"كابوتشينو".. بيوت مُغلَّفة بالأسرار!

في روايتها "كابوتشينو"، تلملم فاطمة شرف الدين أحداث عائلتين ضمن أحاديث في مقهى "موكا" في شارع الحمرا في بيروت.

رواية "كابوتشينو" لفاطمة شرف الدين
 

الرواية: كابوتشينو
الكاتبة: فاطمة شرف الدين 
الناشر: دار الساقي - بيروت - 2017.

مراجعة: روز سليمان


هنا في هذا المكان، يبوح كل من أنس ولينا بأسرار عن أسرة كل منهما وهما يشربان "الكابوتشينو" أثناء اللقاء المعتاد بعد الانتهاء من صفّ اليوغا.

"نمشي أنا ولينا إلى مقهى الموكا في الحمرا، موقع لقاءاتي المتكررة مع أصدقائي. ربما أخطأت في اختيار المكان. ماذا لو أتى أحمد أو عماد؟ لن أسلم من تعليقاتهما فيما بعد.. على كلّ سنرى. نطلب الكابوتشينو، ويفتح كل منّا كتاباً ودفتراً. لكننا لا نركّز على الدرس أبداً. "هل تدرسين العربية في المدرسة؟" أسألها. "للأسف لا. هذه أول سنة لي في لبنان. أتبع صفوف البرنامج الفرنسي. حين كنت صغيرة، كنا أنا وأختي نذهب مرة في الأسبوع، يوم السبت، إلى صفّ تعليم اللغة العربية. لكن حين كبرنا وانشغلنا بمدارسنا وكثرة وظائفنا، قاومنا رغبة والديّ في متابعة الصفوف، فتوقفنا كلياً عن تعلّم العربية.".

لينا التي عادت إلى بيروت مع والدتها سلام وأختها نادية من باريس بعد مرض الأب ووفاته، ليقعا تحت تسلّط العمّ أمجد وسرقته أملاك أخيه. تتعرف إلى أنس بعد أن يقع دفتر يومياته من حقيبته وتجده وتعيده إليه. يعيش أنس مع أبيه وأمه وأخته دارين.

تتوالى أحداث القصة لتتكشّف أسرار العائلة التي تتعرّض فيها ليلى والدة أنس إلى تعنيف جسدي ومعنوي من قبل الأب. "سببان يجعلان طرقات قلبي تتسارع وأنا أتناول دفتر يومياتي من الفتاة. أولاً، هذا الدفتر يحتوي على خصوصياتي التي لا يعرفها أحد؛ فحظّي كبير أنها أعادته إلي فور أن وجدته. كنت سأقلق كثيراً لو وصلتُ إلى البيت ولم أعثر عليه في حقيبة ظهري؛ ولكانت فضيحة لو حاول أحدهم أن يطلّع عليه. السبب الثاني هو أني غير مصدّق أنها هي التي بادرتْ في التواصل معي، أنا الذي منذ أن بدأتْ صفوف اليوغا أصنع السيناريوهات في رأسي كي أجد سبباً للحديث معها".

تتناول رسالة الرواية بشكلها العام في مئتين وسبع صفحات موضوع التعنيف الأسري، تعرّف الكاتبة عن شخوصها وأحداثها بأنها من نسج الخيال "فإن حصل أن تشابهت الأسماء بأسماء أناس حقيقيين، يكون ذلك بمجرد صدفة".

"يبدأ بصفعها ثم يتابع ضربها عشوائياً على كل أنحاء جسدها بكفّيه الحديديتين.. أقف بينهما لأحاول إبعاد المعتدي فأتلقّى صفعة تصمّ أذني ودفعة تبعدني ثم توقعني أرضاً. أنا قويّ جسدياً لكني لا أجرؤ على استخدام قوتي ضد أبي. أهابه. أشعر بالرغبة في البكاء. أكبت تلك الحاجة. أتذكر أن ذلك سيغيظه أكثر، وغيظه قد يزيد من عزمه في ضرب أمي. لكن حين أراه يسحب حزام بنطلونه الجلديّ ليكمل تعنيفه، أصرخ : "حرام عليك. يكفي. اتركها.. اتركها." لا يهتم الوحش لصراخي ولا لصراخ أمي التي تتلقى اللسعات المؤلمة، الواحدة تلو الأخرى، وهي تترجّاه :"خلص.. خلص..".

