وليام فوكنر: المعلم الذي تكلم بألسنة الجميع

شكّلت ولادة وليام فوكنر بدايةً لولادة تيارٍ جديدٍ في الأدب العالمي. ماذا تعرفون عن الأديب الأميركي؟ وما هي أبرز ميّزات سرده؟

  • نبع أسلوب فوكنر السرديّ من ضرورات تعبيرية لا من مجرّد رغبة في ترك بصمة خاصّة
    نبع أسلوب فوكنر السرديّ من ضرورات تعبيرية لا من مجرّد رغبة في ترك بصمة خاصّة (رسم: ماريا نصر الله)

ثمّة في أدب القرن العشرين محطّاتٌ ثابتةٌ لا بُدَّ من التوقّف عندها، إذ ما تزال تأثيراتها مستمرّةً حتى اليوم، وستبقى مستمرّةً في المستقبل كذلك، ربّما يكون فرانز كافكا أكثرها شهرةً، بسبب حركته الخاطفة والمرعبة التي انتصر بها للكابوسية منذ الجملة الأولى، آسراً إيّانا داخل جسد الحشرة التي تحوّل إليها غريغور سامسا، وناقلاً الرواية برمّتها إلى مرحلةٍ جديدةٍ في تاريخها، جعلتها مفتوحةً على كل الاحتمالات، من دون أيّة حواجز.

لكنَّ القرن الماضي قدّم لنا أسماء أخرى، برعت في جوانب مختلفة عن "مستوى الواقع" الذي تلاعب به كافكا، من أبرز هذه الأسماء، وأعظمها تأثيراً على روائيين كبار تلوه، الكاتب الأميركي وليام فوكنر، الذي يُعتبر ميلاده في 25 أيلول/سبتمبر من العام 1897، من دون مبالغةٍ، إيذاناً بميلادِ تيارٍ جديدٍ في كتابة الرواية عبر العالم.

ابتكارُ "الصوت الخاصّ"

  • يُعتبر ويليام فوكنر من أهم الأدباء العالميين في القرن العشرين
    يُعتبر وليام فوكنر من أهم الأدباء العالميين في القرن العشرين

نَبَعَ هاجس فوكنر في عدم استخدام أساليب سردية تقليدية من حاجته إلى التعبير عن كل ما يصطخب في رأسه من أصوات عديدة متضاربة، لا من حبِّ الابتكار لمجرّد ترك بصمةٍ خاصَّةٍ تُذكّر به. يمكن لقارئ فوكنر أن يستنتج ذلك بيُسر، منذ روايته الأولى "راتب جندي"، مروراً بأشهر رواياته "الصخب والعنف"، التي أشار مترجمها، الأديب الفلسطيني الراحل جبرا ابراهيم جبرا، إلى أنّه تمّت طباعتها بالعربية كما طُبعت بالإنكليزية، أي باستخدام كلماتٍ مكتوبةٍ بأحرفٍ عاديةٍ (تعبّر عن صوت الراوي عندما يصف الأفعال، ويتعامل مع المشاهد والأحداث الخارجية)، وأخرى مكتوبةٍ بخطٍّ مائلٍ (تمثّل صوت الأفكار، والحوار الذي يخوضه الراوي مع نفسه)، وصولاً إلى إحدى أجمل رواياته "بينما أرقد محتَضَرة"، وما تلاها.

شدَّد المتوّج بجائزة "نوبل" في العام 1949 على أهمية "الصوت الخاص" بالنسبة لأيِّ كاتبٍ، باعتباره عنواناً لأصالته، وقد جَهِد فوكنر في صياغة صوته الخاص بعد كثيرٍ من التجريب. يمكن وصف صوت فوكنر بأنّه صوتٌ "ديمقراطي"، بمعنى أنّه أتاح لكلِّ شخصيةٍ أن تعبّر عمّا في داخلها بلسانها وعلى طريقتها، كاسراً بذلك استبداد الراوي العليم، وأنانية الراوي المتكلّم، مُنعشاً ما يُعرف بـ"تيار الوعي"، الذي أصبح واحداً من أهمّ رموزه، وقد استخدمه من بعده كُتّابٌ عديدون، نذكر منهم على سبيل المثال الروائي التركي أورهان باموك، تحديداً في روايته الثانية "البيت الصامت".

