"نهاية السياسة التمثيلية".. الجيل الجديد يبتعد عن الاقتراع

إحدى التيمات الدائمة في الأعمال التي تتناول موضوع أزمة التمثيل هي "ملل" الشباب أو "لا مبالتهم"، فالملل واللامبالاة هما شيفرة إحجام الشباب عن التصويت لممثل يقوم بدور نيابة عنهم، أو تفويض نائب يتحدث باسمهم.

  • كتاب
    كتاب "نهاية السياسة التمثيلية" لسايمون تورمي

يتحدث كتاب "نهاية السياسة التمثيلية" للباحث الأسترالي سايمون تورمي، الصادر عن المركز القومي للترجمة في القاهرة، عن أزمة التمثيل السياسي التي برزت أعراضها بروزاً واضحاً منذ مطلع الألفية الجديدة، فيما يُعرف بـ"مناهضة تيار السياسة السائد".

يرى مترجم الكتاب الدكتور حسام نايل أن هذا الكتاب "يمثل الفحص المعاصر لعلاقة المواطنين الراهنة بالسياسة التمثيلية إسهاماً حيوياً في النقاش الدائر حول الديمقراطية بصورتها المستقرة اليوم، رسمياً، في معظم بلاد العالم. ويعيد إلى الأذهان كتاب صمويل هنتنغتون "الكتاب السياسي في مجتمعات متغيرة"، الصادر قبل خمسين عاماً تقريباً والذي نقلته إلى العربية دار التنوير في بيروت.

الكتاب يناقش كل قواعد التمثيل السياسي لأي شعب ويؤكد أن الزعم بأن كل شخص تقريباً يريد ان يحكمه ممثلون له (نائبون عنه) تناهضه أدلة متنامية تشير إلى أن معظمنا قد أصبح متحرراً من وهم السياسة والسياسيين ومن وهم ممثلينا ومن وهم التمثيل، أو في طريقه إلى التحرر من هذا الوهم.

لا يوجد الكثير من الحقائق البديهية في العلوم السياسية، لكن الرؤية القائلة بأن "التمثيل" جوهري لأي نظام في الحكم الديمقراطي إحدى تلك الحقائق.

ويشير المؤلف إلى أنه مقارنة بستينيات القرن العشرين، صار تصويتنا الإنتخابي أقل، هذا إذا صوتنا اصلاً. كما صار احتمال انضماننا إلى حزب سياسي أقل بكثير وصار انشغالنا بشؤون الدولة او الطبقة السياسية أقل أيضاً (إلا في سياق الفضائح والتشهير وسوء السمعة). فالمواطنون حالياً في الديمقراطيات المتقدمة يثقون بالسياسيين أقل فعلياً من ثقتهم في أي جماعة مهنية.

وتجاوباً مع تلك المؤشرات المثيرة للقلق، تساءلت صحيفة "الغارديان" البريطانية في أحد تحقيقاتها مؤخراً، عما إذا كانت الديمقراطية التمثيلية في حالة "انحدار نحو النهاية". 

ويرى تورمي أن العديد من المجموعات والمبادرات السياسية المستجدة – تتبرأ صراحة وضمناً – من إرث السياسة التمثيلية. فمثلاً: حركة "احتلوا" ترفض كغيرها من الحركات الجديدة فكرة السعي إلى تمثيل، حتى عندما تعلن واصفة نفسها: "نحن 99%".

ويضيف تورمي: من الأهمية بمكان هنا، الخطاب وذخيرة الأدوات، المناورات أو التدبير والإيماءات التي تستعملها هذه المجموعات لإبعاد نفسها عن "السياسة التمثيلية". فبدلاً من سياسة قائمة على ممارسة التحدث نيابة عن الاَخرين والقيام بأدوار نيابة عنهم، صرنا نجد الاَن زيادة كبيرة في أشكال واساليب ما يمكن تسميته سياسة فورية مباشرة، احتجاجات بلا توسط: فعل مباشر، احتجاجات خاطفة، الحشد والتحرك بوساطة تويتر، النبض الإحتجاجي، قرصنة، جلسة قرفصاء، مقاطعة،.. احتلال وغيرها من التدخلات المباشرة والعملية.

