"نُور" تُنطِق المسكوت عنه.. الحياة التي نحلم بها محال!

تلامس الرواية قضايا اجتماعية مختلفة، ,تذهب التفاصيل باتجاه التنويع في مسارات الحياة وواقعها، القسوة والأمل، الحب والكره، العدل والظلم، الإيمان والتشدّد. الفلسفة، السياسة، العمارة وقراءة المدن.

قراءة: روز سليمان

رواية "نور" للكاتب المصري يوسف زيدان

في روايته "نُور" الصادرة عن دار الشروق 2016، يصل يوسف زيدان بتسلسل الأحداث الممتدة بين 1997 و2010، إلى اعتبار "الحياة التي نحلم بها محالاً". هكذا تتحقّق مقولات الرواية في جملة شكّلت خاتمتها، وكأنه لا مفرّ من اعتبار "معظم حياتنا مصادفات"، كما أرادها الكتاب على لسان البطلة. وتضيف "كان يمكن أن تكون ويمكن ألا تقع، فلا أثر لرفيف أجنحة الفراشة على هبوب الأعاصير. ولكن، أليس في الكون الكبير تدبير! ربما، فلا غاية لما يجري من حولنا ويحيط بنا، إلا بالقَدْر الذي نتوهمه، أو بقدر قليل جداً ونادر. مثلاً، مجيء ابنتي "نور" ليس مصادفة، فقد كنتُ أدبّره متعمّدة لتكون ثمرة حب لم أشأ أن يذهب سُدى، وبهذا التدبير جاءت. التدبير عكس الصدفة. ولكن، لا. هذه أوهام!..".

في الكتاب فنيّة سرديّة شكّلت عالماً روائياً مشبعاً بالتفاصيل ويحمل في الوقت نفسه قواعد وتقنيات أسلوبية تخصّ زيدان. من خلال استغراق البطلة "نورا" في البحث عن كيفيّة استكشاف الذات، وإنطاق المقموع فيها، والتحرّر من المسكوت عنه اجتماعياً وشخصياً، قول قد لا يتيح قوله نمط خطاب روائي آخر "أنا لم أتغير كثيراً، وربما صرتُ الآن أجمل وأكثر ملاءمة للعشق والاشتياق والاشتهاء والمنح. سأمنحه ما يفوق خياله، وخيال كل الرجال. كان يهمس لي بأنه لا يحب النحيلات اليابسات كالنخلات، ولا البدينات جداً كالكُرنبات، ولا الشقراوات شبيهات البيض المسلوق وشعر الخرشوف. كان يقصد أن يحبني أنا، فقط، وهو لا يزال يحبني ولن يراني إلا جميلة مهما كان حالي. أنا عنده الجمال".

تبتعد الرواية التي أتت في 264 صفحة من القطع المتوسط عن التعقيد، تتّسم بالهدوء والبساطة والسلاسة السردية. تصرخ وتتكلم بلسان الأنثى إنسانيا بالدرجة الأولى، المرأة المصرية ومعاناتها تحديداً، الأمر الذي يمكن إسقاطه على واقع النساء في المجتمعات العربية عموماً: "يا صبر أيوب. قمتُ من جلستي المستريحة فدخلت الغرفة الصغيرة ونبشتُ الكتب المكدَّسة في خزانة الملابس المتداعية للسقوط منذ سنوات، فلم أجد ما أريد. تردّدتُ قليلاً قبل أن ألتقط الديوان الشعري الذي قرأتُ سابقاً نصفه الأول، ولكنني كنتُ أيامها مهمومة فأهملتُ استكماله بسبب استسلام الشاعر للأحزان، وتوقفت عن القراءة عند الموضع الذي كان الشاعر يقول فيه: "حزني ثقيلٌ فادحٌ هذا المساء".. ليلتها، همستُ لنفسي بأنني في غنى عن استدعاء المزيد من المعاناة، ومثل تلك القصائد يجب أن تُقرَأ نهاراً لا ليلاً، كيلا يؤرقني القلق ويسومني سوء السهاد. ومن يومها نسيته. لا مانع الليلة من استكمال قراءته فحالي اليوم أفضل كثيراً، ولكنه إذا ضايقني سأتركه مجدداً، ولن أعود من بعد لقراءته أبداً".

لدى بطلة الرواية "نورا" دوماً ما تقوله، لكن الكتاب يصرّ على إظهار البحث عن الكيفيّة التي ستريه فيها وتكشفه قبل قوله، ويكشفّ في الوقت نفسه في العمق عن أحلام الأنثى المتوارية حيناً والمتمرّدة حيناً آخر.

