هل ثمة تحوّل ثقافي في إسرائيل؟

أصبح الأطفال الإسرائيليون رعايا طيعين تماماً للالتزام بالخدمة العسكرية الإجبارية. فالأباء يعدون أولادهم لدخول الجيش، كما يعدونهم للمدرسة، ويقول الأب لإبنه ذات يوم ستصبح جندياً كما سبق وكنت أنا جندياً. فالعسكرية حاضرة في كل مكان.

كتاب "ما بعد إسرائيل: نحو تحوّل ثقافي" للكاتب مارسيليو سفيرسكي
الكتاب: "ما بعد إسرائيل: نحو تحوّل ثقافي"
المؤلف: مارسيليو سفيرسكي
ترجمة: سمير عزت نصار
الناشر: منشورات المتوسط - إيطاليا - 2016.

مراجعة: علي مطر


يعتبر الكيان الإسرائيلي أكثر كيان تسلطي استعماري احتلالي للغير، وأكثر الكيانات الاضطهادية التي مرت على العالم منذ زرعه في فلسطين المحتلة واغتصاب حق الفلسطينيين في أرضهم. ويعتبر الإسرائيليون دون أدنى شك الأكثر عنفاً وتسلطاً واضطهاداً للغير.

لقد كانت إسرائيل فكرة سيئة منذ بدايتها. فإن وطناً قومياً يؤسس بدلاً من وطن قومي آخر، يكون دائماً فكرة سيئة. وبعد قرن من نزع ملكية وحروب، دفعت سياسات وطرق حياة إسرائيلية المنطقة إلى عدم استقرار وجودي. والاضطهاد في اسرائيل ماضياً وحاضراً، حالة وثيقة الصلة بالموضوع. فالطريقة التي جرّد بها الشعب الفلسطيني من حقه في أن تكون له حقوق، خصوصاً بعد سنة 1948، يستغرب فيها الانسان كيف تتمكن عقول مرتكبي الجرم أن تستوعب كل معلومة تفصّل اشتراكهم في إنتاج الإضطهاد. هذا ما يتحدث عنه مارسيليو سفيرسكي في كتابه "ما بعد اسرائيل.. نحو تحول ثقافي".

لقد تدرب الإسرائيليون وفق ما يشير سفيرسكي على ألا يحددوا هوية الكارثة، وألا يدركوا هم أنفسهم بأنهم أولئك الذين أوقعوا كارثة كهذه وأنهم مسؤولون عن نتائجها. ويبدو أن المجتمع الإسرائيلي اليهودي قد لقح نفسه بنجاح ضد التفكير الأخلاقي والسياسي، لأن هذا الوجود مدين إلى أفعال "إسرائيل" من الاضطهاد على الأرض. لذلك فبعض الإسرائيليين اليهود يقللون إلى أدنى حد من أهمية العذاب الذي يُتهمون بأنهم يسببونه، بينما ينشغل آخرون في تبرير أفعالهم.

ومن المعترف به بحسب الكاتب أن الصهاينة البيض أظهروا مواهبهم الإضطهادية ليس فقط ضد غيرهم من الخارجيين، بل ضد غيرهم الداخليين أيضاً. إن الاسرائيليين يعتمدون على الاستمرار في ما يفعلونه، لكي يجنوا امتيازاتهم على أساس الاضطهاد.

ويحاول الكاتب أن يجيب على سؤال يطرحه هو: كيف أصبح الإسرائيليون اليهود أبطالاً في قصص الاضطهاد؟

ويتولى هذا المشروع بنظره دراسة بعض أشكال اجتماعية أساسية للمجتمع في إنتاج طرق المستوطنين الاستعمارية الكولونيالية للحياة التي تحيي الحاضر. ويقترح الكاتب، كإضافة أو كتحدٍ للخطاب حول الممارسات الإسرائيلية المضطهدة التي تكتسي بشكل غير شخصي تقترف الأفعال، استدعاء اللحظات اليومية التي تشكّل المادة والروح الضروريتين للقيام بأعمال الاضطهاد التي يعتمد عليها النظام الصهيوني لبقائه.

ويشير سفيرسكي إلى أن شرط الدولة الواحدة هو النتيجة التاريخية للتفوق الاسرائيلي الذي لا يزال مؤقتاً، ومنفصلاً انفصالاً عميقاً عن الدولة الواحدة النبيلة ذات شراكة متساوية.

