"تذكرتان إلى صفورية".. حكاية لاجئ يحلم بالعودة إلى فلسطين

يستند الكاتب إلى التفاصيل اليومية للبطل التي تشبه تفاصيل الآخرين، من دون أن يأتي هذا نوعاً من التنكّر لخصوصية الشخصية في الرواية؛ بل تقنية مباشرة استخدمها الروائي بطريقة مفتوحة على العامّ الذي يشبه الخاص والعكس أيضاً في قضايا كبرى مثل اللجوء.

رواية "تذكرتان إلى صفورية" للكاتب سليم البيك

قراءة: روز سليمان

 

في رواية "تذكرتان إلى صفورية" للكاتب الفلسطيني سليم البيك الصادرة عن دار الساقي؛ يأتي حاضر الكتابة وليد الماضي، وماضيها وليد ذاكرة بعيدة، ولذا فإن يوسف شخصية لا يمكن لها أن تتحرر من الماضي، الإرث. وهنا في هذه المساحة يتحمل البيك مسؤولية عمل أدبي تفترِض أمانته للذاكرة، وأن يختار التضمين الأفضل والأكثر إقناعاً للأحداث. لم يكن بإمكان البيك أن يكتب رواية مثل "تذكرتان إلى صفورية" لو أنه لم يمتلك موقفاً انفعالياً على الأقل مما يحدث في هذا العالم، والمآسي والإنسانية التي تقتلها الحروب، وما تحدثه داخله من أحكام مسبقة وتقبّل للآراء وقابلية للتغيير تبعاً لمشيئة الظروف والأحلام والهواجس والرغبات. هذه المضامين شكّلت مادة جيّدة للتقنية التي مشى فيها السرد. لذلك ربما في خاتمة الرواية لم يكن من حقّ الكاتب انتزاع أفعال بطله من الصمت؛ بل كان من المقبول لو انتزع البيك كلاماً ثانياً في قاعة الانتظار حيث موعد الطائرة التي ستذهب به إلى "صفورية"!!.

بين يوميات بطل الرواية، يوسف، ويوميات اللجوء تأتي رواية "تذكرتان إلى صفورية" مثقلة بالهمّ وعرض البوح الشخصي. على امتداد 240 صفحة من القطع المتوسط؛ يأتي السرد في الرواية قائماً على تناول اللجوء موضوعاً محورياً، في مزجه بين اللجوء السوري واللجوء الفلسطيني. إذ إن بطل الرواية يوسف هو فلسطيني سوري. لجأ إلى أوروبا إثر الحرب السورية، إضافة إلى كونه فلسطينياً. يحصل يوسف بطل الرواية لاحقاً على الجنسية الفرنسية التي ستساعده بالذهاب إلى قرية "صفورية" في فلسطين، وهنا تكمن ملامح الحدث الرئيسي للرواية.

يوسف الذي ولد في دبي حيث كان يعمل والداه، عاد إلى سورية ثم انتقل مرة ثانية إلى دبي ومنها إلى سورية وأخيرا فرنسا "كان البيت بيت العائلة جميعها، بيت الجدّ الذي تدرّج في بنائه منذ وصوله إلى المخيّم. كان البيت في اليوم الأول خيمةً ثمّ صار مع الزمن بجدران طينيّة ثم بأسقف من الزنك ثمّ صار كلّه مبنياً من الباطون، وصارت غرف الباطون تتوسّع، وتُعمَّر طوابق على أسقفها، صار بيتاً بطابق أرضي وطابقيْن فوقه وسطح عليه غرفتان تُستخدمان كمستودعيْن، في أحدهما الآن كتبٌ ليوسف تركها هناك قبل ذهابه للعمل في دبي".