شدَّد فوكنر على أهمية "الصوت الخاص" بالنسبة لأيِّ كاتبٍ، باعتباره عنواناً لأصالته، وقد جَهِد في صياغة صوته الخاص بعد كثيرٍ من التجريب. يمكن وصف صوت فوكنر بأنّه صوتٌ "ديمقراطي"، بمعنى أنّه أتاح لكلِّ شخصيةٍ أن تعبّر عمّا في داخلها بلسانها وعلى طريقتها.

لم يُميّز فوكنر في طريقة سرده هذه بين أبيض وأسود (وهي التصنيفات التي كانت قد زالت في زمنه، لكنّه عاد إلى زمنها في رواياته)، أو بين بالغ وطفل، أو بين إنسان سليم معافى وآخر معوّق ذهنياً (كما هي الحال مع بنجامين كومبسون، في رواية "الصخب والعنف")، مع كل صعوبات القراءة المترتِّبة على تتبّع الأفكار المشتَّتة والمبتورة لشخصيةٍ من هذا النوع. 

قراءةُ أدبِ وليام فوكنر إذاً عمليةٌ صعبةٌ، إذ يُسيّرنا الكاتب الكبير عبر غابة سرده الكثيفة المتشابكة، من خلال جمله غير المباشرة، المُثقلة بالصور والمعاني، والتي لا نستمع إليها من الخارج، بل نقبع داخل دماغ مُطلِقها، في الجزء الذي تتشكّل فيه الدوافع تحديداً. نحن فيما قبل الفعل، نقرأ كيف تفكّر الشخصية وتكوّن تصوّراتها، كيف تأتي بالأفعال الأولى التي لا نعلم غايتها، قبل أن تُقدم على الفعل النهائي الذي يُوضح كلَّ ما سبقه، ويحوّلنا إلى شركاء للشخصية في الفعل، متوحّدين معها في مصيرها. قراءةٌ من هذا النوع ليست للكسالى، هي تحتاج إلى نَفَسٍ طويلٍ، وإلى همّةِ الخوضِ في الأفعال التي لا مفرَّ من التورّط فيها، ما دام الكاتب لا يُقدِّمها لنا جاهزةً، بل يُقدِّم كل ما يُثير الفضول تجاهها.

"يجب أن أكون زنجياً"

  • دافع فوكنر عن المساواة من خلال أدبه معارضاً التمييز العنصري
    دافع فوكنر عن المساواة من خلال أدبه معارضاً التمييز العنصري

عبّر فوكنر عن موقفه الرافض للتمييز العنصري بشكلٍ عمليٍّ عن طريق أدبه، مكملاً بذلك الطريق "الأبيض" الذي بدأته هارييت ستاو في روايتها "كوخ العم توم". نجد ذلك واضحاً في روايته "دخيل في التراب"، من خلال الموقف المرتبك للفتى المراهق، بطل الرواية، المتأثّر بخاله المناهض للتمييز العنصري، والذي لم يعرف كيف يعبّر عن امتنانه للزنجي لوكاس بوشان، بعد أن ساهم في إنقاذ حياته إثر سقوطه في بركة مياه متجمّدة خلال رحلة صيد، فكلُّ محاولةٍ من محاولاته كان يقابلها بوشان بالرفض، أو يردُّ عليها بمثلها، ليُشعره بذلك بالإهانة التي بادر هو إلى إشعاره بها من خلال التعامل معه بمبدأ الشفقة، الأمر الذي يرفضه بوشان، إلى أن وصل الفتى إلى مرحلةٍ صار فيها عاجزاً تماماً عن فهم الرجل العنيد، وعن إيجاد طريقةٍ ليعوّضه من خلالها، ممّا جعله يتمنّى أن "يكون زنجيّاً أولاً، فقط لثانيةٍ واحدةٍ، لجزءٍ صغيرٍ جدّاً من الثانية".

عبّر فوكنر عن موقفه الرافض للتمييز العنصري بشكلٍ عمليٍّ عن طريق الأدب، مكملاً بذلك الطريق "الأبيض" الذي بدأته هارييت ستاو في روايتها "كوخ العم توم".

