نساء تروين وجه الحرب الأنثوي!!

"خرجنا للمرة الأولى إلى الصيد. كانت شريكتي في الموقع ماشا كوزلوفا. قمنا بالتمويه، مستلقيات على بطوننا: أنا أقوم بالمراقبة وماشا تمسك بالبندقية. وفجأة، قالت لي ماشا: «أطلقي النار، أطلقي النار،…». أجبتها: «أنا أراقب. أنت أطلقي النار!».

رواية "ليس للحرب وجه أنثوي" للكاتبة سفيتلانا أليكسييفيتش
 

قراءة: روز سليمان 

في كتابها "ليس للحرب وجه أنثوي" الصادر حديثاً عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع تسترجع الكاتبة البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش(1948)، أصوات الطرقات والجنود والمنازل. تمتصّ من تاريخ الحروب طعمها ولونها ورائحتها. يصبح العرض في جهوزيته الروائية متاحاً لتقصّ علينا المؤلفة من لحظاتها مدداً وجدانياً عقلانياً في نفس الوقت؛ وأما الفراغ والعزلة فيكفيان عمراً للتأمل فيما سبق.

وكأن الرواية التي ترجمها إلى العربية نزار عيون السود تحمل وقع آلاف الحروب التي وقعت، القصيرة منها والمديدة، من وجهة نظر سفيتلانا، التي ترى بأن ما عُرِف منها من تفاصيل لم يكن كافياً، بل "غابت تفاصيل أخرى بين جثث الضحايا.

كثيرون كتبوا، لكن دومًا كتب الرجال عن الرجال، كلُّ ما عرفناه عن الحرب، عرفناه من خلال "صوت الرجل"، فنحن جميعًا أسرى تصوُّرات "الرجال" وأحاسيسهم عن الحرب، أسرى كلمات "الرجال"، أمَّا النساء فلطالما لُذن بالصمت".

تُثير الرواية أسئلة مهمة عن دور النساء في الحرب، ففي الحرب العالمية الثانية مثلاً شاركت تقريباً مليون إمرأة سوفيتية في القتال على الجبهات كافة وبمختلف المهام "لماذا لم تدافع النساء، اللواتي دافعن عن أرضهن وشغلن مكانهنَّ في عالم الرجال الحصري، عن تاريخهن؟ أين كلماتهنَّ وأين مشاعرهنَّ؟ ثمَّة عالم كامل مخفي. لقد بقيت حربهنَّ مجهولة".

في مجمل أعمالها التي تقارب المئتين منذ باكورتها في العام 1985، اختارت صحافية التحقيقات البيلاروسيّة أن تكتب أصوات الناس واعترافاتهم، معتمدة نوعاً أدبياً سمح لها بتلك المقاربة للحياة بخصوصية مطلقة، والرواية التي بين أيدينا أنموذجاً.

أرادت الكاتبة في "ليس للحرب وجه أنثوي" أن تكتب تاريخ الحرب على لسان نسائها. إنها تبحث عن شيء مختلف، تتعقّب الروح لمعرفتها وتسجّل. ليس الأهم "كيف حدث هذا؟" بل "ما الذي حدث مع هذا الإنسان؟ ماذا رأى هناك وماذا أدرك؟ عن الحياة وعن الموت عامّة". تكتب إشباعاً لرغبة السؤال "ما الذي أريد سماعه بعد عشرات السنين؟.. كُتِبت الرواية لأن النساء من وجهة نظر الكاتبة تبقَين صامتات. "حتى النساء اللواتي كُنَّ في الجبهة، يلذن بالصمت. وحتى إذا ما بدأن يتذكَّرن، فيتذكَّرن حرب "الرجال" وليس حرب "النساء"".

من خلال عملها الصحافي والمهمّات التي أُوكلت لها، كانت أليكسييفيتش في كثير من المرات الشاهدة الوحيدة، والمستمعة الوحيدة لنصوص وأقوال جديدة "عندما تتحدَّث النساء فليس لديهنَّ، أو تقريبا ليس لديهنَّ ما اعتدنا قراءته وسماعه: كيف قتل بعضهم الآخرين، ببطولة، وانتصروا عليهم. أو انهزموا أمامهم. وأية معدات تقنية لديهم وأي جنرالات؟ القصص والأحاديث النسائية مغايرة تماماً. حرب "النساء" تخلو من الأبطال والمآثر القتالية التي لا تُصدَّق. وفيها لا يشعر الناس وحدهم بالألم والمعاناة، بل كذلك الأرض، والطيور والأشجار. وكل من يعيش معنا على هذا الكوكب. إنهم يتألَّمون من دون كلمات؛ وهذا أشدُّ وأرهب".

