الأديب يوسف إدريس.. تشيخوف العرب

في مثل هذه اليوم الأول من آب أغسطس 1991 ، رحل يوسف إدريس عن عالمنا، بعدما تُوّج "أمير القصة القصيرة" وحمل لقب "تشيخوف العرب"، نسبة إلى الروائي الروسي أنطوان تشيخوف، باقترابه الحميم من الشخصية القروية والريفية المصرية. وما زالت المقالات عن إعادة اكتشافه مرات ومرات لا تنتهي، وكأنما انتبه الجميع فجأة للظلم الذي لحق بهذا الأديب، الذي سلط الضوء على مشكلات مجتمعه من خلال أدبه.

الأديب المصري الراحل يوسف إدريس

 

يوضح يوسف إدريس لماذا اختار القصة القصيرة بالقول: "إخترتها لأني أستطيع بالقصة القصيرة أن أصغّر بحرا ًفي قطرة، وأن أمرر جملا ًمن ثقب إبرة، أستطيع عمل معجزات بالقصة القصيرة، إنني كالحاوي الذي يملك حبلا ًطوله نصف متر، ولكنه يستطيع أن يحيط به الكون الذي يريد. القصة القصيرة طريقتي في التفكير ووسيلتي لفهم نفسي، والإطار الذي أرى العالم من خلاله، إنه الإطار الذي وجدني ولم أجده".

 

يقول أيضا ً"إن القصة القصيرة هي أصعب شكل أدبي وأسهل شكل أدبي في وقت واحد، إنه شكل سهل لا بد أن يمارسه كل شخص ولو في جانبه الشفوي ولكنه فن صعب، يحتاج إلى قدرة للأخذ بتلابيب لحظة نفسية خاطفة، والتعبير عنها في كلمات. لقد اخترع بيكاسو ذات مرة طريقة لرسم لوحة فوسفورية تختفي بعد دقيقة. هذه الدقيقة هي القصة القصيرة هي اقتناصي لحظة كشف خارقة".

 

ثمة من يعتبر أن جميع مشاكل وسقطات يوسف إدريس ترجع إلى كونه ولد كأديب في أغسطس آب سنة 1954 حيث أحدث إصدار مجموعته القصصية الأولى "أرخص الليالي" دويًا كبيرًا في الوسط الأدبي، مما دعا عميد الأدب العربي طه حسين للقول: "أجد فيه من المتعة والقوة ودقة الحس ورقة الذوق وصدق الملاحظة وبراعة الأداء مثل ما وجدت في كتابه الأول "أرخص ليالي" على تعمق للحياة وفقه لدقائقها وتسجيل صارم لما يحدث فيها وجعلته يشعر بأنه ولد نجما منذ اللحظة الأولى".

 

وربما تكون بذور الاكتئاب الأولى الجنينية قد نمت وأثمرت في فترة السجن. فقد دخل يوسف إدريس المعتقل في آب أغسطس 1954 وظل حبيسا ً فيه حتى أيلول سبتمبر 1955، والحصار والعزلة هي وقود الاكتئاب. وأغلب الظن أن العقاقير المخدرة قد تسربت إلى أوردته في تلك الفترة، إذ رفض يوسف إدريس أن يتخلي عن مفتاح شخصيته الفني حتى وهو ينهي شهر العسل القصير بينه وبين التنظيم الشيوعي. فقد خرج من التنظيم بشكل درامي حاد فهو لم يقدم استقالة هادئة أو يعلن بيانا ًعنترياً، وإنما خرج إثر لكمة وجهها إلى وجه مسؤول في التنظيم جاء ليلقنه مبادئ الاشتراكية الحقيقية!!.

