الدولة العربية: معضلة التكوين المتأخر

يشرح الباحث أدهم صولي في كتابه ضعف الدولة العربية وضعف مؤسساتها وأدائها وبالتالي دور الإقتصاد الريعي القائم فيها والذي يعتمد على عائدات البترول والذي يغني بدوره عن حاجة الدولة لمواطنيها من أجل استمرار عمل المؤسسات فيها.

كتاب "الدول العربية: معضلة التكوين المتأخر" للبروفسور أدهم صولي

 قراءة: عبير بسام* 
في قراءتنا لكتاب البروفيسور أدهم صولي المعنون،"الدولة العربية: معضلة التكوين المتأخر" الصادر باللغة الإنجليزية  عن دار روتليج في لندن، سوف نعرض لما يراه الكاتب حول معضلة نشوء الدول العربية وبقائها واستمراريتها. فدول الشرق الأوسط والتي يعني بها الكاتب هنا، دول الجامعة العربية الإثتين والعشرين بالإضافة الى تركيا وإيران وإسرائيل. غير أن الكتاب يتحدث عن الدول العربية بشكل حصري، والتي كان نشوؤها حديث العهد مقارنة بالدولة في أوروبا بالشكل المعروف. أما هدف الكتاب، وهو أطروحة الكاتب لنيل شهادة الدكتوراه، فهو محاولة التوضيح والتدقيق في أسباب بقاء هذه الدول واستمراريتها حتى اليوم. وذلك من ناحيتين: الأولى تتعلق بحدود الدولة المقامة ورسم حدودها الجغرافية، والثانية لها علاقة ببقاء واستمرارية النظام الحاكم فيها.

السؤال الأساس الذي يطرحه أدهم صولي، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة أدنبرة في اسكتلندا، هو: تحت أية ظروف تبقى الدول المتأخرة التشكل سليمة؟ ومن خلال  قراءة الظروف التي أمنت بقاء هذه الدول تبرز الأسئلة التالية: كيف ولماذا انبثقت الدول المتأخرة الظهور؟ والأهم من ذلك ما الذي تعنيه الدولة ضمن السياق التي وجدت فيه؟ وهل الدولة العربية هي دولة طارئة أم مشابهة لمثيلاتها من الدول الأخرى في العالم؟ وهل بقاء هذه الدول يقع من ضمن الديناميكية العالمية أو ضمن النظام العالمي الذي كفلها؟

يشرح صولي ضعف الدولة العربية وضعف مؤسساتها ودورها وأدائها مناطقياً وعالمياً. وبالتالي دور الإقتصاد الريعي القائم فيها والذي يعتمد على عائدات البترول والذي يغني بدوره عن حاجة الدولة لمواطنيها من أجل استمرار عمل المؤسسات فيها. والحاجة الى المواطنين يكون من خلال النظام الضرائبي الذي ينظم علاقة الفرد بالدولة وبالعكس. وهذا ما يحرر الدولة من الإتكال على عائدات الضرائب من أجل تمويل قطاعات الدولة.

كما تمكن عوائد البترول الدولة من تمويل الخدمات الإجتماعية المقدمة للمواطنين مما يضمن اعتمادهم على النظام القائم بدل اعتماد النظام على وجودهم، حيث تختلف ظروف نشأة الدول العربية عن ظروف النظام الذي أنشاها، فهي جميعاً حديثة التشكل، وجاءت بعد أن اتخذت الدول في العالم شكلها الذي نعرفه وبالتالي معضلة ضعف بنيان الدولة العربية مرتبط بشكل أو بآخر بالنظام الذي أوجدها. وأخيراً يتميز نظام هذه الدول بالتحكمية الداخلية والحيادية الخارجية. وبالتالي فإن التحكمية الداخلية تزيد من تحصين النظام لقوته وتمنع الآخرين من تحديه. وأما الحيادية الخارجية فهي مشتقه من، ومحافظ عليها من قبل، التوازن الذي يحققه نظام القوة الموروث من نظام الفوضوية العالمية.

يتألف الكتاب من ستة فصول هي: الفصل الأول: الدول والحقل الإجتماعي؛ الفصل الثاني: بناء الشرق الأوسط: الفوضوية العالمية، والتفاعلات المحلية؛ الفصل الثالث: الدول المتأخرة التشكل: الوجودية، المعضلات، وشروط البقاء. الفصل الرابع: العربية السعودية: استمرارية الدول المتجانسة؛ الفصل الخامس: العراق: استمرارية الدول المقسمة. أما الفصل الأخير فيقع فيه نتيجة البحث.

يتحدث الكتاب في البداية عن الدولة ضمن المفهوم الإجتماعي، والذي له دوران: خارجي وداخلي. ويبدأ بتعريف للدولة من خلال نظريتي العلاقات الدولية وعلم السياسة المقارن. ويقول إنه بحسب ماكس فيبر، فإن الدول هي عبارة عن "مؤسسة سياسية إلزامية، والتي طاقمها الإداري وبنجاح يستطيع أن يطالب بأحادية القدرة على فرض الإجراءات القسرية في استخدام القوة البدنية ونظامها داخل حدود معينة". وهي تتألف بالتالي من مؤسسات مختلفة مثل الأمن والاستخبارات والقضاء والمجلسين التشريعي والتنفيذي.