لقد ظهرت سياسات "إسرائيل" الاجتماعية في انحطاط طيلة عقود، وقد جرحت سياسات ليبرالية جديدة متطرفة، مثل تلك التي ظلت تتبناها إسرائيل طيلة العشرين سنة الماضية، وقد جرحت جرحاً قاتلاً الشعور بالرضا لدى كثيرين، وقد بات الناس هناك يسألون فعلاً قياداتهم السياسية عن وضعهم في المجتمع.

ويشير سفيرسكي إلى أن موجة الاعتراضات الاجتماعية التي فاضت في البلاد في صيف 2011 ومنذئذ بدا بأنها تدل على أن التزاماً يهودياً للنزعة الصهيونية لإبقاء حالة الحرب والعزل لا يزال حازماً تماماً.

 

أولاً: المتنزه

يشرح الكاتب كيف تجعل القيادة الإسرائيلية الإسرائيليين يعتقدون بأنهم أصحاب الأرض والحق في الوجود، وذلك من خلال عوامل يشرحها في فصول كتابه.

يقول مارسيليو سفيرسكي: "من الصعب التذكر بالضبط متى بدأت أكفّ عن الخروج في رحلات تنزه في إسرائيل، من المحتمل أن يكون هذا من حوالي عشرين سنة خلت".

فالإسرائيليون يهتمون بالتنزه كل نهاية أسبوع، فإن أسلوب الحياة خارج البيوت مدعومة من قِبل مجموعة مرتبة من منظمات مدنية قائمة على أساس مجتمعي، وهذه التنزهات هي من أجل الإغراء للسكان، ولا يضيع الخبراء أي فرصة، خصوصاً إذا أتى غريب مع المجموعة المتنزهة وخصوصاً إذا كان الزائر يهودياً من وراء البحار، فيقدم هؤلاء الخبراء فرصة ذهبية لجعل صوت "إسرائيل" مسموعاً.

ويشدد الخبير في مكان التنزه على كلامه في حال كان متأكداً من أن قومه مذعنون تماماً، ويتحدث بطريقة سلطوية عن الأهمية الاستراتيجية لبعض الأماكن من دون أن ينسى المعارك والأبطال الذين بفضلهم يقف المتنزهون في المكان، بحسب تعبير سفيرسكي.

لقد لعب التعليم وحب الاستكشاف في المقاطعة الصهيونية النامية المحاطة في جميع الجهات دوراً حازماً في ترويج الممارسات والايديولوجيات المرتبطة بالتنزه والطبيعة، وقد أثار الاقتراب التعليمي هذا الطموح لغرس معنى كونك متصلاً "بأرض إسرائيل"، كما استوطنت من جديد بعد ألفي سنة من الشتات. وقد جنّد التنزه لهذه الغاية كالدوس على الدروب، استيعاب المناظر، وإيجاد قطع فخارية آثارية للماضي البعيد.

يشير الكاتب الى أن "هذا الإحساس بالبعد التاريخي لم يشارك فيه يهود السيفاردي الذين عاشوا في بلاد مسلمة، ومارسوا، حتى ثلاثينيات القرن العشرين حجاً دينياً أو رحلات عمل إلى فلسطين، وكان الإحساس بالرغبة في إنهاء الشتات، وهذا شكل الخلفية التي أطلق منها الصهاينة الأوروبيون أيدولوجية إعادة الوصل، إعادة الولادة وبعث الروح اليهودية".

"بالنسبة إلى المستوطنين اليهود الجدد، قُدّمت فلسطين على أنها الفضاء المفتوح والبرية التي زودتهم بوسائل إعادة صناعة الذكورية اليهودية، وأصبحت تنزهات طويلة ومتعبة في الأرض الوعرة لفلسطين أداة مهمة لتشّرب الرسالة الصهيونية، لحب الأرض، ولبناء قوة مادية".

هكذا إذن قدمت الطبيعة الفلسطينية فضاءً رحباً، يُبنى فيه فهم ذاتي جماعي جديد لليهود. لقد أصبحت حقيقة أن للتنزه حضوراً قوياً في الحياة الاجتماعية في "إسرائيل".

