معرض فوتوغرافي يوثّق تطورات بيروت مع نشوء الصورة

"بيروت 1840-1918 صور وخرائط" معرض يطرح إشكاليات وتساؤلات عن تطورات منطقة الشرق الأوسط التي كانت بيروت جزءاً منها.. ماذا جاء فيه؟

  • باعة في ساحة الخبز
    باعة في ساحة الخبز

يطرح معرض "بيروت 1840-1918 صور وخرائط" جملة إشكاليات وتساؤلات، تتمحور حول تطورات منطقة الشرق الأوسط، ومتغيّراتها التاريخية الاستراتيجية، والتحوّلات التي جرت خلال عقود من الزمن، في سلسلة أحداث عكستها وعبّرت عنها مئات الصور المعروضة في متحف "نابو"، الذي تأسس في منطقة الهري شمالي لبنان، على يد مجموعة شاغِلُها "أهمية الثقافة في بناء الدول"، بحسب ما أفاد جواد عدره، الذي أسس المتحف إلى جانب كلٍّ من بدر الحاج والدكتور فداء جديد.

مئات الصور التي توزعت على أجنحة عديدة في طبقتي المتحف، وردت في كتاب "بيروت 1840 - 1918"، للباحثَين بدر الحاج وسمير مبارك، وبتسهيل التعريف من رئيس جمعية "تراث بيروت" سهيل منيمنة، تطرح قبل أي شيء آخر ما يمكن أن يستنتجه الزائر في نهاية جولاته في صالات العرض، وهو دور الصورة في رصد تطورات الأحداث وإيضاحها.

فكرة المعرض

  • الطبقة العلوية من المعرض
    الطبقة العلوية من المعرض

يعرض جواد عدره، في حديثه لـ"الميادين الثقافية"، كيف وُلِدت فكرة المعرض، حيث "كانت دار كتب قد أصدرت في العام 2014 كتاباً عن بيروت، موثّق بالمعلومات والصور، وهو كتاب "بيروت ضوء على ورق 1850-1915"، للباحث بدر الحاج. ثم قاد الانشغال بالتحضير لإصدار النسخة الإنجليزية من الكتاب إلى العثور على صور جديدة تسبق تاريخ الكتاب بنسخته العربية، وتؤرّخ لبداية التصوير الشمسي في العالم، إذ كانت الصور تنقش وتحفر سابقاً، فأتى التقدّم التكنولوجي ليتيح رصد المدينة في تلك المرحلة التاريخية".

ويضيف: "تقدّمت إدارة متحف "نابو" للحصول على ألبومات أصليّة، واشترت مجموعة صور عن بيروت، فاجتمعت العناصر ليأتي الكتاب في مجلّدين، الأول يربط بين تاريخ التصوير الشمسي ومصوّري ذلك الزمن، المحترفين منهم والهواة، وبين تاريخ المدينة".

توافرت مادة ضخمة لمرحلة شابها الكثير من الغموض، ويعتقد عدره أنه "أمام هذه المواد كلها لم يعد بالوسع الاكتفاء بإصدار الكتاب وتوقيعه والمضي قدماً، بل لا بدّ أن نقدّمها إلى روّاد المعرض، نظراً إلى قيمتها التاريخية والفنّية، جامعين بين تاريخ هذه الناحية من العالم وتاريخ التصوير الشمسي".

الصورة في مرحلة الاستعمار

  • المدمرة الأميركية بروكلين في مرفأ بيروت عام 1903
    المدمرة الأميركية بروكلين في مرفأ بيروت عام 1903

لا أحد يستطيع أن يحكم حكماً قاطعاً على الدور الذي تؤدّيه الصورة، وبالتالي الدور التاريخي الذي يلعبه المصورون، إلّا أن جملة تساؤلات لا بدّ أن تُطرح في هذا المجال، والبداية بتوافق اختراع التصوير مع تفاقم الحملات الاستعمارية على المنطقة، وبالتطورات التي بدأت تعصف بما صار لاحقاً دولة لبنان الكبير، والتي بدأت منذ سنة 1840، وتفاقمت حتى سنة 1860.

