"جنّة العميان",, طعم القهر في فيتنام

يمكن اعتبار الرواية رصداً لتراجيديا جماعية من خلال مأساة عائلية. استجواب للجنّة الماركسية، جنّة غير المبصرين.

رواية "جنة العميان" للكاتبة الفيتنامية ديونغ تيو هوانغ

قراءة: روز سليمان -- "انطلق القطار في الخامسة مساء. كانت تلك هي الساعة التي يشعّ فيها كل شيء، متشرّباً الذهب السائل للمغيب: أبنية المدن، الأشجار على طول الأرصفة، والغابات الصغيرة من خلال الضواحي. في هذا الضوء، تتطاير أثواب الفتيات، وتصبح أكثر خفّة، وأكثر إغراء. تأملَتْهنّ دون ملل، وبروح ساكنة". تبدأ رواية "جنّة العميان" للكاتبة الفيتنامية ديونغ تيو هوانغ باستلام "هانغ" برقية من خالها المريض "مريض جداً. احضري في الحال". تسافر إليه في موسكو "بهيئة ضائعة قلقة، وأكتاف هابطة، في ثياب بائسة وباهتة اللون، كائن خائف يزن اثنين وأربعين كيلوغراماً".

يمتد زمن سرد الأحداث بين خمسينيات وثمانينيات القرن العشرين. حيث تعمل هانغ في إحدى الشركات الروسية، مثلها مثل الألوف من الفيتناميين بسبب الظروف الاقتصادية المتردية التي تمر بها بلدهم. تسرد الرواية الصادرة حديثاً عن دار دال للنشر والتوزيع – دمشق 2016 ؛ قصة ثلاث نساء يصارعن من أجل النجاة من إحدى المجازر، التي قام بها نظام الحكم الماوي آنذاك. "هانغ" إحدى بطلات القصة إمرأة تفرقت عائلتها وتشتّت لتبقى هي مع والدتها "كنه" وعمتها "تام"، إذ أجبرت هذه الأسرة الناجية على مغادرة القرية لتعيش في أحد أحياء هانوي الفقيرة.

تعتمد الرواية التي نقلتها إلى العربية راغدة خوري، تقنية الرجوع بالذاكرة. حيث تبدأ في سرد القصة من العاصمة موسكو بمقابلة هانغ للخال تشين، المسؤول الكبير في الدولة، هو الذي تسبّب مسبقاً ببيع الأرض وهجرة عائلتها وتشتّتها، الأمر الذي أصاب الأم بالحزن الشديد والأسى الكبير الذي أصاب عمتها.

تقبع هانغ في عالمها الصارخ في بساطته، تستمع إلى المحيط، المدن والطرقات والحقول، تشمّ رائحة الوطن. إصغاء يتعدّى السمع بالغرق في تفاصيل حيوات الشخصيات وتصرفاتها وطريقة تفكيرها والخلفيات التي أتت منها. وكأنها تختبر أصواتهم. امتهن جدّها لأمها الطب الشعبي. استطاع أن يشفي عدداً لا بأس به من المرضى المصابين في بعض الأحيان بأمراض خطيرة. لكنه لم ينجح في إنقاذ نفسه. توفي وهو في الثالثة والأربعين من العمر بمرض غير معروف. وفقاً لأعراضه، كان مرض السرطان. جدّة هانغ كان عمرها في ذلك الوقت اثنين وأربعين عاماً. قرّرت ألا تتزوج بعد وفاة زوجها مرة أخرى، مكرّسة حياتها لأجل ولديها، "كيه" والدة هانغ في التاسعة عشرة وقتها، والخال تشين في السابعة عشرة.

أحد الأقرباء الذين حضروا جنازة  الجدّ أخذوا معهم الخال تشين إلى جماعات التمرد في منطقة تقع في الشمال الغربي من فيتنام، وليس لديها أي منفذ بحري، وانتسب إلى جيش التحرير الوطني. بينما بقيت الأم(والدة هانغ) في القرية تعيش من تجارة صغيرة بنقل مجموعة من البضائع في سلال إلى السوق، لتعيل المنزل. ومن ثمّ تزوجت من تون الرجل الوسيم. ولم تعرف هانغ من هو أبيها إلا عندما كانت في التاسعة من عمرها. كان تون يعمل مدرساً في المدينة وتعرف إلى أمها ذات العشرين عاماً، عندما طلب نقله إلى الريف ليعتني بوالدته المقعدة التي شُلَّت إحدى قدميها من جراء الروماتيزم وكان تون حينها في السادسة والعشرين. تربى تون في الغرب، في فرنسا. وبعد عام وشهرين من زواجهما، حلّ السلام فعلياً.