 

وبعد هذا البوكس الدامي إنقطعت صلته بجميع التنظيمات السرية وتذبذبت مواقفه من التنظيمات العلنية، وظل يتعامل مع السياسة بمنطق الفنان الذي من الممكن أن يجمع كل المتناقضات، ويضرب عرض الحائط بكل إلتزام حزبي. فكان اليساري الذي يؤيد حزب الوفد، وينال جائزة "صدام حسين" ثم يهاجم النظام العراقي، وينضم إلى الاتحاد القومي مساعدا ًفيه لأنور السادات ثم يصطدم به صداما ًعنيفاً، حيث أبعد من الاتحاد القومي فخرج من الشارع السياسي إلى الشارع الحقيقي، حيث الوحدة والبطالة والإهمال والإنكار.

 

وهذا الإبعاد له قصة من المفيد أن نذكر تفاصيلها هنا حتى نتفهم أكثر شخصية يوسف إدريس المركبة، فهو إنضم إلى الاتحاد القومي والذي كان أنور السادات مسؤولا ًعنه في فترة معينة، وقام إدريس في تلك الفترة بصياغة كتاب للسادات عنوانه معنى "الاتحاد القومي"، وفجأة وكما يحكي الأستاذ رجاء النقاش صدر قرار رسمي بطرد يوسف إدريس من الاتحاد القومي، وأمره السادات بأنه لم يعد يرغب في رؤيته. أما توابع القصة فيرويها رشاد كامل، فبعد طرده إثر إتهام الرئيس جمال عبد الناصر للسادات بأنه يفتح الباب لمن يجرّون تنظيم الثورة إلى جهة اليسار، فاتجه إدريس إلى صحيفة الأهرام والتي كان قد عُيّن فيها منذ فترة بسيطة فوجد نفسه مطروداً، فخرج من مكتب محمد حسنين هيكل إلى مكتب السادات في مبنى المؤتمر الإسلامي والذي كان معارا ً له من وزارة الصحة، فأخبره السادات بأنه قد صدر قرار بطرده من المؤتمر الإسلامي. ولما صرخ إدريس بأن السادات لا يستطيع طرده بل كل ما يستطيعه هو إلغاء إعارته من وزارة الصحة، فضحك السادات وقال كمان سيادتك مطرود من وزارة الصحة، فذهب سريعا ًإلى وزارة الثقافة والتي كان يعمل فيها فقرأ قرار فصله بنفسه. ليظل بدون عمل سبعة أشهر إلى أن أعاده حسين فوزي إلى عمله في وزارة الثقافة.

 

كان يوسف ادريس يعشق هواية تدمير التابوهات، وزلزلة المألوف، ويعتبر نفسه فوق أي سلطات سواء سياسية أو علمية تكون معلّبة القوالب الأيديولوجية الجاهزة، فتمرد على قواعد صنعته الفنية نفسها، وعلى قواعد ونحو وصرف اللغة العربية فقد خاصم سيبويه ولم يعقد صلحا ًمعه حتى يوم وفاته، ودخل كلية الآداب ولم يطق دروسها سوى ثلاثة أيام. وإنتقده في هذه النقطة نقاد كثيرون وعلى رأسهم طه حسين، وحصل سجال ثري بينه وبين الناقد عبد القادر القط، أعلن فيه نظريته في اللغة الأدبية وبالأخص لغة القصة، فكتب في جريدة الجمهورية بتاريخ 13 أيار مايو 1960: "اللغة أي لغة لا تهبط على أبنائها من عالم الغيب ولا تتفجر لهم من باطن الأرض، ولكنهم هم الذين يخلقونها ويطوّرونها ويبدّلون فيها ويغيّرون، والقواميس والمعاجم التي وضعت للغتنا أثبتت ألفاظها لا على أساس أصلها وفصلها، ولكن على أساس أن العرب استعملوها لأداء هذا المعنى أو ذاك، أي أن اللغة العربية هي فقط اللغة التي يستعملها الشعب العربي بصرف النظر عن منشأ مفرداتها وعن التطور الذي يصيبها. ولو كانت اللغة العربية هي فقط اللغة التي وردت على ألسنة أجدادنا الأقدمين، لكان معنى هذا أننا نتكلم اليوم لغة أخرى".

