مئة عام على ولادة سفّاح الجمّيزة.. هل كان فيكتور عوّاد أديباً؟

أول قاتل متسلسل لبناني أرعب سكان بيروت في أربعينيات القرن الماضي. من هو فيكتور عواد؟ وهل كان أديباً؟

جاءته جارته يوماً بدجاجة ليذبحها لها فرفض قائلاً: "ما إلي قلب". فيكتور عوّاد الذي كان يكره الدم كَرِهَ أيضاً كل ما يرتبط به ويرمز إليه، إلى حدّ اعتدائه بالضرب على إحدى قريباته لارتدائها فستاناً أحمر وتهديدها بالقتل إن أعادت الكرّة!

هو "سفّاح الجمّيزة" و"رائد السفّاحين" و"أوَّل قاتل متسلسل في تاريخ لبنان". ألقاب كثيرة لرجل واحد، ولكن أكثرها إثارةً هو "الأديب السفّاح"، إذ كان واحداً من السفّاحين القلائل الذين تركوا للجمهور كتاباً يوثّق جرائمهم، فهل كان فيكتور عوّاد أديباً بالفعل؟

وُلد فيكتور حنا عوّاد في شباط/فبراير 1922 في بلدة فتري قضاء جبيل، توفى والده وهو طفل فتولى عمّه تربيته وأسكنه منزله، ولكن مشاغباته تعدّت ضرب أبناء عمّه وفتح أعينهم على أمور لا تدرك كنهها عقولهم الطفلة إلى صفع زوجة عمّه، فلم يكن أمام العمّ سوى اصطحابه إلى ميتم اللعازارية في بيروت.

لم تمرّ على وجوده في الميتم أيام قليلة حتى كان قد استغل نشاطه فيه بسرقة صندوق النذورات الخاصّ بالكنيسة، ليعود بعدها إلى بيت عمّه في فتري، قبل أن ينتقل إلى بيروت للدراسة في أحد معاهدها ثمَّ يتطوّع في "جيش الشرق" الذي أسَّسه الانتداب الفرنسي في سوريا ولبنان، حيث شكَّل مع بعض رفاقه عصابة بدأت بالاعتداء على روّاد الحانات والمواخير أثناء مغادرته في وقت متأخر من الليل وانتهت بسرقة الأسلحة من "جيش الشرق" ليُطرَد من الجيش ويُحكَم عليه بالسجن 10 سنوات قبل أن يخرج بعفو عام بعد فترة قصيرة.

ولأنَّ وظيفة السجون ودورها في إصلاح نزلائها وتهذيبهم وإعدادهم لاسترداد مكانهم في المجتمع كمواطنين صالحين، لم يعدُ كونه حبراً على ورق في ظل أحوال صعبة منعت على الدوام الارتقاء بظروف احتجاز السجناء إلى مستوى إنساني لائق، ولأنَّ شخصية فيكتور عوّاد العنيف وغريب الأطوار وتركيبته النفسيَّة أوصلتاه إلى نقطة متقدمة في طريق الجريمة يغدو فيها الرجوع متعذّراً، فإنَّه لم يخرج من سجنه إنساناً صالحاً، بل تحوَّل بائع "جميع أنواع الفحم والحطب" في الجمّيزة نهاراً إلى قاتل محترف في ساعات الليل!

أفكار وطباع غريبة

  • الجمّيزة قديماً
    الجمّيزة قديماً

كانت لفيكتور عوّاد فلسفته الخاصَّة وأفكاره الغريبة: لا يُشرِك في جرائمه أحداً لأنَّه يؤمن أنَّ"كل سر جاوز الإثنين شاع"، كما قال للمحقّق أو للقاضي أثناء المحاكمة! ينفر من الدم حتى يرفض ذبح دجاجة لجارته ويصل في نفوره إلى حدّ كرهه اللون الأحمر وتهديد قريبته بالقتل إن لبست فستانها الأحمر مرَّة أخرى! يحبّ مار أنطونيوس من دون سائر القدّيسين حباً عظيماً ويتبرَّع لصندوق الكنيسة التي تحمل اسمه ويأتيه بالشمع والزيت والبخور! يتبرَّم من الخمرة ولا يحبّها ولا يشربها إلا في المناسبات! ويقتصر في جرائمه على منطقة الجمّيزة التي يقيم فيها على قاعدة "الأقربون أولى"!