على مدى 285 صفحة من القطع المتوسط تحمل "جنّة العميان" مبرّرها التاريخي. السيطرة على زمن إنتاج للحياة والحب والحرية في سياق روائي مفعم بالبساطة، بعيداً عن السرد الفجّ للسياسة وحيثياتها في فيتنام ذلك الوقت، بل حاولت الرواية تقديمها في صيغة توافقية مع السرد العام للحدث الروائي الأساسي بمجمله.  لقد رجع الجنود من معسكر فرق الثوار. إلا أن الخال تشين لم يأتِ معهم. وفجأة بعد ستة أشهر عاد من التحرير. وكان متعالياً في موقفه من تون، الأمر الذي دفع الأخير للعودة إلى منزل والدته حيث تعيش مع أخته البكر "تام". ومن ثمّ، في يوم من الأيام هرب تون من القرية غير قادر على تحمّل الظلم والعار!!. ليمنع لاحقاً الخال تشين أخته "كيه" من التواصل أو الاتصال مع زوجها "تون"، مدّعياً بأنه قبل عودته من التحرير كان قد تلقّى مهمة قيادة الإصلاح الزراعي وتم تصنيف الأشخاص في القرية، وبأن عائلة "تون" تعتبر جزءاً من الملّاكين المستغلين لأنها تستخدم عمالاً زراعيين، وصُنّف تون من بين الأشخاص "المُنَدَّد بهم والذين يجب تأديبهم"، طالباً تشين من أخته عدم التأثر بكلام الآخرين "يجب الوقوف بحزم عند خط الطبقة الاجتماعية.

"يجب علينا محاربة ملاكي الأراضي الظالمين والمحتالين، والمتوحشين، وإعادة الأراضي للفلاحين. إن لم تصغِ إليّ، سوف تُستبعدين أنت أيضاً من المجتمع، وستعانين من عقوبات الثورة"!. وبعد فترة لم تسطع "كنه" تحمل الحياة في القرية، وضّبت حاجاتها ورحلت إلى المدينة. وبين فترة وأخرى يزورهم الخال تشين. في يوم شتائي جاء رجل إلى بيت الأم وابنتها، بعينيه السوداوين وانحناءة ظهر قليلة ووجه على شكل مربع وابتسامة طافحة بالعذوبة. الخال "شين"، إنه يشبه أمها.

على المستوى الفني لا يمكن اعتبار الرواية مغامرة، إلا أنها تمتّعت بشكل لبّى طموح المحتوى والمضمون. تكشف ديونغ عن عوالم فطرية للحكي والسرد الذي جاء على لسان بطلاتها الثلاث وتحديداً هانغ. تفتقد الأخيرة الوطن، فيتنام، حيّ طفولتها. هناك حيث كوخ جمعها مع أمها في الأحياء الفقيرة، بسقف من الصفيح، رُمِّم بألواح من ورق مقطرن "في الأيام الماطرة، كان السقف يقرقع. في الصيف، في أيام القيظ، كانت رائحة القطران تثير الغثيان. من حول الكوخ، ومن تحت الألواح المتجاورة كانت المجارير تسيل من كوخ إلى آخر. كان الأطفال يلعبون بتحريك هذا الماء الأسود، ويطلقون قواربهم الورقية الصغيرة فيها..".

تشكّل الهوامش التعريفية في أسفل بعض صفحات الرواية جزءاً حيوياً من الرواية نفسها. إنها جزء من عملية البناء تنمّ عن راوية تعرف وتعيش ما تكتب، تحاور شخصياتها في اللحظة التي تكتبهم فيها وقد تلعب أدوارهم حيناً آخر، تكتشفهم وتكشفهم عبر مسار من السرد المتقن والمحكم.