 

وأعلن إدريس عن نظريته في المسرح سنة 1964 فكانت بمثابة الثورة التي صدمت وغيّرت وبدلت، والتي نستطيع أن نقول دون أدنى مبالغة إن مقالاته الثلاثة "نحو مسرح مصري"، قد منحت تعبيرا جديدا ًوهو (التمسرح) والذي يفرقه عن (الفرجة)، فالتمسرح مشاركة جماعية حرم منها الشعب المصري كثيراً.

 

كانت علاقة إدريس مع السينما متوترة، فمن ضمن قصصه القصيرة التي تعدت الثمانمئة قصة، لم تقدم له السينما سوى عشرة أفلام، وفي إحصاء آخر إثني عشر فيلماً، إذا أضفنا الأفلام التي أعطى مخرجيها الفكرة فقط. وإذا كانت بعض الأفلام كانت على مستوى روعة القصة مثل "الحرام"، و"لا وقت للحب"، فإن البعض الآخر قد تحول إلى مسخرة على يد مخرجين.

 

إن المخرجين والمنتجين ربما أحجموا عن التوغل في عالم يوسف إدريس القصصي لوحشية هذا العالم وتعريته الصريحة للمجتمع المصري، فاكتفت الشاشة الفضية بأفلام "الحرام" لهنري بركات، و"لا وقت للحب" لصلاح أبو سيف، و"العيب " لجلال الشرقاوي، و"قاع المدينة" لحسام الدين مصطفى و"حادثة شرف" لشفيق شامية، و"النداهة"، و"على ورق سلوفان" لحسين كمال، ثم "حدوتة مصرية"، و"عنبر الموت".

 

بعد كل ما تعرض له يوسف إدريس من استبعاد عن أي منصب، ندرك لماذا هجر كتابة القصة القصيرة، فظل صامتا ًمنذ سنة 1971 وحتى سنة 1981 عن كتابة القصة القصيرة حتى خرج علينا بقصة "نيويورك 80"، حيث علا صريخه ليصير نحيباً. ففي حوار ما بين العاهرة الأميركية والكاتب العربي تقول له العاهرة: قلت إنك كاتب وقطعا ًتعمل في مؤسسة أو تعيش في مجتمع يعولك ويدفع لك أجرك، هل تقول الحقيقة أم تقول أشياء وتخفي أشياء؟ أليس كل هذا مومسة؟، السياسي الذي يعرف أنه يبيع بلده أو يغمض عينيه عن مصالحها ماذا تسميه؟، القاضي، التاجر، الزوجة التي لا تطيق رؤية زوجها وتتأوه حبا ًحين يلمسها، ماذا تسمّي هذا كلّه؟، ماذا تسمي المثقفين والكتاب الذين يعرفون الحقيقة ويخافون الجهر بها أليس كل هذا مومسة؟، كلكم بغايا وبأجر فاحش مدفوع، ولكن أنا الوحيدة المصلوبة بينكم، أنا الوحيدة التي بخطيئة، وأنتم فقط قذاف الأحجار".

 

    

 

 

عاهرة "نيويورك 80"

قصة "نيويورك 80" للأديب يوسف إدريس أثارت تساؤلات عن الرسالة التي تحملها

ونلتقط الخيط من عاهرة "نيويورك 80" والتي تصدم ذوي الياقات البيضاء وتفضح دعارتهم الفكرية التي تفوق بمراحل دعارتها الجسدية.

 

لقد إحتار النقاد في تصنيف "نيويورك 80"، هل هي قصة أم رواية أم مشروع مسرحية أم مجرد عمل ذهني صرف يطرح فيه أفكارا ًلم تكتمل صياغتها الفنية بعد؟

 

 كان السؤال مؤلما ًويحمل معاني ودلالات قاسية وجارحة، فالسؤال يتبعه بالضرورة سؤال آخر وهو: هل أفلس يوسف إدريس فنيا ًمنذ السبعينات؟، وهل آن له أن يعلن كما أعلن من قبله يحيى حقي إعتزاله للكتابة لأنه لم يعد لديه ما يضيفه؟، وهل تاريخ وفاة يوسف إدريس الفعلي هو بداية السبعينات بعد مجموعته "بيت من لحم"، وليس بداية التسعينات عندما فارقنا في أول أغسطس 1991؟

