أسئلة "فتيان الزنك" عن الحرب وعمّن يموت فيها بالصدفة!!

يضمّ الكتاب مقابلات مع جنود عائدين من الحرب في أفغانستان، مع أمهات وزوجات جنود قُتِلوا هناك. تثير الكاتبة البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش أسئلة حسّاسة عن الحرب عموماً، متخذة من الحرب في أفغانستان (1979-1989) نموذجاً. آلاف القتلى والمعوقين والمفقودين. "من نحن؟ لماذا فعلنا ذلك؟ ولماذا حصل لنا ذلك؟ والأهم، لماذا صدّقنا ذلك كله؟".

رواية "فتيان الزنك" للكاتبة سفيتلانا أليكسييفيتش

قراءة: روز سليمان* 

 

تستأنف الكاتبة البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش في عملها "فتيان الزنك" الصادر حديثاً عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع – دمشق 2016، الكتابة عن الحرب في إثارة الأسئلة، مدفوعة بعيش التجربة إلى توليد خطاب إنساني يسرد سِيَر من مات في الحرب بأصوات مرتعشة يندمج مع صوت روائي جادّ يدرك كيف يمكن للرواية أن تقرأ صخب التاريخ حتى وإن اضطرت للاحتفاظ منه بقسوة غير طبيعية.

يأتي الكتاب الذي نقله إلى العربية الكاتب والمترجم العراقي عبد الله حبه في 364 صفحة من القطع المتوسط؛ متوافقاً مع صيغة الرواية الوثائقية، ضمن سمات من المصداقية والقدرة الأدبية للتمييز بسهولة كونه نثراً أدبياً مبتعداً عن احتمال نسبه إلى صيغة التقرير أو الريبورتاج الصحفي.

يضمّ الكتاب مقابلات مع جنود عائدين من الحرب في أفغانستان، مع أمهات وزوجات جنود قُتِلوا هناك. تثير سفيتلانا أسئلة حسّاسة عن الحرب عموماً، متخذة من الحرب في أفغانستان (1979-1989) نموذجاً. آلاف القتلى والمعوقين والمفقودين. "من نحن؟ لماذا فعلنا ذلك؟ ولماذا حصل لنا ذلك؟ والأهم، لماذا صدّقنا ذلك كله؟".

يرد في الكتاب أيضاً جزء من الوثائق المتعلقة بمحاكمة الكاتبة إثر نشر مقاطع من الكتاب في صحيفة "كمسمولسكايا برافدا" بتاريخ الخامس عشر من شباط - فبراير 1990، بتهمة "إساءتها إلى شرف وكرامة أحد أصحاب الدعوى وهو أحد أبطال كتابها، لأنها لم تورد أقواله حرفياً".

الكاتبة التي تكتب أدباً متعدد الأصوات لشهود مرحلة ما، حازت على عشرات الجوائز الدولية؛ أهمها جائزة السلام من معرض فرانكفورت للكتاب 2013، وجائزة نوبل للآداب 2015، التي نالتها عن مجمل أعمالها. طلبت وقتها إجراء اختبار من قبل خبراء الأدب مرتين، لكنها قوبلت بالرفض من المحكمة!.

تكتب "فتيان الزنك" وتدوّن التاريخ المعاصر والراهن. أصوات حيّة، ومصائر حيّة. إنها قبل أن تصبح تاريخاً كانت أيضاً أوجاع أحد ما، وصرخة أحد ما، وتضحية أحد ما أو جريمة أحد ما. نقرأ "أنا سألت نفسي مرات عديدة: كيف يمكن أن أحيا وسط الشر، من دون مضاعفة الشر في العالم، بالأخصّ الآن حين يكتسب الشرّ مقادير هائلة؟ وأنا أسأل نفسي عن ذلك قبل تأليف كل كتاب. هذا عبئي. هذا مصيري".  

في الرواية قرابة السبعين بطلاً، والأبطال هنا شهود الحرب في القصص والاعترافات التي رووها للكاتبة. بعضهم رغب في أن تبقى اعترافاته سراً لذلك لن نقرأ في الكتاب الأسماء الحقيقية، وأيضاً ثمّة من يريد أن ينسى كل شيء. لكنها احتفظت بالأسماء في يومياتها، فربما رغب أبطال الرواية في وقت ما أن يُعرَفوا!!.