ويؤكد الكتاب أن المواطنين الذين يشاركون في السياسة يتزايد عدم تصويتهم، ويتحهون إلى الفعل المباشر. فهم لا ينضمون إلى كتلة الأحزاب المتنافسة على السلطة، ويبدعون مبادراتهم الخاصة "أحزاب ضغيرة"، شبكات تواصل، كما يبدعون مجموعات تقارب وتجمعات تداولية تشاورية وتجارب تشاركية.

هذه المجموعات لا تنتظر الإنتخابات. بل يسعون إلى إعلان وجهات نظرهم وغضبهم واستيائهم، بشكل فوري "هنا والاَن" وهم لا يطالعون وسائل الإعلام، لأنهم هم الميديا.

وينقل المؤلف عن العديد من الخبراء قولهم إن الشباب لا يتقبلون بوجه خاص السياسة الإنتخابية أو تيار السياسة السائد. أفلا ينبغي أن نتيح تعليم المواطنة في المدارس؟ لعل الإجابة هنا احتذاء مثال الأستراليين والبلجيكيين في جعل التصويت إلزامياً، فنقضي بذلك مرة واحدة على أحد أعراض انحسار اهتمامنا.

ثمة نقاش حيوي بشأن التمويل العام للأحزاب السياسية. إذا كانت الأحزاب السياسية هي بؤرة الحياة الديمقراطية في الأنظمة التمثيلية، أفلا ينبغي أن نفعل المزيد وننفق المزيد لتأكيد أن الأحزاب قادرة على القيام بدورها على نحو وافٍ؟ ألا ينبغي تشجيع ظهور أحزاب سياسية جديدة، بالإضافة إلى الأحزاب القائمة؟

يجيب تورمي: لكن اَخرين يرون أن الحصان قد فر من الإسطبل فعلاً. عنوان كتاب" "أيمكن إنقاذ الديمقراطية" لدوناتيلا ديلا بورتا، يعلن عن نفسه بإثارته للقلق، وكذلك أيضاً عنوان كتاب: "لماذا نكره السياسة"، فكما يظهر من تحليلاتهم: نحن لا نحب السياسة ولا السياسيين، ونتمنى أن يحل الطاعون بمنازلهم. الأكثر من هذا نرى السياسيين مسؤولين عن معظم العلل التي تواجهنا. لقد عبث السياسيون بعالمنا، وقد حان وقت استرداده منهم.

وكما مر، فإن المؤلف يستند في تحليلاته على مصادر متنوعة لأهم علماء السياسة والإجتماع. فيورد تورمي، كتاب "حياة الديمقراطية وموتها"  لجون كين، الذي يتناول تاريخ التجارب الديمقراطية، ويطرح المسألة بمزيد من الصراحة المسرفة: الديمقراطية تبدو "ميتة"، وهي ضحية تزايد عجز السياسة والسياسيين عن الإنخراط في حل مشاكل عصرنا، فتركوها تحل نفسها بنفسها.

ويضيف: أفضل ما يمكننا الطموح إليه هو نوع من التدبير"الرقابي"، حيث يمكن لمن يخضعون لأهواء السياسيين والتكنوقراط الجانحين، بطريقة أو بأخرى، محاسبة من يعتلون السلطة بطرق ووسائل متنوعة. وفيما يبدو أن الغارديان على صواب حين قالت: الانحدار نحو النهاية هو شارع ذو اتجاه واحد في اَخره مقبرة.

يعتقد تورمي في كتابه أن فكرة السياسة أو الديمقراطية على نحو أدق، بوصفها شكلاً من أشكال "حكم الشعب بالشعب لصالح الشعب"، التي التقطها ببراعة أبراهام لينكولن، ذبلت في بهرجة العولمة وتفكك القوميات ونظرية الخيار العام الليبرالية الجديدة واللامبالاة وغيرها من أمراض وفيرة.