خبرت هانغ الضياع عندما لم تعرف عن أبيها إلا في عمر التسع سنوات، اختبرت الفقر والجوع والقسوة، لتكون القيمة الأساسية لهذه الشخصية هي الشجاعة عندما كبرت. قدّمت الرواية لقرائها نماذج مختلفة ونقيضة أحياناً بأشكال تعبيرها عن نفسها وتعويضها فقدان المعنى من الحياة. تلك الجنة الوهم. بقيت صورة والد هانغ مخفية عنها، لا أحاديث تخبرها أمها عنه، وعندما تسألها يكون الجواب "لا تسأليني، أرجوك! سنكون دوماً معاً، أنا وأنت، لن نترك بعضنا أبداً، سنكون سعيدتين! لكن يجب ألا تسألي هذا السؤال مطلقاً".

للحكاية في "جنة العميان" بداية ومسارات وتاريخ بطعم القهر، للحكاية أزمنة تلبس أحداثها، ثلاث بطلات قادمات من فعل الظلم الذي مارسه على العائلة تشين الخال. في الحكاية تنبؤات عن المصير قبل أن يحدث، رسائل الجدّة والأم والعمّة وقيم العيش في الحقّ والمعرفة والكرامة. واضح في معظم مفاصل الرواية الرجوع بالذاكرة وخصوصاً عندما تعود البطلة هانغ في سرد القصة إلى العاصمة موسكو لتقابل الخال الذي هو نفسه المسؤول الكبير في الدولة، والذي تسبّب ببيع الأرض وهجرة العائلة وتشتتها، والذي أدى إلى إصابة الأم بالحزن العميق، والأسى الكبير.

يمكن اعتبار الرواية رصداً لتراجيديا جماعية من خلال مأساة عائلية. استجواب للجنّة الماركسية، جنّة غير المبصرين. نقرأ : "لا سعادة منشودة يمكن إيجادها، فكل حياة نقيضها، وكل حلم نحلمه، هو مجرد مضيعة للوقت". وأيضاً نقرأ "رفع خصلة من شعره وقال: أيتها الفتاة الصغيرة، يجب أن تفهمي، حتى ولو كان هذا سيصدمك. خالك هذا يشبه الكثير من الناس الذين أعرفهم. لقد تعبوا من محاولة تحقيق الجنّة على الأرض. لكن ذكاءهم محدود جداً. بالحاصل، لم يعرفوا مما كانت تتألف هذه الجنّة، ولا كيف سيتوصلون إليها. عندما استيقظوا من أوهامهم، لم يبقَ لهم بالكاد غير التقاط بعض الفتات من هذه الحياة، بعض البذور المرمية في الطين. حينئذ أسرعوا لالتقاطها، بأي ثمن كان. لديهم مأساتهم الخاصة بهم. ومأساتنا أيضاً، إلى حدّ ما".

تقوم الرواية على التوصيف الدقيق للأمكنة والأشياء والبشر "في المساء، بعد العشاء، عهدت المنزل للسيدة "دووا" وذهبت إلى المقبرة. كان لا يزال هناك نور خفيف. كان الحراس الصغار للجواميس يلاحقون أطراف فكاهات بعض الفتيات اللواتي كن يسخرن من بعضهن البعض ويضحكن بصوت عالٍ على طول الطريق. على القبر، كانت الأزهار قد ذبلت، وبدأ الهواء يبعثرها. أشعلت بضع أعواد من البخور، ووضعت بعض أعواد عود الصليب التي قطفتها للتوّ. ثم جلست، ورحت أتأمل الحقول الشاسعة تتشرّب ضوء المغيب، كانت حقول الأرز تتلألأ بكافة درجات الألوان. كم من مرة أثناء إقامتي في روسيا، حلمت بهذا المنظر الطبيعي؟".

الأزمان في الرواية لحظية غالباً. لقد بثّت فكرة موت "تام" عمّة هانغ الرعب في نفسها، العمّة التي رعتها وحمتها. حتى جسدها الهشّ والضعيف في أيامه الأخيرة كان ملجأ هانغ الأخير. "أمام جسامة غيابها، بدا لي العالم فجأة واسع بشكل مخيف". تحكي هانغ عن جمال عمّتها حتى أنها وجدت وجهها أثناء موتها متألقاً. ولشدّة حبها لها وبرغم عدم مبالاتها بالعادات والمقدس عموماً، إلا أن هانغ نثرت حول جسد عمتها في النعش، الذي صنع من الخشب الثمين والضخم، شاياً على غرار أهل الجنوب، كما ارتدت لأجل الدفن رداء الحداد، ووضعت قبعة من القشّ، وحملت العصا؛ ومشت أمام النعش متراجعة إلى الوراء ومتباهية بالتقوى(بحسب مراسم الدفن، يجب على الابن أن يسير ووجهه أمام النعش متراجعاً إلى الوراء حتى القبر، وهذا يعني أنه سوف يعود إليها ويصطحبها إلى الحياة الأخرى).