 

بالطبع كان لا بد ليوسف إدريس أن يكسر حاجز الصمت فنشر مقاله القنبلة بعنوان "يموت الزمار" في 17 نيسان أبريل 1981، والذي قرر أن يجيب فيه وبأسلوب لا يقل فنية وجرأة عن أسلوب قصصه القصيرة، وكأنه يقول أنا هنا ما زلت يوسف إدريس، فيصرخ على الورق ويقول: " أي شيء إلا أن أمسك القلم مرة أخرى وأتحمل مسئولية تغيير عالم لا يتغير وإنسان يزداد بالتغيير سوءا ، وثورات ليت بعضها ما قام". إنه يعلن هنا كفره بالكتابة ككل وليس فقط بالقصة القصيرة والتي برّر هجرها بأنه لن يرضى بدور القصاص وبيته يحترق من حوله. فلا بد من أن يهب واقفا ًلإطفاء ذلك الحريق الذي شبّ في جدران المجتمع.

 

  

 

أبرز أعماله الأدبية

قصة "نيويورك 80" ليوسف إدريس

 

قدم الأديب الراحل ألوانًا مختلفة من الأدب تنوعت بين القصة القصيرة، والرواية، والمسرحية. وقد خط بقلمه المبدع ثروة أدبية مكوّنة من عشرين مجموعة قصصية، وخمس روايات، وعشر مسرحيات، ومن أشهر أعماله القصصية "أرخص الليالي"، و"جمهورية فرحات"، واليس كذلك"، و"البطل"، و"حادثة شرف"، و"النداهة"، و"بيت من لحم"، و"قاع المدينة"، و"لغة الآي آي"، و"مشوار".

 

أما رواياته فكان اشهرها: "قصة حبّ"، و"الحرام"، "العيب"، و"العسكري الأسود"، و"البيضاء" ومن مسرحياته: "ملك القطن"، "اللحظة الحرجة"، و"المهزلة الأرضية"، "رجال وثيران"، و"الجنس الثالث"، و"الفرافير"، و"المخططين"، و"البهلوان"."أكان لا بد يا لي أن تضيئي النور؟"،

 

وقد أخرجت السينما المصرية عن أعماله الإبداعية 11 فيلماً أهمها "لا وقت للحب" عام 1963، وهو مأخوذ عن روايته "قصة حب" الصادرة عام 1957، و"الحرام" عام 1965، وهو مأخوذ عن روايته "الحرام" الصادرة عام 1959،  و"العيب" عام 1967، وهو مأخوذ عن روايته  "العيب" الصادرة عام 1962، و"حادثة شرف" عام 1971، وهو مأخوذ عن قصته "حادثة شرف" من المجموعة التي تحمل العنوان نفسه، و"النداهة" عام 1975، عن قصته "النداهة" من مجموعته التي تحمل العنوان نفسه، و"ورق سيلوفان" عام 1975، عن قصته "ورق سيلوفان".

 

 وخلال حوار له مع راديو "فرنسا 24"، قال الكاتب السويدي شل أسبمارك، عضو الأكاديمية السويدية ورئيس لجنة "نوبل" بين عامي 1998 و2004، وأحد الأعضاء الخمسة المسؤولين عن الاختيار النهائي للفائز بالجائزة، "إن سياسيًا سويديًا كان في زيارة إلى مصر، واقترح على إدريس أن يقتسم "نوبل" مع كاتب إسرائيلي، ولكنه غضب كثيرًا، وراح يصرخ أمام الجميع معلنًا رفضه.

 

 

 

الجوائز التي حصل عليها

 

حصل إدريس على "وسام الجزائر" عام 1961، و"وسام الجمهورية" عامي 1963-1967،  و"وسام العلوم والفنون" عام 1980. كما حصل على العديد من الجوائز كان أشهرها جائزة عبد الناصر في الآداب عام 1969، وجائزة صدام حسين للآداب عام 1988، وجائزة الدولة التقديرية عام 1990.