أما بحسب جويل مجدال وغيره من مؤلفي كتاب "قوة الدولة والقوى الإجتماعية" فإن تعريف الدولة هو أنها "حقل من السلطة يفرض من خلال الترهيب والعنف ويأخذ شكله النهائي في صورة متناسقة من خلال تحكم منظم ضمن حدود معينة، وما بين عمل وممارسات مختلف الأطراف التي تعيش ضمن هذه الحدود". وهذا التعريف هو عبارة عن الصورة الرمزية لسلطة الدولة والتي جاءت كرد فعل على الدراسات التي تبالغ بقدرات الدولة. والكلام هو تعبير عن قراءة الباحث صولي لتعريف الباحث مجدال.

ويعرض صولي تعريفات مختلفة تحاول أن تجد الصيغة النهائية لها من خلال محاولة فهم منهج مفهوم الدولة من خلال الصراع الإجتماعي، وذلك ابتداءً من بداية تشكّل الدولة كإجراء مرحلي للصراع الإجتماعي حتى الوصول الى الشرعية والإستقلالية.

فالدولة هي حصيلة اجراءات مرحلية تتشكل مع التطور الإجتماعي. والدول ليست عبارة عن منتجات يمكن تصديرها أو استيرادها من دولة الى أخرى، بل هي عبارة عن مؤسسات اجتماعية تتشكل من خلال الدعم الإجتماعي والتآلف والتصريف داخل حدود جغرافية محددة. ثم تبدأ القوى الإجتماعية بنوع من تصفية السلطة بين المجموعات حتى تصل الى مجموعة واحدة فقط. وبالتالي تبدأ هذه المجموعة بالتحكم بالسلطة من خلال نظام موحد يفرض من خلال عقيدة محددة ومن خلال فرض القوتين الإقتصادية والعسكرية.

ولكن الأمر لا يختلف في الجوهر في البلدان العربية ولكنه يختلف بالشكل من حيث كيفية رسم حدود الدول العربية، والتي جاءت نتيجة لعاملين: الاول هو ضعف وتفكك الدولة العثمانية؛ والثاني هو نتيجة لتوسع نظام الدول الأوروبية في العالم والشرق الأوسط، حيث كانت الفوضوية العالمية هي العامل الأهم في تقسيم وتشكّل دول الشرق الأوسط. هذا مع العلم، أن العلاقات الدولية الفوضوية، كمفهوم، لا تعني البلبلة أو الإضطراب. بل تعني، بحسب الكاتب، الفوضى الناتجة عن التوسع الإستعماري لدول أوروبا التي قامت بتقسيم المنطقة العربية بما يتناسب وقوة كل منها ومصالحه الإقتصادية والإستراتيجية.

وعليه، فإن العامل الأهم في بناء الدول الحديثة هو الدول القديمة التشكّل، اذا جاز التعبير. وفي جميع الأحوال، يجب أن ننتبه الى أنه في غياب السلطة الذاتية كنظام، فإنه يبقى العامل المحفز لبناء الدول هو السعي نحو البقاء والمنفعة الذاتية. هذا وتسعى القوى الدولية من خلال الفوضوية أن تحافظ على بقائها في عالم متنافس. وبذا يرى الباحث أنه من خلال التنافس الأوروبي أنتج الصراع الدولي الفوضوية التي أدت الى ظهور دول جديدة في الشرق الأوسط. ويدخل الكاتب في تفاصيل هذا الصراع الذي أدى إلى ما يعرف اليوم بالشرق الأوسط ودوله، وذلك من خلال إضعاف الدولة العثمانية وتقسيم الهلال الخصيب.

وهذا ما يدخل اليه من المرحلة التالية من الكتاب وبالفصيل حول تشكيل الدول في الشرق الأوسط. ومن ثم يأتي دور الأنظمة المحلية في كل دولة من أجل حماية التقسيمات التي أُعطيت للدول. فقد بدأت سيطرة الأنظمة على المستوى الداخلي وابتدأت عملية بناء الدول، وذلك من خلال ثلاثة أنواع من تطبيقات أشكال القوة، وهي الإخضاع القسري، والمصادر الإقتصادية والعقيدة السياسية. ومن ثم هنابك العامل الأمني، والذي على أساسه تتم حماية الدولة من الأخطار الخارجية. ولكن هذا النوع من الأخطار كان أساسياً في بناء الأنظمة الأمنية في نظام الدول القديمة، أما في نظام الدول الحديثة المنشأ فإن معنى الأمن تطور ليشمل الأمن داخل الحدود الى جانب الأمن خارج الحدود.