نقرأ : "تبعاً للتقاليد، كان يجب عليّ القيام بواجب المناسبات الثلاث: تلك التي لليوم الثالث، ولليوم التاسع والأربعين، وليوم المئة. قررت أن أبقى في القرية حتى نهاية المراسم الثلاثة. طلبت من إحدى المعارف أن تبلغ والدتي. أجابتها والدتي وهي غاضبة: (لتبقَ ثلاث سنوات إن كان هذا يعجبها). لم أتأثر على الإطلاق، بل ركّزت تفكيري على ترتيب المراسم الثلاثة".

الرواية مليئة بالتفاصيل عن حياة قرى ومدن فيتنام، السياسة والأحزاب هناك. عاداتهم في الأفراح والأحزان وطبيعة طعامهم أيضاً. "على الصينية كان هناك طبقي المفضّل من الحساء: حساء أزهار الزنبق بالسرطان البحري وببيض سرطان البحر المغلي. كان البيض يطفو كالغيوم الذهبية اللون وسط أزهار الزنبق التي جعلها الطبخ شفّافة. كان يوجد أيضاً عصيدة الصبّار، وقطع من فطائر الصويا الطازجة".

تزخر الرواية بالبساطة والعفوية. تعاتب هانغ أمها: "جميل منك أن تكوني قد منحتني الحياة. لكن تفرض عليّ الحقيقة قول ذلك: أنت المخطئة. حاولت أن تخدعي عمتي تام. كذبت عليها! أنا لم أكذب عليك سوى مرة واحدة. كنت في السابعة من العمر. طلبتِ مني شراء ثلاث أوقيات من لحم الخنزير المطبوخ. لم أشترِ إلا أوقيتين ونصف. هل تعرفين لماذا؟ كي أستعير كتاباً. لكنك ضربتني من دون هوادة. تألمت. خجلت. لكني فهمت جيداً الدرس: يجب عليّ ألا أخدعك. ولم أعاود الكرّة أبداً".

في المقابل تعترف هانغ بأن أمها أرادت منها أن تكون شجاعة مثلها. وتعترف في المقابل بأنها كثيراً ما فشلت في معرفة ما يتوجب عليها القيام به لتكون كذلك فعلاً. تؤمن الأم بأنه كي تعيش ككائن بشري، يتوجّب ألا تثبط عزيمتك. عند أول استسلام سينهار كل شيء. الزنجبيل ينكمش مع التقدم في العمر، لكنه يصبح لاذعاً أكثر. المصيبة تصقل الرجال، وعندها ترسّخ إنسانيتهم.

تمتلئ الرواية بالحنين. عندما انتقلت هانغ إلى الجامعة وفي أوقات الدروس غالباً ما كانت تلجأ إلى آخر المدرج المعتم، وسط مقاعد فارغة يعلوها الغبار وتترك نفسها لتنساق إلى الحنين. "كنت أسمع المطر يقرقع على صفيح سطح منزلنا العظيم، ويتناهى إلى مسامعي صوت ضجيج الفجر الذي كان يعلو شيئاً فشيئاً: الصراخ، النداءات، الأوامر، والشتائم، التي كانت ترتفع من جميع الجهات وتصل إليّ، مخلوطة بروائح الأطباق، ثم بصوت المعاق الأجشّ. كنت أتذكر تفتح الأزهار المتسلّقة التي كانت تتجاوز الجدران الشائكة لشظايا الزجاج المغروز فيها. لم أزل أحتفظ في فمي بمذاق أعواد سكر الشعير".

 

*يذكر أن المؤلفة ديونغ تيو هوانغ كانت عضواً في الحزب الشيوعي وشاركت في الحرب ضد الولايات المتحدة الأمييكية، لكنها فُصِلت من الحزب، وقضت مدة في السجن، ومُنِعت كل كتبها من النشر آنذاك. ذهبت إلى فرنسا، حيث بقيت تعيش فيها حتى الآن.

 

*روز سليمان كاتبة سورية.