تأتي لغة الرواية بسيطة تركّز على المضمون كفكرة ورسالة تريد إيصالها أكثر من الخوض في التفاصيل. "نتّجه أنا ولينا إلى مكتب منظّمة تمكين بعد ظهر يوم الاثنين، الموعد الذي أخذته لنا أمها مع المحامية. نجدها في انتظارنا. تستقبلنا في مكتبها وتباشر في الحديث : "أذكر حضور السيدة ليلى إلينا منذ فترة. عندها نصحتها برفع دعوى ضدّ الزوج المعنِّف فخافت أن تفعل ذلك. قالت حينها إنها تعذره، وإنها ستفعل ما يرضيه كي لا يغضب ثانية، كما أنها لا تريد أن تجرجر أبا أبنائها إلى المحاكم وربما السجن. لكن هذه المرة مختلفة؛ فهي في المستشفى بضلوع مكسّرة وجروح ورضوض في كل جسمها. الصور التي أخذها الطبيب الشرعي لتوثيق حالتها وتلك التي أخذتها حين زارتني، دلائل كافية لرفع دعوى ضدّ الزوج، بالإضافة إلى شهادتك وشهادة أختك يا أنس".

يحدث السرد منتمياً إلى واقعية تشبه اللغة اليومية لأحاديث الناس وأفعالهم. يكتب أنس في دفتر يومياته : "لماذا ركبني هذا الشعور القوي بالقلق والحزن حين أخبرتني لينا بجديدها؟ عليّ أن أكون سعيداً من أجلها. لا أعرف كيف ستكون الحياة في بيروت من دونها. لقد اعتدتُ وجودها في حياتي. نحن نلتقي كل يوم تقريباً. ما يجمعنا أكثر من صداقة. لم أجرؤ على التلفّظ بالكلمة بعد. لا للينا ولا لغيرها عن شعوي نحوها. الحب. هل هذا هو الحب؟..".

أزمتان قاسيتان واجهتا لينا وأنس، كل ضمن ظروف أسرته. في أزمة لينا خسرت عائلتها مالَ الأب وأملاكه "لكننا ربحنا حريتنا وراحة بالنا بقرارنا العودة إلى فرنسا. وفي أزمة أنس، كانت النتيجة أن تحسّنت الأمور بنحو أسرع وأسلس مما كان يتوقعه الجميع. فأبوه تغيّر كثيراً بعد عودة أمه المشروطة إلى البيت بشروط القاضي. وكأن الأب صار يعلم أن أمه محميّة بالقانون الذي يساندها والذي سيجازيه بقسوة إن أخلّ بالاتّفاق. حتى إن ليلى عادت إلى وظيفتها السابقة".

 "ينتهي الصفّ وأنا أعيد وأكرّر هذه المشاهد في ذهني. ما إن أشغّل هاتفي حتى يطنّ معلناً تسلّم رسالة: وصلْنا بسلام. اشتقتُ إليكَ. أسرع في ترك المكان عودة إلى البيت، متلهّفاً لمحادثتي الأولى مع لينا كما اتّفقنا. محادثتنا الأولى بين بيروت وباريس. أصل، أدفع أجرة الطريق وأشكر سائق السرفيس. أتّجه إلى مبنانا. أحييّ العمّ أبو عاصي بائع الخضار المشغول بإدخال صناديق البضاعة قبل إقفال المحلّ كما يفعل في هذه الساعة من كل يوم، وأسلّم على الناطور معتزّ الجالس على كرسيّه الخشبي وبيده هاتفه النقّال يلعب به كعادته. المصعد في أعلى طابق وليس عندي صبر انتظاره. أصعد الأدراج متعدّياً درجتين بدل الواحدة في كل خطوة من شدّة حماستي، مستعجلاً الوصول إلى حاسوبي. أمام باب شقّتنا، أجفل. ماذا لو؟ أضع أذني على الباب كعادتي قبل فتحه. أسمع أمي ترندح أغنية وأبي يتكلم على الهاتف. اسمع صوت التلفزيون وضحك دارين العالي. أخمّن أنها تشاهد برنامجاً كوميدياً. جلبة قد تزعجني وأنا أدردش مع لينا حتى لو أقفلت باب غرفتي، لكنّي سعيد بها. بيت يضجّ بأناسه أفضل من بيت صامت ثقيل. أبتسم. أدفع باب بيتي وأدخل".