 

ثانياً: المدّرس

المدرس هو العامل المهم الثاني الذي استخدمه الصهاينة لكي يمهدوا لغرس فكرة القوة والأحقية وعسكرة المستوطنين من أجل اضطهاد الفلسطينيين. ويتحدث الكاتب عن تجربته الخاصة مع ذلك ويقول إنه زارت كتلة من العسكريين مكاتب إدارة المدرسة التي توجه إليها. "فيما أنا اقترب، خطا رئيس أركان القوات الاسرائيلية السابق شاؤول موفاز، مبتعداً عن حاشيته، وبلا تمهيدات، وجدت نفسي فجاة أواجهه. أجبت على تحيته، وتابعت السير إلى مكان آخر، منزعجاً ومشوشاً. كانت السنة المدرسية 2001-2002، وكنت مدرساً في مدرسة عليا، في مركز تعليم ليو بيك في حيفا. احتجت إلى بضع لحظات للتفكير. لم أكن غير مدرك لكيفية اعتماد التعليم في إسرائيل على هيئة المدرسين، لنقل وغرس نزعة عسكرية، لكنني كنت غير مهتم بالضخ جسمانياً في النوع العسكري الأعلى في قاعة مدرستي، لقد أفزعني منظر تلك الحاشية المرتدية للبزات العسكرية".

يشير الكاتب إلى أنه في 25 اذار/مارس 2008، تظاهر نشطاء بروفايل الجديد مرة أخرى، أمام مدرسة "تل ابيب أليف العليا للفنون"، كان سبب هذه التظاهرات انطلاق برنامج  تقوية العلاقات بين الجيش الإسرائيلي والمدارس العليا، من أجل قتال الامتناع عن التجنيد الإجباري. وكجزء من هذا البرنامج أرسل 8000 جندي إلى 450 مدرسة عليا لتعزيز رغبة المراهقين للتجنيد. ويوضح الكاتب أنه لم تكن هذه مبادرة لمرة واحدة. ففي عام 2009 دعت وزارة التعليم 600 من مديري مدارس، ليستمعوا الى محاضرة، يلقيها الجنرال غابي اشكينازي، حول الأهمية الاجتماعية للتجنيد الإجباري، وكذلك في عام 2012 وغيرها من المحطات الأخرى.

ويستشهد الكاتب بكتاب لـ"سيجا بن يوراث: المواطنة تحت النار: تعليم قتالي مدني"، مشيراً إلى البعد التعليمي لمواطنة الصهيوني القتالية.  إن الخدمة العسكرية والتضحية بالنفس في الجيش هي المركز التقليدي للنزعة الإسرائيلية، وقدمت إلى نخبة الاشكنازي مكافآت في الوضع الاجتماعي والقوة السياسية.

لقد احتمل التعلم في المسارات الاسرائيلية اليهودية كتوجه قومي وعسكري، ويبدو أن عدد رافضي الجيش ازداد قليلاً خلال السنين الأخيرة. ويشير الكاتب إلى أن "أي حق إنسان خاص بجنود القوات الاسرائيلية يحاول أعضاء الكنيست الدفاع عنه، وعلى أن لدى إسرائيل جيشاً أخلاقياً، فيما تُحارب منظمات حقوق الإنسان إذا قامت بنشر معلومات ووثائق أو طالبت بإجراء تحقيق حول جرائم الحرب ضد الفلسطينيين".

 

 

ثالثاً: الوالد

يبيّن الكاتب أن العسكرة الإسرائيلية تعتمد على الأب في المجتمع الإسرائيلي، ففي حين ترفض الأم عسكرة إبنها وذهابه إلى الجيش لأنه سوف يقتل، فإن الأب يصمت في وجه العسكرية الاسرائيلية.

يقول سفيرسكي إن "صمت الآباء في وجه المذهبة العسكرية المكثفة في المدارس، يعكس فقط الدرجة التي يصبح فيها الجيش والحرب ظاهرتين طبيعيتين في المجتمع الإسرائيلي اليهودي. إن ثرثرات عادية في البيت عن تجارب العسكرية يبدأ بها على نحو عام الذكور في العائلة هي حدث يومي، يلعب دوراً خطيراً. تغرس هذه القصص في نفوس الأطفال بفضول وحماسة ولهفة بذوراً".

ويضيف أن "الدورة الكاملة لحياة إسرائيلية مصابة بعدوى عمليات، يصبح الأطفال من خلالها رعايا طيعين تماماً للالتزام بالخدمة العسكرية الإجبارية. ويعد الأباء أولادهم لدخول الجيش، كما يعدونهم للمدرسة، وكما يعتنون بذلك كعنايتهم بهم، ويقول الأب لإبنه ذات يوم ستصبح جندياً كما سبق وكنت أنا جندياً".