تقول رواية أحد أبطال الكتاب تاراس كيتسمور حين عاد من الحرب: "أرى في الحلم أنني نائم وأرى بحراً كبيراً من البشر.. الجميع بالقرب من بيتنا... ألتفت، وأشعر بالضيق، لكنني لسببٍ ما لا أستطيع النهوض. وعندئذ أدرك أنني أرقد في تابوت... تابوت خشبي بدون غلاف من الزنك. أذكر هذا جيداً. لكنني حيّ، أذكر، حي، لكنني أرقد في تابوت. وتفتح البوابة ويخرج الجميع إلى الطريق، يحملونني إلى الطريق. حشود الناس، تبدو على وجوههم جميعاً علامات الحزن بالمصاب وكذلك بهجة خفية ما... غير مفهومة بالنسبة إليّ.. ماذا حدث؟ لماذا أنا في التابوت؟ وفجأة توقفت المسيرة وسمعت من يقول: "هاتوا المطرقة". وعندئذ وردت في ذهني فكرة أنني أرى حلماً.. وكرّر أحدهم مرة أخرى "هاتوا المطرقة". وسمعت كيف أغلق فوقي الغطاء وصوت المطرقة، وانغرس مسمار في إصبعي. وأخذت أدقّ الغطاء برأسي وقدمي. فانفتح الغطاء، وسقط. وتطلّع الناس-وأنا نهضت، نهضت حتى مستوى الحزام. وأردت أن أصرخ : هذا يوجعني، لماذا تغلقون عليّ الغطاء بالمسامير؟ أنا لا أستطيع التنفّس هناك. لكنهم يبكون، ولا يقولون لي شيئاً. إنهم صمٌّ بكمٌ جميعاً. وعلى وجوههم علامات البهجة، البهجة الخفيّة.. إنها لا تُرى.. أما أنا فأراها، وأحدس بوجودها. ولا أدري كيف أتحدّث معهم من أجل أن يسمعوني. يبدو لي أنني أصرخ، وشفتاي ملصقتان ولا أستطيع فتحهما. وعندئذ استلقيت مجدداً في التابوت. كنت راقداً وأنا أفكر: إنهم يريدون أن أموت، ربما أنا ميت فعلاً، ويجب التزام الصمت. ومرة أخرى قال أحدهم: "أعطوني المطرقة...".

لكن هؤلاء الأشخاص الذين قالوا لها كل ما كتبته هم نفسهم الذين استدعوها إلى المحكمة وتخلّوا عمّا قالوه منذ عدة أعوام، تقول الكاتبة سفيتلانا: "لقد تغيّر في وعيهم المفتاح الرقمي، وهم يقرأون النصّ السابق بصورة مغايرة، أو لا يعترفون به عموماً. لماذا؟ لأنه لا يحتاجون إلى الحرية.. إنهم لا يعرفون ما الذي سيفعلونه بها..".

وهنا يطرح السؤال: متى كان "بطل" الكتاب صادقاً: عندما أعطى موافقته على التحدث مع أليكسييفيتش عن ذكرياته حول الحرب في أفغانستان، أم عندما قرّر تحت الضغوط الدفاع عن المصالح الجماعية لفئة معينة من الناس؟. فعندما طلب مركز بين البيلوروسي من معهد الأدب يانكا كوبالا التابع لأكاديمية علوم جمهورية بيلاروس، إجراء اختبار أدبي مستقل للرواية؛ أول سؤال طرحه المعهد: هل في هذه الحالة يوجد حق أخلاقي في ملاحقة الكاتبة قضائياً، وهي الكاتبة التي جرى الوثوق بها سابقاً وعرف الأبطال أن اعترافاتهم ستنشر من قبلها؟.

واعتبر معهد الأدب أن ما نشر من مقاطع في الكتاب لم يكن إلا بمثابة "دعاية للكتاب الذي سينشر قريباً". وأيضاً دافع عن الكاتبة بالقول "من المستحيل أن يرد في العمل الأدبي الوثائقي الكلام الحرفي للأبطال كلمة فكلمة. في نهاية المطاف فإن كل شيء يتحدد بموهبة المؤلف الأدبية ومواقفه الأخلاقية، وقدرته على جمع الجانب الوثائقي بالتصوير الأدبي".

فما الذي يجب أن تدافع عنه الروائية؟ هل تدافع عن حقها ككاتبة في رؤية العالم كما تراه، وعن حقها في كره الحرب؟ أم يجب عليها أن تثبت بأن هناك حقيقة وشبه حقيقة؟. أليست الكتب في النهاية وثيقة ورؤية للزمن في الوقت نفسه. أليست الكتابة تفاصيل ومشاعر لكامل هواء هذا الزمن وفضاءاته وأصواته. فعندما دافعت عن نفسها في المحكمة قالت أليكسييفيتش: "أنا لا أبتدع شيئاً، ولن أضيف من عندي، بل أجمع مواد الكتاب من الواقع نفسه. الوثيقة هي ما يروونه لي، الوثيقة، وجزء منها، هي أنا ككاتبة لها رؤيتها للعالم وأحاسيسها". وأضافت "لماذا رفضت المحكمة مرتين طلب إجراء تقويم للنصّ من قبل خبير أدبي؟ لأنه سيكون واضحاً فوراً أنه لا تتوفر الحيثيات للمحاكمة. تجري محاكمة الكتاب، ومحاكمة الأدب، لاعتقادهم بأنه ما دام هذا الأدب وثائقياً فيمكن إعادة كتابته مجدداً في كل مرة، وتكييفه لمتطلبات الفترة الراهنة".