لماذا تبقى المرأة مع الرجل وهو يضربها؟ أسئلة تطرحها الكاتبة وتجيب عنها: لمئة سبب وسبب. الأمور معقّدة جداً. هناك نساء لا يملكن وظيفة أو مورد عيش بديلاً لحياتهنّ مع الزوج، وهناك علاقات نفسية معقّدة بين الزوجين بحيث أن المرأة تشعر بتعلّق عاطفي بالرجل الذي يعنّفها، فلا تتصوّر أنها تستطيع العيش من دونه. قد تكون امرأة من أسرة فقيرة، ليست متعلّمة، لا تعمل، ولديها ثلاثة أطفال. الزوج يهدّدها بحرمانها من أطفالها إن غادرته.

"أفكّر في هذه المرأة وأسأل: وماذا سيحلّ بها الآن؟. نحن في المنظّمة دورنا حمايتها. من الجيّد أنها تركت بيتها؛ سنؤمن لها مأوى تبقى فيه إلى أن تتدبّر وضعها. عندنا فريق سيساعدها على إيجاد عمل، والمحامية ستعمل على رفع قضيّة طلاق من الزوج وتحصيل حقّ حضانة أطفالها. "ما هذا المجتمع الذكوري؟ في فرنسا لا يحصل ذلك"، أقول. تجيبني أمي: "بالطبع يحصل". تعنيف المرأة أمر موجود في كل المجتمعات، ليس فقط عندنا في الشرق. في البرتغال، حصل أكثر من 100 حالة قتل زوج لزوجته في السنة الماضية مثلاً. وفي فرنسا أكثر من 150 امرأة تُقتَل كل سنة على يد الزوج؛ في الولايات المتحدة، الرقم أضعاف ذلك.

الفرق أن القاتل هناك يُحاكَم، بينما عندنا، القاتل يُبرّأ في كثير من الأحيان، حيث يلفّق هو ومحاميه أكاذيب تتّهم المرأة بالخيانة، فتصنّف جريمته بجريمة شرف. "أغمر أمي وأتمنى ألا تبكي ثانية. لا تفعل. تفلت من بين ذراعيّ وتكمل تصفّح الألبوم. أغرق معها في الذكريات، بصمت. صمت عميق يخيّم علينا. الضجيج الوحيد الذي يملأ أذني هو الخارج من الصور الملوّنة بين يدي أمي. أسمع رنين ضحكة أبي في إحدى الصور، والموسيقى والصخب في صورة حفلة عيد ميلادي الثامن وأبي يحملني على كتفيه بينما يرفع إلي الكاتو كي أنفخ على الشموع. أسمع زحمة الشارع وخرير الماء في مدينة روما ونحن نأكل البوظة جنب النافورة المشهورة فونتانا دي ترفي. أسمع صوت أبي غائصاً في نقاش مع صديقه فرانك، وصوت أمي تنده لأبي كي يقترب منها لتأخذ صورة معه؛ لا يبدو في تلك الصورة غير كفّ يده اليسرى. أشمّ عطره في صورة يغمرني فيها، بينما تجلس أختي نادية بجانبي تأكل تفاحة".