"ومع ذلك لا يغيب ظل المذبح عن أنظار الآباء. إنه حاضر دائماً، من جانب واحد، هناك خوف طبيعي على الإبنة أو الإبن الذي يخدم في جيش، عمل طيلة ستة عقود على إشعال الحرب، وإدخال التطهير العرقي والاضطهاد إلى المجتمع. هم يعتمدون على اعتقاد أن إسرائيل يمكنها أن تنجو من الفناء فقط من خلال وجود جيش قوي، ويعلمون أبناءهم على أن الأمم العربية هي دائماً عدوة وأن العرب يريدون الدفع بنا الى البحر"، يوضح الكاتب.

ويقول الكاتب إن "العسكرية في إسرائيل ترى على نحو اختراقي، لذلك فهي لا تمر، ولا يمكن أن تمر من دون أن يلاحظها الأطفال في إٍسرائيل. إن العسكرية حاضرة في كل مكان".

 

رابعاً: الناخب

ما هو نظام الحكم السياسي المحدد لنظام الانتخابات الذي يشترك فيه الإسرائيليون؟ ما الذي يضمه نظام الحكم السياسي، فيما يتعلق بالسكان والمناطق المتأثرة بالسياسات الصادرة عن رسمييها المُنتخبين؟

يعتبر الكاتب أن هذين السؤالين مهمان لتقرير طبيعة وأهداف المشاركة في عملية الانتخاب الإسرائيلية. ويجيب بعرض سلسلة تميزات. يلقي أحد هذه الميزات الضوء على أربع مجموعات محكومة في دول أمم عرقية، كما هي الحال في الكيان الإسرائيلي وهي:

 

1- مواطنون هم أعضاء في الأمة التي تحتكر الدولة.

2- مواطنون آخرون للدولة، يفهم أنهم أقليات.

3- أفراد ليسوا مواطنين يٌحكمون لكنهم بالكاد يعدون مواطنين.

4- مجموعة رابعة من سكان أصليين طُردوا من خلال تطهير عرقي مرتبط بالدولة بكونهم مستقصين بالكامل منها كحال الفلسطينيين.

 

الميزة الثانية وفق الكاتب هي بين خطي السلطة (أن تكون محكوماً) وأن (تشارك في حكومة وتعمل في ميدان الحكم معها)، وقد شكّل الفلسطينيون في  الضفة الغربية حالة "محكومين بواسطة طغيان عسكري"، بينما أهالي غزة محاصرون، والفلسطينيون في المنفى محكومون بمنع عودتهم الى الأرض، فيما فلسطينيو 48 فإن وضعهم المدني ناقص نقصاً حاداً.

ويخلص الكاتب الى أن اليهود يشاركون في عملية انتخابية، تتوّج ممثلين سنّوا منذ 1948 قوانين وأصدروا سياسات تضع بانتظام وأيديولوجيا كل مصالح الفلسطينيين ما عدا الإسرائيليين اليهود.

ويخلص الكاتب إلى أن إسرائيل تعمل دائماً على خلق دولة يهودية حصرية، وتسعى لمنع عودة الفلسطينيين، وتمارس الاضطهاد العسكري الطاغي للفلسطينيين في الضفة الغربية، وقطاع غزة والقدس.

ويسأل سفيرسكي كيف تتمكن أسس ديمقراطية غربية، تفادي قياس حقيقة أن إسرائيل طيلة نصف قرن تقريباً وضعت تحت الاحتلال العسكري نحو 3.5 مليون فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، وأبقت غزة تحت الحصار، ويقول إنه من المؤكد أن الأكاديمية الإسرائيلية ساعدت في هذه الخدعة السحرية.

ويخلص الكاتب إلى أن واقع اضطهاد الفلسطينيين في الضفة الغربية وحصار قطاع غزة، يجعل قساوات إسرائيل الأخرى باهتة بالمقارنة مع أية اتفاقية مع الفلسطينيين ستقوم على أساس شكل من انسحاب من الأراضي المحتلة في الضفة الغربية. ويشير إلى أن أي حل لاحتلال الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة سيظل حلاً ناقصاً إذا لم يرتبط ربطاً محكماً بمسألة اللاجئين، فإن أي حل سياسي لن ينقذنا ما لم تجرِ عملية تحول ثقافي باستمرار في طبيعة تعاطي إسرائيل مع الفلسطينيين.

ويختم سفيرسكي كتابه بالقول إن التوقعات بالتوصل الى اتفاق اسرائيلي فلسطيني حول الأراضي والسيادة تفتقر إلى فهم دور الذاتية الثقافية، مشيراً إلى أن الصراع استمر ضد الصهيونية طيلة عقود من الزمن وقد يستمر كذلك.