وعن اعتماد تاريخ 1840 للمعرض، يقول عدره إن "بداية التصوير الشمسي في العالم كانت في العام 1838 في فرنسا، وإنّ أقدم صورة لبيروت تعود إلى العام 1840، وهي صورة التقطها فريديريك غوبيل - فيسكه، بتاريخ 30 كانون الثاني/يناير 1840 تحديداً، وهي تجمع إلى قيمتها التاريخية التصويرية تاريخ مدينة اندثر تماماً، ففيها جزء من بقايا قصر الأمير فخر الدين، ومئذنة مسجد السراي، وجزء من برج البرج". 

أن يعود تأريخ المعرض إلى أسباب تقنية، أي اختراع التصوير، سبب لا يكفي أمام جسامة الأحداث والتطورات التي رافقت نشوء الصورة، خصوصاً أن ما شهدته المنطقة، وما يقف المعرض شاهداً عليه، أكبر وأضخم وأكثر جسامة بكثير من مجرد اختراع. فهل كان اختراع التصوير ترفاً؟ أو تسلية للتصوير في الأعياد والأعراس؟ أم حاجة ملحة لمخترعيها؟

معاني تواريخ المعرض

  • مئذنة جامع الأمير عساف لماكس فون أوبنهايم عام 1890
    مئذنة جامع الأمير عساف لماكس فون أوبنهايم عام 1890

أمّا لماذا جرى تحديد المهلة الزمنية لبيروت بين هذين التاريخين، فيرد عدره بقوله: "قد يبدو بديهيّاً القول في العودة إلى هذا التاريخ بالتحديد، وإذا ما رجعنا إلى المؤرّخ فيليب حتّي، أنها كانت بدايات ما يسمّى حرب أهلية، فقد سبق الحرب الأهليّة في العام 1860، أحداث الأعوام 1840-1845".

ويتابع عدره: "هنا البداية واضحة، وقد رافقتها أحداث حربية داخلية آنذاك لم تخلُ من أيادٍ خارجيّة، بما فيها الاحتلال العثماني الذي كان موجوداً في منطقتنا".

وعن الطرف الآخر من تأريخ المعرض، أي العام 1918، يقول عدره إن "المعرض، كما المجلّد عن بيروت، ينتهي بصور يفضّل الكثيرون عدم رؤيتها". موضحاً أن "الصور تؤرّخ للمجاعة التي حلّت بين العامين 1915 و1918، والتي ترافقت مع انهيار الأمبراطورية العثمانية، وبلوغ الظلم والجَوْر درجاته القصوى في الحرب العالمية الأولى، التي امتدّت من العام 1914 حتى العام 2018، والتي انطلقت من أوروبا ووصلت إلى منطقتنا"، وتعرض هذه الصور الظروف التي رافقت هذه التطورات، من حصار وتجويع لجبل لبنان. 

صور المعرض والاستعمار

  • جثة نخلة مطران محاطة بالجنود العثمانيين
    جثة نخلة مطران محاطة بالجنود العثمانيين

ترافقت عمليات التصوير مع بلوغ الهجوم الاستعماري على المنطقة منسوباً مرتفعاً، لم تعد السلطنة العثمانية قادرة على وقفه أو منعه، لذلك وفدت البوارج الحربية التابعة للدول الاستعمارية الغربية إلى مرفأ بيروت، ووفد الزوار المهتمون بالمنطقة إليها، مثل الأمبراطور الألماني فيلهلم الثاني، ووقعت أحداث جسيمة منها القصف الإيطالي لبيروت والجبل، وكلّها أحداث وثقتها صور المعرض.

وإذا ما جمعنا هذا الحضور الاستعماري مع تطورات الأحداث الداخلية في جبل لبنان، وبروز عائلات لبنانية احتلت مناصب عالية لاحقاً في البلاد التي كان يجري التحضير لتشكيلها، وما شهدته بيروت من نشوء لمراكز ثقافية ودبلوماسية ودور، نستشعر كيف كانت التطورات الداخلية تشكل غطاء للتغلغل الاستعماري في المنطقة، وتحديداً في مدينة بيروت.