نشأت الدول العربية الحديثة كنتيجة لتقسيمات سايكس- بيكو. ومع ذلك فإن الأنظمة العربية قامت بإنشاء سلطة تخدم مصالح فئات محددة. وفي هذا السياق يعرض الكاتب تجارب دول محددة مثل لبنان وسوريا والعراق وغيرها، والأنظمة التي نشأت فيها.، والمراحل التي مرت بها هذه الأنظمة، منتقداً بشكل مبطن الديكتاتوريات التي نشأت من خلال عرض النظم التي سادت فيها: من نظام طائفي أو عشائري قبلي أو عشائري ملكي، والى ما غير ذلك.  ثم ينتهي به الحديث عن دور الفوضوية العالمية في التلاعب بالأنظمة الحاكمة أو دعمها أو محاولة تقويضها من الداخل أحياناً وذلك بحسب مصالحها.

يعطي الكاتب وفي شرح مفصّل لنظامين عربيين في العراق والمملكة العربية السعودية، حيث المثال الأول هو لنظام جمهوري أسري وعشائري وفي المثال الثاني النظام ملكي عشائري. مع العلم أن النظام الإقتصادي في الدولتين هو نظام ريعي، يعتمد على المصادر الطبيعية، والبترول، وليس على بناء اقتصادي متماسك من زراعة وصناعة... ومن خلال المثالين يحاول الباحث صولي أن يستنبط النمط الذي تتم من خلاله استمرارية الدولة وتأثير التدخلات الخارجية وحجمها.

 

خلاصة

ربما يمكننا من خلال قراءة الكتاب أن نسقط المعلومات والدراسة التي أتى بها على الواقع الحالي للدول العربية بعد مئة عام تقريباً على تشكلها. في البداية يجب أن نأخذ على الكاتب إهماله لمرحلة تشكّل الدول العربية الأولى، حيث نشأت الأنظمة فيها كمحميات من الدول التي استعمرتها أو انتدبتها. ولم تنتخب الحكومات في بداية القرن العشرين بناء على انتخابات مباشرة من الشعب بل عيّنت تعييناً. وهناك العديد من الأمراء والملوك التي تم عزلها بقوة سلاح الفوضوية العالمية وتم تنصيب سواها. لم يشرح صولي هذه النقاط، ولم يمر عليها. ليس الأمر دفاعاً عن الأنظمة العربية ولكن هو محاولة للقراءة من خلال ما جاء في الكتاب.

أما الحديث عن أن جميع الدول العربية هي حديثة المنشأ، فبالمبدأ الكلام صحيح، ولكن يجب استثناء مصر التي نشأت فيها أول دولة عربية حديثة، في ظل الإحتلال العثماني، ولكن مصر تمتعت باستقلالية حكامها ودورهم في بناء الصناعات وتطوير القطاع الزراعي. ولكن دور الدولة في مصر كما سواها تراجع في ظل الإحتلال الانكليزي الذي دعم نظام الملك من أجل دعم مصالح بريطانيا التوسعية العالمية الفوضوية.

وأما من ناحية أخرى، فإنه يمكننا أن نقرأ من خلال سطور الكتاب الخطر القادم مع المرحلة الجديدة من محاولة الدول القديمة إعادة تقسيم الدول الحديثة الى دول أكثر حداثة (بمعنى الصغر في العمر السياسي) وأكثر تخلفاً من أجل ضمان سلطتها ومصالحها. فالنظام الفوضوي يعود من جديد من أجل السيطرة على منابع النفط في العالم العربي وتقسيمه الى دويلات أشد طائفية وعرقية، في ظل فوضى خلاقة أشد قسوة من التي قرأناها في بداية القرن العشرين.

وبناء على هذه المرحلة من التقسيم الجديد فقد خسر الكثير من الأنظمة العربية الدعم الذي كانت تتلقاه من الدول الخارجية، الأمر الذي أدى إلى انهيار أنظمتها. وهذا ما حدث مع نظام صدام حسين، وحسني مبارك. وفي حقيقة الأمر لم يكن انهيار النظام التونسي إلا مقدمة لانهيار ليبيا، التي حافظ فيها نظام معمر قذافي على استمراريته بالرغم من معاضة الغرب له، ولم يكن من الممكن إسقاطه إلا بقوة حلف الأطلسي، ومن ثم بقوة المجموعات التي بثت الفوضى من أجل تقسيم ليبيا الى مجموعة من الدويلات، التي ستتصارع لفترة طويلة قبل أن تأخذ شكلها النهائي فيما اذا تم هذا الأمر.

كما يمكن الفهم، من خلال ما طرحه الكتاب، كيفية استمرار نظام القذافي على الرغم من معارضة الغرب له. والجواب هو: من خلال نظام أمني محكم وحكم عائلي عشائري أطبق على مقدرات الدولة في ليبيا، وبذا أحكم النظام سلطته في الداخل ولكنه تفلت في أمن الدولة الخارجي، وهذا ما لم تتعلم الدول العربية، كما يبدو، كيفية الحفاظ عليه. بالطبع لا يقع على صولي الإجابة على جميع الأسئلة في كتاب واحد، ولكن هذا لا يمنع من أن الكتاب يستطيع أن يفتح آفاقاً من القراءة الجديدة للمنطقة.