هزَّت جرائم فيكتور عوّاد بيروت في أربعينيات القرن الماضي وتحوَّلت إلى مانشيت رئيسي في أبرز صحفها مع مطالبات شعبيَّة للدولة بالكشف عن الفاعلين وإنزال القصاص العادل بهم، وأبرزها قتل بائعة هوى كان قد تعرَّف إليها في الجمّيزة وبعد قضاء وطره منها غافلها وخنقها ثمَّ ذبحها بموسى الحلاقة ثمَّ قطع رأسها وخبَّأه في غرفة المؤن.

ثم خطف امرأة وقتلها بضربة مطرقة على رأسها ودفن جثتها داخل حائط في مبنى مهجور ليسرق مصاغها الذهبي.

أمَّا الجريمة التي أدَّت إلى كشفه فهي قتله إبن عمه جوزيف بأربع رصاصات من مسدسه نوع كولت 12 بمعاونة إبن عمه الآخر إيلي، وقبل كل ذلك كان قد حاول قتل والد إيلي لرفضه الزواج من ابنته نهاد التي عاد وتزوجها لاحقاً، وذلك عبر دفع كرسيه المتحرك أمام الترامواي الذي استطاع سائقه التوقف فأنقذ حياة العم المسكين!

طرق القتل المختلفة لم تمنع وجود قاسم مشترك بين جرائمه هو تقطيع أوصال الضحايا وجمعها في كيس ثمَّ حملها على عربة قبل أن يلقيها بعيداً أو يثقلها بالحجارة ويرميها في البحر لتغوص إلى الأعماق وتصبح طعاماً للأسماك.

كما يُنسب إليه اعترافه بعد إلقاء القبض عليه بقتل ثلاثة أشقاء من آل البشباش كان قد اتُهم ظلماً بقتلهم شقيقان من آل الطبشراني من قبضايات بيروت انتزع منهما المحققون اعترافاً بالجريمة تحت التعذيب!

لعنة فيكتور عواد

  • الجمّيزة قديماً
    الجمّيزة قديماً

غرابة أطوار فيكتور عوّاد رافقته حتى وصوله إلى حبل المشنقة، فقبل أن ينفَّذ فيه حكم الإعدام الصادر عن النائب العام الاستئنافي في بيروت القاضي فؤاد الصغير والمبرم من رئيس محكمة الجنايات في بيروت آصف رعد فجر 31/1/1949 في ساحة قصر العدل، كان رابط الجأش وطلب فنجاناً من القهوة وسيجارة وطلب تقبيل محاميه ومعانقته وسط سيل من شتائم أهالي الضحايا.

وعبّر عواد عن رغبته الأخيرة في الاقتصاص من الذين نفذوا فيه حكم الإعدام وعلى رأسهم الرئيس بشارة الخوري الذي وقَّع عليه مع رئيس الوزراء ووزير العدل رياض الصلح!

وكان أوَّل من أصابته "لعنة فيكتور عوّاد" الجلاد الذي نفَّذ الحكم ويُدعى"أبو سمير توتيو" وكان صاحب مطعم حمص وفول في ساحة الدبّاس، حيث انتقل بعد تنفيذ مهمّته إلى مطعمه الذي كان يغصّ بزبائن بكروا لحضور الشنق فاحتجّ بعضهم على وجوده قائلين: اذهب وتناول "ترويقتك" في مكان آخر لأننا لن نأكل في مطعم واحد مع جلاد. وعندما علموا بأنَّ الجلاد هو صاحب المطعم غادروه إلى غير رجعة فاشتهر أبو سمير شهرةً سلبيَّةً جعلت تجارته تبور بدلاً من أن تزدهر واضطرّ إلى إقفال المطعم نهائياً.