يُعلّق عدره على هذه الوقائع بأنّه "لطالما كانت هذه المنطقة مسرحاً لصراعات الأمم، حتى أنّها لم تعرف الراحة التامة أو الترف الطويل الأمد في تاريخها، والحال اليوم هي كما كانت بالأمس، فإبحار مدمّرات نحو المرفأ، أو تأسيس قنصليات ومدارس وجامعات، سواء أوروبية أو غربية، يأتي في الإطار عينه من الصراعات بين الأمم، الذي يلبس الزيّ العسكري في بعض الأحيان، والزيّ الثقافي في أحيان أخرى. وسواء أقيم هذا المعرض اليوم أو غداً، فهذا هو الواقع الذي عشناه بالأمس ونعيشه اليوم، وسنعيشه غداً".  

بيروت القرية

  • أطفال في زمن المجاعة (1915 - 1918)
    أطفال في زمن المجاعة (1915 - 1918)

لم تكن بيروت في تلك الآونة تلك المدينة الضخمة، كما صارت في بداية الألفية الثالثة، بقدر ما كانت موقعاً بسيطاً، ليس من المؤكد أنه يمكن وصفها بـ"المدينة". بيوت متواضعة، وإن كانت جمالاتها متوفرة في بساطتها، طبقاتها خفيضة، وقرميدها الأحمر طاغٍ، تصل بينها طرقات ترابية، ركزت عليها الدول الغربية من أجل التغلغل في البلاد، فنشأت فيها الجامعات الأميركية واليسوعية، والمدارس الفرنسية والإنجليزية والأميركية، أمّا الروسية فما لبثت أن أقفلت، إلى جانب الكثير من المواقع، وهذه كلّها موثقة بالصور المعروضة.

يفيد عدره أن "محتوى المعرض هو حصيلة عمل طويل، وجهد في البحث عن صور شمسيّة ترصد مدينة بيروت، التي كانت أشبه بقرية صغيرة ذات مرفأ صغير أيضاً، وتبيّن هذه الصور كيف تطوّرت بيروت وتوسّعت، وهي التي كانت تبنى داخل سور وأبراج وأبواب تحميها، أسوة بمدن شرق المتوسط، كما ترصد الصور كيف أدّى توسّعها إلى توسّع المرفأ، وإلى تمدّدها خارج السور".

ولا يسع المشاهد إلا الربط بين الصورة والتاريخ الذي تعرضه، والذي يعود إلى الحقبة الحساسة من تاريخ بيروت والجبل المحيط بها، والانعطافة التاريخية المتوازية مع الانعطافة من مرحلة الاحتلال العثماني إلى مرحلة الاستعمار الأوروبي.

يتناول عدره مفهوم الترابط بين الصورة والتطورات، فبنظره "الصورة هي بحدّ ذاتها تاريخ للمنطقة، تاريخ سياسي، شئنا ذلك أم أبينا، وتاريخ عسكريّ - حربيّ، واجتماعيّ واقتصاديّ وتجاريّ كذلك".

وأوضح عدره أن "الصورة تلتقط لحظةً تتخلّد على الورق في ظلّ تغيّر الواقع، تلتقط لحظة من الزمن، هي في ذاكرتنا ثقب أسود، فتأتي الصورة وتضيئه. كيف الحال إذا ما تحدّثنا عن بيروت، فهي جزء أساسي من ساحل بلاد الشام الذي تعرّض ككلّ لصراعات مريرة عبر التاريخ، قبل الصورة وبعدها، وهذه الصورة، كما الخرائط، تظهر – كما التمدّد السكاني خارج السور، وتوسعة المرفأ لاستقبال السفن القادمة إلى هذا الشرق - الصراعات العالمية على منطقة غنيّة بمواردها، بأرضها الخصبة وبعناد أهلها في استصلاح جبالها، بحريرها الطبيعي ومعامله الممتدّة في نواحي جبل لبنان وسواه، في كونها محجّة إذا صحّ التعبير للأديان السماوية كافة، كما للمتصوّفين منهم، وبالتالي هي مقصد سياحيّ بامتياز، وطريق للحجّاج سواء نحو القدس أو الحجاز، والأهمّ من ذلك كلّه هي غنية بحضارتها".

