"لهب.. رماد.. عشب أخضر" لأمين سعدي.. الرسائل الورقية في زمن الهاوية

"لهب.. رماد.. عشب أخضر" لأمين سعدي، رواية بطابع مختلف. عابقة بالتفاصيل وباعثة على التأمّل. تضعنا أمام إشكاليات كبرى حول علاقة الشرق بالغرب، والمؤنث بالمذكر، والحزن بالإبداع الفنيّ.

في روايته الصادرة مؤخّراً عن "دار الرافدين"، "لهب.. رماد.. عشب أخضر"، يبني الكاتب العراقي الشاب أمين سعدي عالمه الروائي حول رسائل ورقية متبادلة بين عاشقين متباعدين مكانيّاً في القرن الــ 21. 

الفكرة التي تبدو غريبة مع توفّر كلِّ وسائل التواصل الحديثة، تجدُ مبررها الرومنسيّ في صفحات الرواية وعلى لسانِ إحدى الشخصيتين الرئيستين، "نزار" أو "ن. س." كما يحلو له أن يوقع رسائله، رجلٌ يعيشُ في الشرق، في بغداد، يستذكرُ في إحدى رسائله العاطفيّة، كيف تعرّف إلى "ريتا" قطب الرواية الثاني المؤنّث، التي توقّع رسائلها باسمها المفرد، شرقيّة بغدادية تعيشُ في الغرب، في أوروبا، فيقول: 

"أكتُب لأنتبه.. اليوم يكتمل العام الأول لتعارفنا، كنت انتهيت حينها للتو من نشر نص عن الغربة والوطن، وأنا أشرب كوبا ساخنا من النسكافيه كانت قد أعدته لي أمي في ساعة متأخرة، أبحث عن جسدٍ للقصيدة، سكنا للقلب، حتى رأيت جملةً في تعليقك المهذب الودود "قد نقترب كلما ابتعدنا".. ومنذ ذلك الوقت اتفقنا على اقتراحك الجميل أن تكون الرسائل الورقية وسيلتنا الاساسية للكتابة والحديث، بديلة عن البريد الالكتروني ورسائل الهاتف، أن لا نستخدم هذه الوسائل إلا حين الحاجة، ومع ذلك هاتفي مليء برسائلك النصية". 

 يدخلنا سعدي في عالمٍ رومنسي مبنيّ من رسائل تتّسم لغتها بعاطفيّة شديدة واعتناء بالتفاصيل الحسيّة المهذّبة في الوصف مع غياب شبه تام للإيروسيّة، على هامشها يدور سردٌ خفيف، لأحداث قد لا يكون بعضها من جسد الرواية، ولكنّها مساحات تعكس المقابلة بين الشرق والغرب على مستويات عديدة.

هكذا يقنعنا أمين سعدي بمنطقِ الفكرة، منطقها من حيث هي عاطفيّة وحميميّةٌ وبطيئة، في زمنٍ يتّسمُ بالبرودةِ والسرعة المفرطة، نركضُ في العمل، نركضُ ونحنُ نرسلُ ملاحظةً صوتيةً على "واتساب"، نركضُ على "فيسبوك"، نركضُ إلى حتميّةٍ لا ندركُها، ولكنّنا حال الكتابة الورقية مضطرون للجلوس، وبناء الأشياء ببطء لئلا تتبدَّد. 

بمعنىً آخر، يدخلُنا أمين سعدي في عالمٍ رومنسي مبنيّ من رسائل تتّسم لغتها بعاطفيّة شديدة واعتناء بالتفاصيل الحسيّةِ المهذّبة في الوصف مع غيابٍ شبهِ تام للإيروسيّة، على هامشها يدورُ سردٌ خفيف، لأحداث قد لا يكون بعضها من جسدِ الرواية، ولكنّها مساحاتٌ تعكسُ المقابلة بين الشرق والغرب على مستوياتٍ عديدة، من حيث القيم والظروف والآفاق، وتعكس أيضاً أزمة الشرق على مستوياتٍ عديدة، اجتماعيّاً وسياسيّاً وثقافياً، كلُّ ذلك حسب تصوّر الكاتب. 

من هنا فنحنُ أمامَ روايةٍ غير تقليديّة، لا ينتظر القارئ منها أن تقدّم أحداثاً مثيرة وحبكة روائية مشوّقة، أو شخصيّات كثيرة ومعقّدة، ولكنّها قد تدفعهُ للتأمّلِ في مسائل عديدة: الشرق والغرب، الحبّ والبغض والتعلّق والنسيان، القرب والبعد، الذاكرة والحدس، الشعر والعمل، الوحشة والأنس، كلُّ هذه المقابلات وغيرها يجدُها القارئ مدسوسةً في سطور الرسائل العاطفيّة تارة على لسان "نزار" وطوراً بصوت "ريتا". 