تروي سفيتلانا : "في إحدى الحروب كان هناك مئتا جريح في حظيرة، وأنا وحدي. نُقل الجرحى للتوِّ من ساحة المعركة، أعدادهم كثيرة. هذا حدث في إحدى القرى… لا أذكر اسمها، فكم من السنين مرَّت! أذكر أنني لأربعة أيَّام لم أعرف طعماً للنوم أو للجلوس. كنت أركض من جريح إلى آخر. ذات مرَّة، تعثَّرت وسقطت على الأرض، وغفوت على الفور. استيقظت على صوت الصراخ".  وتتابع الرواية على لسان الجندية والممرّضة ناتاليا إيفانوفنا سيرجييفا "إن الإنسان لا يعرف أبداً قلبه. شتاءً، اقتادوا أمام وحدتنا جنوداً أسرى ألماناً. كانوا يسيرون مرتجفين من شدَّة البرد، وقد غطُّوا رؤوسهم بقطع من البطَّانيات، بمعاطف محروقة. وكان الصقيع شديداً إلى درجة أن الطيور ما إن تطير حتى تسقط. لقد تجمَّدت الطيور. وفي هذا الطابور كان يسير جنديٌّ، شابٌ، وقد تجمَّدت الدموع على خدَّيه… وأنا كنت أنقل الخبز إلى المطعم على عجلة. لم يستطع أن يرفع عينيه عن العجلة، هو لا يراني، بل يرى العجلة وحدها. خبز… خبز… قسمت قطعة من الرغيف وأعطيته. فأخذه… أخذه وهو غير مصدِّق… غير مصدِّق! شعرت بالسعادة… شعرت بالسعادة، لأنني لا أعرف الكراهية. أنا نفسي ذُهلت من نفسي…".

تبدو الكاتبة شخصية داخل روايتها أيضاً، أو بالأحرى وكأنها تستعير شخصية لتقوم بأداء دور لها بين السطور وفي عمق الجدل والعقل والقلب. وكأنها بتواطؤ روائي صحافي تأتي المؤلفة بمعارفها وشخوصها وناسها وأهلها ليعيدوا هم معها ترتيب الحكايا الوثائق. قد يبدو هذا ظاهرياً تبادلاً للأدوار، إلا أنه عند سفيتلانا ليس أكثر من سعي متبادل لتشريح الحال كلها.

نقرأ : "أبي كان يحارب هناك. كنا نظن أننا نحن الفتيات سنكون وحيدات، متميِّزات… وعندما وصلنا إلى مديرية التجنيد وجدنا العديد من الفتيات، فتملَّكني العجب. وتسارعت نبضات قلبي بقوَّة. لكن الانتقاء كان صارماً للغاية. الشرط الأوَّل: يجب أن تكون بحالة صحِّية جيِّدة وبقوَّة بدنية. خشيت ألا يأخذوني، لأنني في طفولتي كنت أمرض كثيراً، كما أن عظامي واهنة، كما كانت تقول أمِّي. ولهذا كانت الفتيات ينعتنني بالصغيرة. وثانياً، إذا لم يكن هناك في الأسرة من الأطفال غير التي كان عليها الالتحاق بالجبهة، فلا يأخذونها عادة، لأنه لا يصح أن تبقى الأمُّ وحدها. يا لأمَّهاتنا! لم تكن الدموع تجفُّ من مآقيهن… كنَّ يؤنِّبننا ويرجيننا… لكن، كان عندنا في الأسرة شقيقتان صغيرتان وشقيقان أصغر مني بكثير، لكن تم احتسابهم. ثمَّ إن الجميع تركوا الكولخوز، ولم يعد هناك من يعمل، ولم يرغب مدير الكولخوز في مغادرتنا. وباختصار، رفضوا أخذنا إلى الجبهة.. كنا جميعنا متحمِّسات، قلوبنا كانت تنبض بقوَّة.. كنا نتحرق شوقاً لتحقيق ما أردنا… من سيتكلَّم باسمنا، من الأكثر جرأة؟ كنا نظن أنه لن يكون هناك أحد غيرنا، لكن كان من المستحيل المرور في الحشود التي يغصُّ بها الرواق، وليس الاقتراب من السكرتير الأوَّل. فقد توافدت الشبيبة من جميع أنحاء البلاد، فكثير منهم أصبح ضمن المناطق المحتلَّة واستشهد ذووهم، وتشوَّقوا للذهاب إلى الجبهة انتقاماً. من جميع أنحاء الاتِّحاد السوفييتي. نعم، نعم… وباختصار، شعرنا بالحرج بعض الوقت...".