يستغرب الفتى فكرة تمييزٍ من هذا النوع، هو الذي تربّى في كوخ زنوجٍ، وأكل من طعامهم، بينما يلعب مع ابنهم الذي لم يفارقه في أيِّ يومٍ من أيام طفولته، إلى درجة أنَّ الرائحة المميِّزة للزنوج، تلك التي تعود في جزءٍ منها إلى ظروف الحياة البدائية المفروضة عليهم، "كانت جزءاً من ماضيه الذي لا مفرَّ منه، جزءاً من إرثه كجنوبي"، كما يُعبّر فوكنر بلسان شخصيته، هو المولود في مدينة نيو ألباني، الواقعة ضمن ولاية مسيسيبي الجنوبية.

الجنوبي الذي عارض القسوة 

  • صوّر فوكنر القسوة المتأصّلة في الشخصية الجنوبية الأميركية
    صوّر فوكنر القسوة المتأصّلة في الشخصية الجنوبية الأميركية

عاش فوكنر معظم حياته متنقّلاً بين عدّة مناطق في ولاية ميسيسبي، مسلتلهماً منها الفضاء المكاني لأعماله، التي يُعتبر غوصه فيها جواز عبوره إلى العالمية، وقد حشد مشاهداته في مقاطعة "يوكناباتوفا" الخيالية (التي تقابلها مقاطعة "ماكوندو" عند الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، أحد أكثر المتأثّرين بفوكنر). الطبيعة لا ترحم في الولايات الجنوبية من الولايات المتحدة، ففي أشهر الشتاء تكتسح الأعاصير تلك المناطق المنبسطة المفتوحة على خليج المكسيك الواسع، الذي يفتح فمه الكبير على امتداد جهة الجنوب، محاولاً ابتلاع تلك اليابسة المصدَّعة والقلقة.

انعكست قسوة الطبيعة هذه على سكّان تلك المناطق، خاصّة الريفيين من سكّان المزارع، بحيث يُشكّل تمسّكهم بالتمييز العنصري حالةً خاصّةً من هذه القسوة، وإلى هذا التمسّك تعود أبرز عوامل نشوب الحرب الأهلية الأميركية (1861-1865)، إذ أيّدت الولايات الشمالية إلغاء قانون العبودية، بينما ظلّت الولايات الجنوبية متمسّكة به بقوّة.

انعكست قسوة الطبيعة في جنوبي الولايات المتحدة على سكّان تلك المناطق، خاصّة الريفيين من سكّان المزارع، بحيث يُشكّل تمسّكهم بالتمييز العنصري، الذي سبَّب اندلاع الحرب الأهلية في العام 1861، حالةً خاصّةً من هذه القسوة.

صوّر فوكنر في رواياته هذه القسوة المتأصّلة في الشخصية الجنوبية الأميركية، ونرى ذلك بأبسط أشكاله وأكثرها تعبيراً في رواية "بينما أرقد محتَضَرة". يبدأ الأولاد بصُنع تابوت أمهم المحتَضَرة، مطيعين وصيّتها التي طالبتهم فيها بأن تُدفن في مسقط رأسها البعيد، لكنَّ ذلك يجري على مرأى ومسمع منها، حيث يمكنها أن ترى عبر النافذة عملهم الدؤوب، وتسمع صوت المناشير والمساحج التي يصقلون بها الأخشاب. حتى أنَّ الابن دارل يمتدح دقّة العمل وإتقانه، حيث يقول: "لا يمكن لآدي بندرن (أمه) أن تتمنّى صندوقاً أفضل منه لتتمدد فيه. سيمنحها هذا الثقة والراحة".

بعد أن تُسلِم الأم الروح، يبدأ تنفيذُ الوصية على أرض الواقع، وهنا يبرز الجانب الإيجابي لعِناد الشخصية الجنوبية وصلابتها، إذ يُحمّل الزوج والأولاد التابوت عبر عربةٍ تجرّها الخيول، ويقطعون به الجبال والوديان والأنهار الفائضة، من دون أن يثنيهم شيءٍ عن بلوغ مسقط رأس الأم، منفّذين وصيتها الأخيرة.

بدأ فوكنر حياته الأدبية بكتابة الشعر وأصدر ديوانين، لكنّه اكتشف سريعاً صعوبة هذا النوع الأدبي، فاتّجه إلى السرد، مُفضِّلاً الرواية، بما أنّه وضع القصة القصيرة في الدرجة الثانية لناحية صعوبة الكتابة، وقد حوّل عدداً من قصصه القصيرة التي قاربت الثمانين إلى مُفتَتَح لرواياته، التي بلغ عددها 19، نُشِرت آخرها بعد موته سنة 1962، وحملت عنوان "اللصوص".