ويرى عدره في تاريخ بيروت "7 بيروتات إذا صحّ التعبير، هناك بيروت أمّ الشرائع، وبيروت الحضارة والعلم، وبدايات عبور البحار بالسفن والتجارة، بيريت في رسائل الفراعنة، وهذا كلّه بالإضافة إلى موقعها الجغرافي، جعل من موقعها قِبلة للأنظار الطامعة، فما الاحتلالات المتعاقبة سوى ترجمة لهذه الأطماع، وصور بيروت تظهر أجزاء منها بوضوح".

ما حصل في وقت لاحق للتاريخ الذي يتوقّف عنده المعرض نجد بذوره فيه، على ما يلاحظ عدره، الذي يلفت إلى أنه "من هنا يمكن فهم صور المدمرة الألمانية "هيرتا" عام 1898، التي رافقت زيارة الأمبراطور فيلهلم الثاني وزوجته الأمبراطورة أغوستا إلى بيروت، والمدمرة الأميركية "بروكلين" عام 1910، والمدمرة البريطانية "إيفيجينيا" عام 1910، والمدمرة العثمانية "عون الله" عام 1912، والقصف الإيطالي على بيروت في 25 شباط/فبراير 1912 والدمار الذي أحدثه، كلّ ما سبق أرّخته الصورة كإثبات ودليل لا سجال حوله". 

المعرض ومرحلة التأسيس

  • منظر للمدينة القديمة في بيروت وبدا يخت الامبراطور فيلهلم الثاني و3 سفن حربية المانية
    منظر للمدينة القديمة في بيروت وبدا يخت الامبراطور فيلهلم الثاني و3 سفن حربية المانية

يلاحظ عدره أن المعرض يتضمن وقائع شديدة الارتباط بمرحلة تأسيس دولة لبنان الكبير في العام 1920، ففي المعرض صورٌ وتعليقات مساعدة تعطي لكل ذي حقّ حقّه، من اسم المصوّر والتاريخ الموثّق للصورة، أو التاريخ التقريبي لها من خلال ربط اسم المصوّر بتاريخ زيارته أو إقامته في بيروت، فبعض الصور لم يلتقطها المحترفون إلا لماماً في طريقهم إلى بعلبك، التي أثارت اهتمامهم أكثر من بيروت ومرفأها، أو في طريقهم كحجّاج إلى الأماكن المقدّسة، وقد اخترق المصورون الهواة اعتبار بيروت ومرفأها محجراً صحياً (الكرنتينا)، وقد يكون أبرز هؤلاء ماكس فون أوبنهايم، فهؤلاء هم من تمكّنوا من تأريخ بيروت بالصورة".

المعرض والأزمة اللبنانية

  • شارع الحمرا عام 1890
    شارع الحمرا عام 1890

ولا بدّ من التساؤل عن احتمال ترابط إقامة المعرض مع الفترة التي يمر بها لبنان، يردّ عدره على هذا التساؤل بالقول إن "ما يواجه لبنان حالياً من أزمات - وإن أشرنا سابقاً إلى الأيادي الخارجية ومصالح الأمم - نابع في الدرجة الأولى من داخله، فالتدمير الأقصى والأشنع كان في الحرب الأهلية، ولاحقاً في عمليّة "إعادة الإعمار"، وسبقه تقسيم وتدمير أبشع للإنسان في الحرب بين عامَي 1840-1845 وحرب العام 1869".

"القوة لا تمنح إنما يتم السعي لاكتسابها بالجهد والعمل، كذلك فإن الوصول إلى الوحدة لا يتم بالأشعار والأغاني، إنما بعيشها فعلياً وبوعي وصدق"، بحسب عدره، الذي يعتقد أنه "إذا لم نصل إلى هذه المرحلة سيبقى المرفأ والعاصمة وكل منطقة مسرحاً لمدمّرات وشركات وجامعات لا تشبهنا، وستتغيّر دوماً معالم كل مدينة لا تعرف قيمة تراثها وتاريخها". 

ويختم أحد مؤسسي متحف "نابو" بالقول إنّ "لبيروت تاريخ في الدمار، وهذا صحيح، إنما لديها أيضاً تاريخ في النهوض دوماً من تحت الرماد، فعسى أن يكون هذا المعرض ذلك الضوء بعد النفق المظلم، المدماك لإعادة النهوض، ولكل حلم سبيل للتحقّق عبر العمل وعدم الاستسلام".