يمكن القول إن الكاتب أراد من الرواية أن تأتي في فصول تحت مسمّيات "مارّاً بتولوز"، "مارّاً من مخيم اليرموك"، و"مارّاً مع ليا" وخاتمة هي "مارّاً إلى صفورية"، حيث نجد يوسف في نهاية الرواية في قاعة الانتظار في المطار مع حبيبته الفرنسية في محاولته الثانية لزيارة "صفورية"، بعد أن تأخر يوسف المرة السابقة عن موعد الطائرة الذاهبة إلى فلسطين. هو الذي يؤكد رغبته العودة إلى صفورية لتكون عودة عن الجميع "عن أجداده الأربعة وعن والديه وعن نفسه هو". تغرق "تذكرتان إلى صفورية" في التفاصيل اليومية التي يعيشها يوسف في رحلة لجوئه، هي ذات التفاصيل التي يمكن أن يعيشها أي لاجئ، مثلاً المبلغ الذي يُدفع لقاء الوصول بأمان إلى أوروبا. ربما طغت هذه الأحداث واليوميات على الرواية ما أبعدها عن تناول أمور تتعلق بالأمكنة وتكوينها والتغيرات التي طرأت عليها بفعل ظروف الحرب والأزمات.

في السرد يعود يوسف إلى الماضي، الشعور بالوحدة وهاجس القلق والاغتراب، ذكرياته ومعاناته حيث شكّلت رحلته إلى أوروبا الحدث الرئيسي الذي يقلب حياة هذه الشخصية. رغم أن بنية الحكاية تحمل فضاءات مكانية كان يمكن الاشتغال فيها أكثر باتجاه مضامين سرديّة تفصح عن أحداث أكثر جدّة، دبي ومخيم اليرموك وتولوز.

في الرواية نجد البطل يوسف بعد أن استقرّ في فرنسا يكتب روايته أيضاً، وأيضاً حدث الرواية التي نقرأها تقول إنها تُكتَب في فرنسا، حيث الزمن الحاضر هناك. التوازي بين الروايتين ربما يحيل إلى توازي سيرة يوسف وسيرة سليم البيك، الأمر الذي يمكن أن يجعل منها في لحظة رواية توثيقية. إلا أن ما سبق لا يلغي وجود النكهة التخيليّة في السرد. "عليكَ البدء بالكتابة اليوم. اكتب الحكاية من الأول. اكتبها لتخرجها منك لا لتنشرها، اكتبها كعلاج إن أردت، كأي شيء. جرّب، وبعد ثلاثين صفحة إن لم تشعر بتحسّن إتركها، وأعوّض لك وقتك الذي أهدرته عليها".

في الرواية يحدّد الكاتب ذات البطل عبر التفاصيل التي تشبه تفاصيل الآخرين، لكنه لم يكن أبداً نوعاً من التنكّر لخصوصية الشخصية في الرواية؛ بل أتى الأمر تقنية مباشرة استخدمها الروائي بطريقة مفتوحة على العامّ الذي يشبه الخاص والعكس أيضاً في قضايا كبرى مثل اللجوء. فلم يأتِ أي فعل غامضاً أو كتوماً أو إنكارياً أو مرتكزاً على الإيحاء الأمر الذي خدم البنية العامة للسرد.

في الفصل الأول "مارّاً بتولوز" يتناول سليم البيك سنوات لجوئه الأولى في فرنسا. وفي الفصل الثاني "مارّاً من اليرموك" يتناول خروجه من المخيم ورحلة اللجوء إلى أوروبا. أما في الفصل الثالث "مارّاً مع ليا" فيحكي لقاءاته الأولى مع ليا.

إن تشكّل البنية السردية في "تذكرتان إلى صفورية" ضمن التجربة الشخصية لبطل الرواية وكاتبها يعود إلى تحقّق تواصل متقن بين مستويي الشكل والمعنى، أي أن الرواية حقّقت في أحد أبعادها شكلاً فنياً له خصوصيته، إضافة إلى خاصية الإجابة عن أسئلة القضايا الكبرى المستمرة من الماضي والراسخة عمقاً في الحاضر. طالما أن بين أيدينا رواية تبرز من الماضي لكنها استطاعت قول شيء ما.