بهذا الأسلوب تبدو الحالة الحميمية في الرواية رحلة في صفحات الحرب، وتبدو وشوشة من نساء عشن اللوعة والحرقة جعلت منها سفيتلانا ترسّبات في قعر النصّ الأدبي الروائي بامتياز: "في الفترة الأولى، أعترف، كنت أخشى الإمساك بالبندقية في يدي، كنت أشعر بشعور غير مستحب، ولم أستطع أن أتصوَّر أنني سأقتل أحداً ما، كلُّ ما أردته هو الذهاب إلى الجبهة. كانت حلقتنا تضمُّ أربعين فتاة. من قريتنا وحدها أربع فتيات، صديقاتي، ومن القرية المجاورة خمساً، وباختصار، كانت هناك فتيات من كلِّ قرية، وجميعهنَّ فتيات؛ فالرجال قد سبقونا إلى الحرب، كل من كان في وسعه ذلك. أحياناً، كان يأتي المراسل، ويطلب منا الاجتماع خلال ساعتين، ثمَّ يأخذهن معه. كانوا يأخذون الناس حتى من الحقول. لا أذكر الآن، هل كانت هناك حفلات رقص في القرية، لو كانت فالفتاة تراقص فتاة، لم يكن هناك شباب. لقد سيطر الهدوء على قرانا... رغبت جميع الفتيات في الالتحاق بالجبهة".

وفي أجواء الرواية، نقرأ أيضاً على لسان إحدى البطلات: "أنا معلِّمة تاريخ… أذكر أن كتاب التاريخ المدرسي أُعيدت كتابته ثلاث مرَّات. وقد علَّمت الأطفال بثلاثة كتب مدرسية مختلفة… اسألونا، ما دمنا أحياء، ألن تعيدوا كتابته دوننا؟ اسألوا… أتعرفين كم هو صعب قتل الإنسان؟ كنت أمارس المقاومة سرَّا. بعد نصف عام كُلِّفت بمهمَّة: أن أعمل نادلة في مطعم الضبَّاط الألماني… أنا شابَّة… جميلة… وظَّفوني. كان عليَّ أن أنثر السُّمَّ في قدر الحساء، وفي اليوم نفسه ألتحق بالمقاومة. لكنني اعتدت على العمل في المطعم، إنهم أعداء، لكنني أراهم كل يوم، وهم يقولون لي «شكراً جزيلاً… شكراً جزيلاً». هذا صعب… قتل الإنسان صعب. القتل أصعب من الموت… طيلة حياتي العملية كنت أدرِّس التاريخ… ودوماً لم أكن أعرف، كيف أتحدَّث عن هذا، بأية كلمات".

وتنتقل الكاتبة لاحقاً إلى قصّة ماريا إيفانوفنا موروزوفا «إيفانوشكينا»، جندية قنَّاصة برتبة عريف: "هناك، حيث كانت قريتي دياكوفسكوي، شُيِّد الآن حيُّ موسكو البروليتاري. بدأت الحرب، ولم أكمل العام الثامن عشر من عمري. كانت جدائلي طويلة جداً، حتى ركبتيَّ… لم يصدِّق أحدٌ أن الحرب ستطول، كان الجميع يتوقَّعون أنها ستنتهي، ستنتهى قريباً، ونطرد العدو. كنت أعمل في الكولخوز، ثمَّ أنهيت دورات محاسبة، وبدأت أعمل. استمرَّت الحرب… رفيقاتي… صديقاتي قلن لي: "علينا أن نذهب إلى الجبهة". كان هذا حديث الجميع. سجَّلنا أسماءنا في دورات في مديرية التجنيد. ربَّما بعضهنَّ سجَّلن حباً برفيقاتهن، لا أدري. تعلَّمنا هناك إطلاق النار من بندقية حربية، ورمي القنابل اليدوية".