في الفصل الأول من  الرواية تحت عنوان "في حضن نور" نقرأ: "ساكنة الحركة وهانئة، كانت ابنتي "نور" تجلس في الصالة مشدوهة النظرات كعادتها عند مشاهدة مسلسلات الكرتون المفعمة بالألوان والصور السريعة. وكنتُ كعادتي في الأمسيات، منهمكة في أعمالي المنزلية التي لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد. أدركتُ أنني متعبة، حين أتاني صوت أذان العشاء منغَّماً من مئذنة مسجد "سلطان" البعيد عن البيت نسبياً، أو شبه القريب، وسرعان ما ركبتْ فوق صداه العذب أصواتُ أذاناتٍ أُطلقت من الزوايا والمساجد الصغيرة التي انتشرت مؤخراً بالمنطقة المحيطة، وصار القيّمون عليها يحرصون على اقتناء أعلى مكبرات للصوت..".

تلامس الرواية قضايا اجتماعية مختلفة، كل الشخصيات تحمل أسماءها "نور"، "نورا"، "توحة"، "أمل"، "ياسمينة"، "أشرف"، "د.حاتم"، "سمارة" وآخرين. يخرج بهم زيدان من حدود الشخصي إلى الإنساني العام بسلاسة وواقعية في لغة سهلة تتنوع مفرداتها بين الفصحى والعامية المصرية "مش هتصدقي النهارده قابلت مين. "سمارة". حبيب قلبك. قابلته في السوق وأول ما شافني سألني عنك، وكان نفسه يكلمك. هيموت عليكِ. قال لي إنه مسافر بكرة الصبح تبع الشغل، هيروح حتى كده بعيدة وهيرجع بعد شهر أو شهرين بالكثير، وهيتصل بيكي على طول أول ما يرجع. على فكرة دا بقى دلوقتِ زي القمر كده، وملو هدومه. ونِضف قوي يا نورا. بيشتغل هنا في التلفزيون".

تذهب التفاصيل أيضاً باتجاه التنويع في مسارات الحياة وواقعها، القسوة والأمل، الحب والكره، العدل والظلم، الإيمان والتشدّد. الفلسفة، السياسة، العمارة وقراءة المدن أيضاً: "سألته إن كانت "محطة الرمل" هي أجمل تكوين معماري بالإسكندرية؟ فاستدار، ودار بعينيه من اليمين إلى الشمال، وقال: كانت زمان. سألته عن سرّ هذا الأسى البادي في عينيه وهو ينظر إلى المباني العتيقة التي أراها جميلة، فقال إنه يراها مشوّهة. وشرح لي: هذا الميدان تم تصميمه وفقاً لقواعد العمارة الأوربية، وهذه المنطقة كانت في القرن 19 ضاحية غير مأهولة، لكنها عمرت مع إنشاء خط الترام وتصميم المعماري الإيطالي "أنطونيو لاشياك" سنة 1887 لمحطة الترام التي سميت "الرمل" لأن المنطقة كانت كثباناً رملية. وفي النصف الأول من القرن العشرين صارت المنطقة على هذا النحو، بعد تصميمات معمارية بديعة تراعي العلاقة بين المبنى والموقع، وبين الكتلة والفراغ المحيط بها..".

"نور" مثال على سرد تفصيلي طوّع كيفية أن تكتب رواية تشبه خصوصية حكايتها؛ والحكاية عن واقع معاش وقد يتفوق عليه بواقعيّته. لقد استطاعت الرواية أن تتخطّى الإرباك السردي الذي كثيراً ما تولّده قسوة الواقع، هذا الواقع الذي يتناول جوانب من الحياة المصرية بأحيائها وناسها الطيبين الفقراء منهم والأثرياء وأصحاب السلطة أيضاً. "شقة أبي هذه، التي صار إليها المآل فكانت لنا نعم المأوى، كل ما فيها صغير: مطبخ بلا باب على يمين الداخل من الباب، وحمّام ملاصق له مفتوح بابه الضعيف على الصالة المفتوح عليها الغرفتان الصغيرتان.. في طفولتي الأولى كنت أرى تلك الأماكن رحبة، فسيحة الأنحاء".

تعاني البطلة "نورا" من قلق دائم. قصة حب مع "سمارة" لم تكلل بالزواج بسبب رفض أهله لها، وزواجها القسري لأسباب مادية قاهرة من "مفتاح المبروك" الذي يزيدها بستة وعشرين عاماً تشكل أساس المعاناة التي غزت حياتها وما تبعها لاحقاً من صدمات وهموم كثيرة: ابنتها "نور" التي أصرّت على أن تحمل بها من حبيبها وبقي الأمر سرّاً، أما في العلن فهي من مفتاح الليبي الجنسية والذي يغادر مصر لاحقاً بعد أن يتم الطلاق.

ابنة الخالة "توحة" وصديقة طفولتها "أمل"، التي سافرت مع زوجها إلى الخليج ووصل بها الحال أخيراً لتعمل في الدعارة، متّخذاً الحدث من حادثة الاغتصاب التي تعرّضت لها وهي صغيرة تبريراً روائياً.