"يكمل حديثه عن اللجوء والاستقرار، عن الأوطان والبيوت الموقّتة، يحكيها بتأنٍّ ومفصِّلاً كونها فرنسية لم تضطر يوماً للخروج مجبرة من بيت أو بلد، ولم تترك فرنسا إلا لإجازات تمضيها في مدن وقرى أوروبية، تذهب ببطاقة هويّة، تحجز في قطار وتعبر به البلدان".

أقام سليم البيك الفضاء الروائي على سرد مستمرّ ومتقطّع في آن واحد، ففي السرد المباشر يتابع يوسف البطل قدره بين الأمكنة والسفر والمطارات؛ وخلاله، خلال هذا السرد الخطّي، يقطعه الكاتب على الباطني النفسي والألم والوحدة والغربة. لذلك تقرأ رواية "تذكرتان إلى صفورية" مثل حكاية واسعة واضحة بدايتها وواضحة نهايتها، لا مكان للمفاجآت. وتقرأ أيضاً وكأنها وحدات من الحكايات لكل منها ذاتيّتها واستقلاليّتها النسبيّة وصوتها الذي يمكن أن يُسمَع منفرداً أو يُسمَع في صوت واحد متعدّد الصدى.

"بذلك لم يقتصر تشتّت الهوية لدى يوسف على الانتماء الوطني، بل تعدّاه إلى أوراقه الإدارية، تائهاً بين الإمارات التي وُلِد وكبر فيها وسوريا التي حمل بطاقة هويّتها ووثيقة سفرها، وفلسطين التي لا يُرجع شعوره بالانتماء إلا إليها، وإن لم يجد هذا الشعور مكاناً يطمئنّ إليه. ثمّ فرنسا التي سيصير أحد مواطنيها بكامل حقوقه المدنيّة".

وكأن ببداية الرواية تتّخذ موقفاً من نهايتها. فلا البداية تعد بسعادة قادمة ولا النهاية تغيّر المصير. ربما هذا ما جعل السرد مطابقاً لواقع قد يكون فيه العذاب شكلاً من أشكال الحياة التي يفرضها القدر، وكأن ثمّة ضحكاً أسود مستتراً خلف السرد.

مضمون رواية "تذكرتان إلى صفورية" هي محاولة لكتابة أخرى، نوع من الكتابة يجد دوماً مبرّره التاريخي، اللحظة التي يقبض فيها الروائي على الضرورة الأدبية، زمن إنتاج معنى للقضية من جديد. فالراوي الذي شهد وعاش أحداثاً حيّة، لم يلفّق المواقف والحوارات التي هو جزء منها. لتشكّل الرواية شكلاً فنياً لبّى طموح المحتوى والمضمون، وكشف عن عوالم مختلفة للقول والحكي والسرد. وعندما تطلب ليا من يوسف أن يحكي لها الفصل الأخير من الرواية، يخبرها "ينتهي بأني أنهيه"، ينتهي حيث الشخصية الرئيسية فيه تكتب الفصل الأخير من روايتها، وروايتها هي حكاية الكاتب إذاً، وفي اللحظة نفسها تطرق حبيبته الباب وتفتحه حاملةً باقة ملوّنة من الورود كما عوّدته "تأتيه دون أن تعرف بأنه ينهي ما يكتبه. وهكذا أكون قد انتهيت، أنا، من روايتي أخيراً".

الجدير بالذكر أن سليم البيك كاتب فلسطيني يعيش في فرنسا. يحرّر مجلّة "رمّان" الثقافية الفلسطينية. فازت "تذكرتان إلى صفورية" بمنحة آفاق ضمن برنامج "آفاق لكتابة الرواية"، الدورة الثانية، بإشراف الروائي جبّور الدويهي. صدر له قبل هذه الرواية «خطايا لاجئ»  عام 2008 عن دار كنعان، وهي نصوص نثريّة، و«كرز أو فاكهة حمراء للتشيزكيك» عام 2011 عن الدار الأهليّة، وهي مجموعة قصصيّة حازت على جائزة القطّان في رام الله، و«ليس عليكِ سوى الماء» مجموعة قصائد نشرت عام 2011 عن دار راية.