تحاول شخصيات الرواية أن تصف كل شيء، الحب والموقف من الكراهية في كتلة أدبية تسعى صاحبتها إلى إيجاد عمود فقري يحمل معها العبء الإنساني في كافة تجلياته: "كانت لدينا ورقة رابحة، فنحن لسنا وحدنا، بل عددنا أربعون فتاة وكلُّنا نعرف استخدام البندقية وتقديم المساعدة الطبِّية الأوَّلية. قيل لنا: «اذهبن وانتظرن. سنلبِّي طلباتكنَّ». عدنا والسعادة تغمرنا، لا يمكنني نسيان هذا … بعد يومين، وصلت دعوة للالتحاق بالجبهة لكلٍّ منا… حضرنا إلى دائرة التجنيد. وهنا أدخلونا من باب، وأخرجونا من باب آخر… دخلت بضفيرة جميلة، وخرجت دونها… دون ضفيرة… حلقوا شعرنا على الطريقة العسكرية… وأخذوا فساتيننا. لم أتمكَّن من إرجاع ضفيرتي وفستاني لأمِّي، فقد رجتني أن أترك أثراً مني عندها. وألبسونا على الفور قمصاناً وسراويل، وقبَّعات، وزوَّدونا بحقائب ظهر، ونقلونا بقطار الشحن، وأجلسونا على القش. لكن القشَّ كان طازجاً طرياً، تفوح منه رائحة الحقل. شُحِّنا بمرح. بجرأة. مع الطرائف والنكات. أذكر، كم ضحكنا كثيراً!.... وتعلَّمنا فكَّ وتركيب بندقية القنص بأعين مغمضة، وتحديد سرعة الريح، وحركة الهدف، والمسافة من الهدف، وحفر الحُفر، والزحف على البطن… كل هذا تعلَّمناه. المهم أن نتوجَّه إلى الجبهة بأسرع وقت، إلى النار… نعم، نعم… بعد انتهاء الدورة، حصلت على علامة كاملة في الرمي والمناورة. الأصعب كان، كما أذكر، الاستيقاظ على جرس الإنذار والتهيئة الكاملة خلال خمس دقائق. أخذنا جزماتنا أكبر من مقاسات أرجلنا بدرجة أو درجتين، كي لا نضيع الوقت في ارتدائها. خلال خمس دقائق، كان علينا ارتداء ملابسنا وتجهيز أنفسنا والوقوف في الصف. حدث مرَّات عدة أن ارتدينا فيها الجزمة من دون جوارب. وكادت إحدى الفتيات أن تتجمَّد رجلها في الجزمة. ولاحظ المدرِّب، فوجَّه ملاحظة إلينا وعلَّمنا كيف نلفُّ أقدامنا بقطعة قماش. كان يقف أمامنا ويهدر: «يا فتياتي، كيف سأجعل منكن جنوداً، وليس هدفاً للضباط؟» فتياتي…فتياتي… الجميع كانوا يحبُّوننا ويشفقون علينا. بينما كنا ننزعج من أنهم يشفقون علينا. أو لسنا جنوداً مثل الآخرين؟".

الكتاب رواية ضمن شكل من أشكال التحقيق الصحافي، تركز الكاتبة على اللحظات الإنسانية، من دون أن تهمل في أي لحظة موقفها الواضح من الحرب أيا كانت. فمن قصص البطلات نقرأ: "وعندما ظهر للمرَّة الثالثة، للحظة واحدة – يظهر تارة ويختفى تارة – قرَّرت أن أطلق النار. وفجأة ظهرت في خاطري فكرة: إنه إنسان، وإن كان عدواً، لكنه إنسان. وبدأت أشعر بارتجاف يديَّ، وجسمي كلِّه، وانتابتني قشعريرة وخوفٌ ما… كان من الصعب عليَّ إطلاق النار على إنسان حي، بعد تدريبي على إطلاق النار على أهداف خشبية. إنني أراه في عدسة منظار البندقية، أراه جيِّداً. وكأنه قريب مني… وداخلي شيء ما يمنعني… لا يسمح لي، لا يمكنني اتخاذ قرار. لكنني تمالكت أعصابي وضغطت على الزناد… فلوَّح بيديه وسقط. لا أعرف، قُتل أم لا. لكن قشعريرة أكبر سيطرت عليَّ بعد ذلك، وظهر خوف مجهول: أقتلتُ إنساناً؟! كان عليَّ أن أعتاد على هذه الفكرة. نعم… باختصار: شيء رهيب! لا يمكن أن أنساه…".

وتضيف الرواية سرد القصص بأسلوب تشويقي سهل وممتع "الكراهية والقتل ليسا عملاً نسائياً. ليسا عملنا… كان عليَّ أن أقنع نفسي. أن أحث نفسي… ".

نقرأ في مكان آخر: "خرجنا للمرة الأولى إلى الصيد. كانت شريكتي في الموقع ماشا كوزلوفا. قمنا بالتمويه، مستلقيات على بطوننا: أنا أقوم بالمراقبة وماشا تمسك بالبندقية. وفجأة، قالت لي ماشا: «أطلقي النار، أطلقي النار،…». أجبتها: «أنا أراقب. أنت أطلقي النار!».

 

*كاتبة سورية.