هذه المقابلات المتواترة في النّص تبدأ في الواقع من العنوان، "لهب.. رماد.. عشبٌ أخضر" وبالطبع فترتيبُ الكلماتِ على هذا النحو ليس عشوائياً، فبقليلٍ من التأمّلِ نجدُ في العنوان سيرورةَ الحياة، احتراق العشب اليابس الذي يليه الرماد ثمَّ الرماد الذي يتحوّل سماداً لعشبٍ أخضر جديد، يحضر طائر الفينيق المنبعث من الرمادِ هنا أيضاً، ويبقى الاخضرار المفضي إلى الأمل هو الأثر الأخير الذي يتركهُ العنوان.

من هنا تبدو المقابلة الجوهريّة الأعمق، الأمل في مقابل صخب أحمر وخيبات رماديّة، الأمل نافذة تنفتح في جدران الكآبة التي لا يستطيع الجهد الفنيّ إخفاءها عن القارئ، كآبة سائلة تنتقل بين تجليين، تجلّيها المتحفّز النزق عند "نزار"، والآخر المرتبك الرماديّ عند "ريتا"، وبينَ الغصّة الصامتة والصراخ المفجع، تنفتح مساحات من السلام التأمّلي، النابع من عاطفة صافية بين خليلين لم يلتقيا إلا خطفاً. 

بقليل من التأمّل نجد في عنوان الرواية سيرورة الحياة. احتراق العشب اليابس الذي يليه الرماد ثمَّ الرماد الذي يتحوّل سماداً لعشب أخضر جديد. يحضر طائر الفينيق المنبعث من الرماد أيضاً، ويبقى الاخضرار المفضي إلى الأمل هو الأثر الأخير الذي يتركه العنوان.

تلفتنا رسائل العاشقين إلى العلاقة بالمكان، بوصفه أهم العوامل المؤثرة على استقرارنا النفسي والعاطفي، بالسلب او الإيجاب، كما تحضر ذاكرة الأماكن في غير موضع من الرواية، ونشعرُ أنَّ المدن التي ترد أسماؤها في أول كل رسالة هي الأرضية الأساس للنص، الارتباط بالمكان أقوى هنا من الارتباط بالزمن، بعض الرسائل تفصل بينها وبين ردودها فترات زمنية متباعدة وشبه عشوائية، وبعض الرسائل بلا ردود، فيما تنعكس المدينة التي كتبت فيها الرسالة على محتواها، وسأورد تالياً رسالتين دالّتين على ذلك. 

ولكن أوّلاً يجدر أن نشير إلى أن الرواية لا تخلو من إشارات لكتب معظمها روايات، كــ "ذاكرة الجسد" لأحلام مستغانمي و"عالم بلا خرائط" لعبد الرحمن منيف وجبرا ابراهيم جبرا، فيما تحضر قصيدة بلقيس لنزار قباني، وترد أسماء متفرقة لمفكرين وكتاب وشخصيات تاريخية ومتصوفة. 

"لهب.. رماد.. عشب أخضر" روايةٌ بطابعٍ مختلف، عابقة بالتفاصيل وباعثة على التأمّل، خفيفة على الروح رغم ما فيها من حزن لأنّها تبقي الباب موارباً للأمل، وهي كذلك تضعنا أمام إشكاليات كبرى حول علاقة الشرق بالغرب والمؤنث بالمذكر والحزن بالإبداع الفنيّ، تجربةٌ غنيّةٌ تستحقُّ القراءة. 

ونختم هذا المقال برسالتين إحداهما من "نزار" في بغداد على مشارف حرب العراق الأهلية، والثانية أجزاء من رد "ريتا" على رسالته بعد أسبوع واحد من فرنسا، لعلَّ فيهما دلالات واضحة على ما ورد في هذا المقال. 

-الرسالة: 

"حي الجامعة، بغداد
الأربعاء
5 نيسان/أبريل 2006 

الغالية ريتا،

ثلاثة أشهر مرت.. كنت أكتب لك عن صباحات الأماكن البعيدة المنسيّة، عن الحزن والفرح والأمل، عن الواقع والحلم والموسيقى والشعر، عن الانتماء لهذا الوطن والانسلاخ عنه في لحظات اليأس، عن كل التفاصيل المؤلمة والمتخيلة، عما بحدث فوق العادة والتصور!