ويرى تورمي أنه إن لم نعد بناء المؤسسات السياسية في مسارات تسمح بمدخلات من الناس العاديين أكبر في العملية السياسية، سيستمر الميل العام نحو عدم المشاركة والإنفصال. وسنكون نحن – الناس – معزولين بسبب نظام حكم الخبراء المستجد.

ويبين المؤلف أن الأكاديميين والمحللين السياسيين والمواطنين، يبدون أكثر ارتياباً في مزاعم النظرية والمشروع النظري بوجه عام. فالثقة في حكمة المثقفين أو المفكرين وبصيرتهم ينحسر مداها، ويعمل على تقويضها بلا شك نزوع العديدين داخل الأوساط الأكاديمية والحياة العامة إلى سكب الماء البارد على أي خطط خلاصية أو تحررية أو معيارية.

ويوضخ تورمي في كتابه أن مجاز انحسار السياسة وتحللها الذي يهيمن على التحليل المعاصر يخفي أكثر مما يكشف، ولا سيما أنه يهمل الكثير مما ينبغي تسميته سياسة، بل يميل إلى تحويله إلى مسارات جانبية تسمى "النشاط" أو "الإحتجاج" أو "الحشد والتحريك"، على حين تهتم بالسياسة "الحقيقية"، أي سياسة السياسيين والإنتخابات والأحزاب السياسية. إلا أنه يوجد الكثير من السياسة وراء هذا المجال المحدود. فثمة سياسة الحركات الإجتماعية، السياسة التحتية، غير الرسمية وغير المؤسسية، سياسة السكان المحليين، سياسة الشارع.

يتوقف تورمي عند ما يسميه سياسة الهامش والأطراف عند المحيط بعيداً عن المركز، وهي سياسة بمنأى عن النظر وعن العقل إلا حين تنفجر تلفزيونياً على نحو مذهل ودرامي. 

إن معظم هذا النوع من السياسة بلا قيادات كاريزمية، بلا شعارات أو هتافات جديرة بالذكر.. ربما توجد مبادرات أكثر طموحاً: مكافحة تغير المناخ، مجابهة فساد النخب، مقاومة النزعة الإستهلاكية، مواجهة سيطرة الطبقة العسكرية أو العسكرة، ومواجهة زحف السوق.

إن سياسة الشارع غير الرسمية، غير الجارية في تيار السياسة السائد، هي سياسة أكثر حيوية وتتميز بالقوة المفاجئة. هونغ كونغ أصيبت بشلل تام بسبب تحرك اًلاف الناس العاديين. البرازيليون نزلوا إلى الشوارع احتجاجاً على تضخم الميزانيات المخصصة لمشاريع الأبهة الإجتماعية والملاعب الرياضية.

وفي تركيا وبلغاريا اللتين كانتا تعدان حتى تلك اللحظة من "الديمقراطيات المتماسكة" اَمنة، خرج اًلاف الناس. ويمكننا الإستمرار في ذكر الكثير من الإنتفاضات والتمردات والهيجانات الجارية حالياً في أجزاء من الصين وشمال افريقيا ومناطق عديدة في أميركا اللاتينية والهند وبنغلاديش.

يكشف لنا الكتاب، إنه رغم اجتجاجات الشباب في الجامعات وقيام بعضهم بحملة توقيعات لموضوعات تخص مستقبلهم، إلا أن من هم على دراية بالمطبوعات ذات الصلة، يعرفون أن إحدى التيمات الدائمة في الأعمال التي تتناول موضوع أزمة التمثيل هي "ملل" الشباب أو "لا مبالتهم"، الملل واللامبالاة هما شيفرة إحجام الشباب عن التصويت لممثل يقوم بدور نيابة عنهم، أو تفويض نائب يتحدث باسمهم.