ومن شهادة ممرّضة عادت من الحرب في أفغانستان كتبت أليكسييفيتش: "هنا في الوطن لديهم أمهات وأخوات، وزوجات. هنا لا يحتاجون إلينا. أما هناك فكانوا يصارحوننا بأمور لا يتحدثون بها إلى أي أحد في حياتنا هنا. فإن أنت سرقت من رفيقك الحلوى بالشوكولاته وأكلتها، يعتبر هذا الأمر هنا شيئاً تافهاً. أما هناك فهو خيبة أمل كبيرة في شخصك. إن تلك الظروف تكشف خبايا النفس. فإذا كان الفرد جباناً فسرعان ما يتّضح أنه جبان. وإذا كان واشياً فسرعان ما يتبيّن أنه واشٍ... وأنا لست واثقة فيما إذا كان أحد ما يعترف هنا، لكنني سمعت هناك من أكثر من فرد: قد يعجبني القتل، والقتل متعة. هذا شعور حادّ..".

وأما أمّ أحد الجنود الذين ماتوا هناك فتقول: "حملوه إلينا بعد عشرة أيام. وكنت خلال الأيام العشرة كلها أفقد شيئاً ما في الحلم ولم أستطع إيجاده. وفي جميع تلك الأيام كانت تصفر غلاية الشاي في المطبخ. وتضع الغلاية لتسخينها فإذا بها تغني بمختلف الأصوات... لا تقولوا! لا تقولوا لي أي شيء! أنا أكرهكم! أعطوني فقط جثمان ولدي... سأدفنه كما أريد. لوحدي. لا أريد أية مراسم...".

يعتبر الكتاب أن هذا الصراع العنيف الذي رافقته المرافعات القضائية ليس من أجل معرفة الحقيقة عن الحرب؛ بل من أجل النفس البشرية الحية، وحقّها في الوجود في عالمنا البارد وغير المريح. والذي يمكن أن يصبح فقط حاجزاً في طريق الحرب "ستتواصل الحرب ما دامت تفور في عقولنا الحائرة. إنها نتيجة محتومة فقط لما تراكم في النفوس من حقد وشر".

تحمل الرواية مساراً فنياً متميزاً ومفاهيم سرد روائي لها خصوصيتها ونجحت في اختيار المادة والمعالجة الأدبية لأقوال الشهود بالدمج مع رؤية كاتبتها للحدث. تقول زوجة أحد الجنود الذين ماتوا في الحرب: "أنا لا أدري بماذا أجيب ابنتي. وكيف أفسّر لها؟ أنا نفسي في الحادية والعشرين من العمر.. في الصيف أخذتها إلى أمي في القرية. فلربما ستنساه هناك. لا أمتلك القوة على البكاء في كل يوم.. وفي كل دقيقة. عندما أرى زوجاً وزوجة وطفلاً معهما، أبكي. إن روحي تصرخ، وجسدي يصرخ... كنت أقول له في الليل: "قم ولو دقيقة واحدة وانظر كيف كبرت ابنتنا! إن هذه الحرب غير المفهومة قد انتهت بالنسبة إليك. أما بالنسبة إليّ- فلا. وبالنسبة إلى ابنتنا؟ إن أبناءنا من أكثر الأبناء تعاسة، إنهم سيحاسبون عن كل شيء. هل تسمعني..". لمن أصرخ؟ ومن يسمع؟".

"من يقدم حالياً على دعوة الغوغاء إلى الشارع، الغوغاء التي لم تعد تصدّق أي أحد؛ لا الكهنة ولا الكتّاب ولا رجال السياسة؟ إنها تريد فقط ممارسة التنكيل والدم.. والرجل الذي يحمل الريشة أو بالأحرى القلم فإنه يزعجها. لقد علّموني هنا كيف يجب أن أؤلِّف الكتب". هذا ما كانت تفكر به سفيتلانا في دخيلة نفسها لدى الاستماع إلى كل ما قيل في قاعة المحاكمة من تناقضات!.

ما زالت تجري في العالم، للأسف، محاكمات مماثلة لتلك التي جرت للكاتبة سفيتلانا أليكسييفيتش. فقد تعرض إلى الملاحقة القضائية في بريطانيا بعد الحرب الكاتب ج. أورويل صاحب كتاب "1948" الذي وجهت إليه تهمة الافتراء على نظام الدولة. واليوم يعرف أن موضوع هذا الكتاب كان الشمولية بالصيغة التي انبثقت في العشرينات. ووجه اللوم منذ فترة وجيزة إلى الكاتب ف. بيكوف بتهمة الافتراء على الجيش السوفييتي..

"يصعب عليّ الكتابة عنا، نحن الحاضرين في صالة المحكمة. لقد تساءلت سفيتلانا أليكسييفيتش في كتابها الأخير "المسحورون بالموت" قائلة: "من نحن؟ نحن أناس الحرب؟ نحن إما قاتلنا أو استعددنا للحرب. ولم نعش أبداً بشكل آخر".

وكأن القناعة التي أرادت الكاتبة ترسيخها طول صفحات الرواية ومتاهات السرد وغرابة القصص، بأن ما ينقذ الإنسان في الحرب هو تشتّت وتبدّد وعيه. لكن الموت من حوله يتّسم بالحماقة ويحدث بالصدفة، من دون أية أفكار مسبقة.

 

*كاتبة سورية.