حسناً، قصاصات الورق المكتوبة كثيرة، أكتب لك في هذه الليلة بعد انقطاع بريدي، خارج عن إرادتي كما تعلمين، يبدو أن العراق دخل في أتون حرب أهلية بعد تفجير (مرقد الإمامين العسكريين) في سامراء، لا أعرف حقّاً من أين أبدأ؟

مظاهر العنف بعد تلك العمليّة الخبيثة الهمجية والمنحرفة عمّت مدناً كثيرة، عمليات اختطاف وقتل على الهوية.
هل أخبرتك؟ القيامة تقوم، وأفواه بوابة الجحيم شرعت لبغداد، وصار الدم أرخص موجود في الشوارع والأزقة، وأن النطق عن الانتماء يقود الرصاصة مباشرة إلى مؤخرة الرأس!
العمل في مهنة صحفي أصبح خطراً للغاية، لا أحمل ما يدل على هويتي بصراحة، ولا أذهب للبيت كثيراً، أبيت في مكان العمل، وأحول الليل مكتبةً لقراءة ما بيدي من كتب.
بدأت بقصائد من ديوان "غوايات البنفسج" للشاعرة والصحفية الشهيدة أطوار بهجت، لقد عذبت وقتلت بعد تغطيتها لأحداث التفجير، عروس (سنية شيعية) زفت إلى القبر بعذابات الاثنين، كانت سباقة إلى الساحات الساخنة، تشهد لها أرض النجف الأشرف وما دار فيها من معارك بين القوات الأميركية و"جيش المهدي"، وتشهد لها مشارف الفلوجة في حصارها الأول، قرأت حتى ادركت أنها تنبأت بالموت بعد أن كانت تنشد عراقاً تبكي على صدره، تقول:
"نبوءة من ألف جرح
كنت أدري بأنك الموتُ
من ألف جرح
والسوء آتٍ" 

اغتيل شبابها الغض، وسلبت حيويتها المفرطة، وسكت صراخها الأنثوي المنادي بالحب.. انطفأت عيناها الخضراوان، كما الأضواء في آلاف البيوت تحت سماءٍ يتيمة.
إن ما يحصل احتفال وحشي، الجميع يحتضر في حلقات دخانه، أو يستعد إلى أن يكون عند ينابيع الموت قرباناً على لا شيء. هكذا!
أكتب لك ولا أدري ما أكتب.
آه يا ريتا، هل سألتك من يغسل الليل؟ 

ن.س"

-الرد: 

"لودرز، فرنسا
الخميس
13 نيسان/أبريل 2006 

الغالي،
أعلم يا صديقي ما تمرُّ به من ظروف، وكيف يتجه كل شيء نحو الهاوية، حقا أخاف عليك، أكثر من أي وقتٍ مضى، كنت بحاجة إلى الصلاة لك ولي ولبلدي، فاتجهت هرباً مما أنا فيه إلى زيارة مدينة "لودرز" المقدسة في الجنوب قرب الحدود مع اسبانيا، وبدأت من هناك الطريق وأنت معي في كل لحظة إلى جانب الآلاف من الزائرين.
إنها رحلة مذهلة في منظر مصور من الجبال الخضراء والطبيعة الخلابة التي لا تصدّق، تتمنى لو أن الذاكرة تلتقط جميع المشاهد لتسترجعها في لحظة الهدوء والصمت.
بمجرد الدخول إلى هذه المدينة ستشعر بالقشعريرة والرهبة والروحانية الطاغية من قدسية المكان، لو كنت تؤمن بالمعجزات، مدينة صغيرة لكنها كبيرة بالأحداث التي حصلت قبل قرون وما زالت معلقة فيها برغم جميع العمارة الحديثة. 

إن قدسية هذه المدينة الواقعة في وادٍ محاط بالجبال تعود إلى ظهور طيف السيدة مريم العذراء من تجويف صخري لطفلة في الرابعة عشر من العمر وهي تجمع الحطب، إسمها (برناديت)، كانت مريضة ومن عائلة فقيرة جدا، حملت في ذلك المكان رسائل مقدسة من ذلك الطيف، ثم أصبحت في سلك الرهبنة وعملت على خدمة الفقراء والمحتاجين حتى ماتت من المرض وهي بعمر الخامسة والثلاثين، ورفعت في عام 1933 م إلى مرتبة القديسين، وأطلق عليها "سيدة لوردز"، كما تحولت المدينة إلى قبلة يؤمها ملايين الحجاج الكاثوليك.
....
أحاولُ أن لا أنسلخ عن الجذور، أو أن أدير ظهري للأرض الندية، هناك الكثير من القُطَب على جبيني.
أتمنى لهذه الرسالة أن تصل إليك، قد تجد فيها بعض آثار قطرات الزيت والماء المقدس، برداً وسلاماً عليك. 

ريتا"