من هذا التزوير للتاريخ الذي أثمر حروباً، وانقسامات امتدت من ذلك العصر، حتى المرحلة الراهنة، وكأن الفنانة جريج، برؤيويتها، تلمّست مدى التطابق بين انقسامات ودهاليز تلك الحقبة من تاريخ لبنان، فراحت تنبش وثائقه، وبين الراهن.

ثمّة وثيقة أخرى تتعلق بفلسطين، وهي الطلب المُقدَّم من مندوبي مدن وأحياء جنوب سوريا (فلسطين) في مؤتمر السلام بباريس. في الطلب كلام عن "الهيمنة التركية"، وعن "منح الأمم المتحررة منها، الحرية الكاملة لتقرير تنظيم حكوماتها المستقبلية"، مضيفاً أن "امنياتنا تتلخص بالوحدة العربية واستقلال سوريا".

في هذه الوثيقة، تعبير عن المرحلة التي قطعتها المنطقة تحت سيطرة الاستعمار الأوروبي، والابتعاد عن واقع الحال الذي كان سائداً في الزمن العثماني، حيث كانت كل الأمور منضبطة بمفهوم السلطة العثمانية، ولم يكن هناك من يتحدث بـــ "وحدة عربية"، و"هيمنة تركية"، و"منح الأمم التحرر منها"، وما إلى ذلك من مفاهيم مستجدة، إن هي إلا المفاهيم التي أرساها حضور الاستعمار الأوروبي، وفرض نتائجها بالقوة.

مصادر الصور والوثائق

استندت الصور الفوتوغرافية والرسوم على صور تم انتقاؤها من "The Imperial War Museum Archive”، ومجموعة فؤاد دباس في متحف سرسق، وأرشيف مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت، ومجموعة صالح ترجمان، وعائلة ضو، وبعض الموارد على الانترنت.

أما المستندات فقد تم انتقاؤها من الأرشيف العثماني (Basِِِkanlik Osmani Arcsِivi)، ومركز الدراسات الفلسطينية (مقتطفات من مذكرات إحسان ترجمان).

عُرِض الجزء الأول من مشروع جريج بعنوان "أزمنة ملتبسة - خارطة التحوّل"، وهو عبارة عن تجهيز متعدّد الوسائط، في بينالي اسطنبول في شهر أيلول/سبتمبر 2022.  

في حيّز آخر من المعرض، تعرض جريج فيديو أجرت منتجته سنة 2022، من 17 دقيقة، قصته أن التقطت جريج مجموعة صور خلال صيف 2011 على جزيرة يونانية، فأُعجِبت بها إيتيل عدنان، وطلبت من جريج إنشاء مقطع فيديو يستند إلى قصيدتها الأولى بعنوان "الشمس والبحر" المكتوبة بالفرنسية سنة 1949. 

يذكر أن الفنانة جريج أقامت ما يناهز 14 معرضاً إفرادياً، وهي مؤسِّسة "مركز بيروت للمعارض" القائم في محلة الجسر الواطي في بيروت، تحمل الإجازة بفنون التصميم من معهد "رود آيلاند" في الولايات المتحدة، مع دراسات بالرسم وصناعة الفيلم، إلى متابعات في العديد من المعاهد العالمية، ولها مشاركات في عشرات المعارض الجامعة، ومساهمات فنية متنوعة في التصميم، والتجهيز، والسينما، وسوى ذلك من نشاطات فنية.