الانتقال من حيّ الطفولة الشعبي في الاسكندرية إلى حيّ راقٍ، الحصول على عمل في مكتب هندسي يملكه "د. حاتم" والد صديقتها "ياسمينة"، متابعة حصولها على درجة الماجستير في علم الاجتماع والتحضير للدكتوراه، العلاقة التي ربطتها لاحقاً بالمعماري "أشرف"، عودة حبيبها السابق الشاب النوبي محمد والملقب "سمارة" بعد خروجه من معتقل غوانتانامو. إضافة إلى أحداث وتفاصيل كثيرة غيرها تزخم بها الرواية التي يشكّل الخوض في اسكتشاف الأنثى وحالاتها ولحظاتها أساسها الأول.

"ما الذي جرى لي! ما عدتُ من شدّة شعوري بالفرح شاعرة ببرد. كشفتُ كتفيَّ وسقف صدري بأن خلعت سترتي الصوفية الخانقة، وتنفّستُ كل الهواء فامتلأتُ خفةً ومرحاً بحرياً. نعم. هذه أنا، وتلك بشرتي الناعمة الناصعة التي طالما عشقها، وكان يطيل التأمل فيها ويرتاح إلى لمسها بأنامله. وها هي سُمرتي قد ازدادت إشراقاً بعدما زاد وزني قليلاً، وقلّ تعرّضي للشمس لندرة خروجي من البيت.. صاحبتي "ياسمينة" كانت تقول إن لوني البرونزي البرّاق هذا، هو أمنية الأوربيات. فأردُّ: المستحيلة".

علماً أن الرواية تأتي استكمالاً لروايتي يوسف زيدان السابقتين "محال" و"غوانتانامو"؛ في وقت شكّل فيه ذاك الفتى النوبي بطلاً في رواية "محال" السابقة. ليكون في مطلب الرواية نموذجاً لشاب بسيط لا يبحث عن المعرفة متشدّد دينياً يؤمن بالأقدار وعاجز عن اتخاذ القرارات مسلوب الهوية وينتقل به المصير إلى معتقل غوانتانامو ويقضي سبع سنوات وبخروجه تنتهي "محال" لتبدأ لاحقاً "غوانتانامو"، الرواية التي مكّنت القارئ من عيش حياة البطل بتفاصيلها في المعتقل بل والتعاطف معه أيضاً.

يأتي سرد الأحداث على لسان "نورا" كخط رئيسي للحدث يتفرّع عنها بقية قصص الشخصيات وأحداثهم ذات الصلة الدائمة بالبطلة، على شكل صراعات داخلية. مثلاً رغبة "نورا" في إكمال دراستها والحصول على درجة الدكتوراه، وبقائها في عملها الذي يحقق استقلالها المادي من جهة وبين رغبتها في الزواج والبقاء بجانب "أشرف" الذي أحبته.

نقرأ : "كان الغداء شهيّاً، بل لا مثيل له في الشكل والطعم والطزاجة المبهجة للآكلين. رأيت حبيبي راضياً، فرضيت. ورآني هانئة بقربه، فما عاد يطيق الابتعاد. ساعدني في المطبخ، وكان يذهب خلفي حين أقوم للاطمئنان، بالنظر إلى "الصينية" عبر بوابة الفرن الزجاجية. وفي النهاية وضع معي الأطباق على السفرة، وكان يختطف مني القبل أو يدعوني للاحتدام بها، وكلما رأيت في عينيه لمعة الفرحة الطفولية. تمنيتُ أن أزيده منها.. هذا سقف السعادة الأعلى حيث الرضا، غير أن الوصول إليه خطير".

وعلى طول الأحداث تبقى الرواية غارقة بالتفاصيل المكشوفة حيناً والغامضة عن قصد في موضع آخر "كفى اليوم تعباً، وهيا يا نورا الأمورة السنيورة إلى الراحة وحضن نور.. باسمةً، غسلتُ على عجل ذراعيَّ إلى المرفقين ونفضتُ عنهما ما علق من الماء، وبهما أحطت أجمل طفلة في الكون قائلة لها: دلوقت أنا عاوزة عشر بوسات وحضن كبير.. هَمْ، هَمْ. – بس بأه يا ماما، عاوزة أشوف سلاحف النِّنجا".

يترك زيدان "نور" بكامل تفاصيلها تلك روايةً مفتوحة على إجابة لسؤال إن كانت "نورا"، بعد أن رأت ثلاث مكالمات فائتة على هاتفها المحمول، ستعاود الاتصال بحبيبها القديم "المشكوك في أحواله الحالية" أم ستتصل بحبيبها الحالي "المشكوك جداً في حاليته" أم أنها ستتجاهل الاتصالين؟!.

 

روز سليمان كاتبة سورية.