 هل كان أديباً؟

إذا كان أبو سمير توتيو قد أصيب بلعنة فيكتور عوّاد، فإنَّ المحامي موسى برنس الذي تولى الدفاع عن عوّاد بناء لطلب نقيب المحامين ادمون كسبار قد أصاب المجد والشهرة بمعناها الجميل بسببه، وهو الذي قال له فيكتور يوماً "اشهرني تَـ إشهرك". فكيف أشَهَرَ كل منهما الآخر؟

درجت العادة عند الحديث عن فيكتور عوّاد أن يوصف بالأديب السفّاح، ولكن ثمَّة من يرى أنَّه لم يكن أديباً وأنَّ قصّة حياته التي خرجت إلى النور في كتابٍ بعنوان "ذهب ودم" كانت عبارة عن مذكرات أملاها أثناء فترة سجنه على محاميه اللامع لينكشف ويشيع سرّه الذي أراد له بدايةً ألا يتجاوز الإثنين ويصبح في متناول كل الباحثين عن الحكايات الغريبة.

ولكن رواية أخرى تؤكّد أنَّ عوّاد كان خطيباً بارعاً ومفوّهاً وكاتباً محنكاً في السياسة والاجتماع وأنَّه كتب مذكراته بنفسه واقتصر دور محاميه على نشرها.

ويُستدل على صحّة هذه الرواية بأنَّ لبرنس مؤلفات عديدة أبرزها "الخط الأحمر" و"ما وراء الخط الأحمر" في حين لم تُعرَف لعوّاد مؤلفات أخرى. والحقيقة أنَّ فيكتور عوّاد كتب مذكراته بنفسه ونشرت بعنوان "اعترافات فيكتور عواد في مستودع الفحم والجماجم"، وقد استند برنس إلى هذه المذكرات في كتابه "ذهب ودم"، ولكن مجرّد كتابة المرء لمذكراته لا تعني حكماً أن يصنَّف أديباً، وبالمقابل لا يمكن إثبات العكس قبل الاطلاع على المذكرات واللغة التي كُتِبَت بها، وهو أمر متعذّر اليوم بعد مرور كل هذه السنوات واختفاء الكتاب الأصلي وعدم تصدّي أحد لإعادة طبعه.

فيكتور عوّاد إلى الشاشة الصغيرة في مئويته

  • الفنان عمار شلق يلعب دور فيكتور عوّاد
    الفنان عمار شلق يلعب دور فيكتور عوّاد

في العام 2021، أعاد برنامج "عاطل عن الحرية" (الذي يعدّه ويقدّمه سمير يوسف ويقوم على محاورة سجناء عن طفولتهم ومراهقتهم وخيباتهم ونجاحاتهم وجرمهم ومحاكمتهم ضمن إطار وثائقي شيّق مع إعادة تمثيل القصّة) حكاية سفاح الجمّيزة إلى الواجهة، بعد أن خصَّص له حلقة من حلقات الموسم الثامن لعب دوره فيها الفنان عمار شلق وشاركه بطولتها فيصل الأسطواني وأمية لحود وبرناديت حديب، إلى جانب عاطف العلم وعلي كلش وآخرين وأخرجها رامز الخوري.

يرى البعض أن رقة القلب ورهافة الشعور شرطان لازمان لمن يمارس الأدب والفن، ويغدو الحديث عن أديب مجرم بالنسبة إلى هؤلاء ضرباً من التناقض، ولكن التاريخ حفل بنماذج كثيرة أبدعت في مجالات فنية مختلفة وتركت بصمة خالدة تناقلتها الأجيال وحفظتها في ذاكرتها جنباً إلى جنب مع صفحات سوداء ارتبطت بحياتها الشخصيّة، وفيكتور عوّاد لن يكون استثناءً، ولكن هل كان الرجل أديباً بالفعل أم مجرد مجرم أحبّ أن يكتب مذكّراته ليملأ وقت فراغه في انتظار حكم الإعدام؟ قد لا يمكن الجزم بشيء من هذا قبل قراءة اعترافات صاحب مستودع الفحم والجماجم!