كيف قرأ موريس فارحي هذيان الحروب في روايته "رجل منصّب"

إنها رواية عن أولئك الموتى الذين اختاروا التخلي عن سبل الخلق الذين يتنفسون من أجل أن يَقتِلوا ويُقتَلوا.

رواية "رجل منصّب" لموريس فارحي
اسم الرواية: "رجل مُنَصَّب" -

الكاتب: موريس فارحي - 

 الناشر: دار دال للنشر والتوزيع - دمشق -  2016 -

 قراءة: روز سليمان* -- "لم أعد ألبس زيّ الرجال. لقد عدت امرأة من جديد. وكنت عارية. ورجل يلِجُني. إنه رجلي. ولم أكن أطلق الرصاص بل أفيض بكل الدفء والمتعة اللذين كنت قد حبستهما عميقا في أحشائي". هذا هو السياق المُكثَّف الذي مشى من خلاله موريس فارحي في رواية "رجل مُنَصَّب"، بحيث بقي تخليص "بستانة" من أن تكون الرجل المُنصَّب دون الخروج عن قانون الجزيرة، هاجساً روائياً لا ينفصل عن موضوعه!!. بين "بستان" و "بستانة" رواية بأكملها ترجمها إلى العربية محمد حبيب. خمس عائلات في حالة نزاع مع بستان/ة. وفي زمن السرد هنا في الكتاب منازع واحد فقط نشيط، إنه فيكتور المرابط في الحقل. صديق كوكونا القديم!.

تنسج "رجل مُنَصَّب" الصادرة عن دار دال للنشر والتوزيع-دمشق 2016 ، تاريخ جزيرة سكيندير بمادة روائية عميقة، ملامح تعرف داخل البشر وخارجهم، ما يحبون، ما يكرهون، ما يُخفون، وما يُظهرون. لغة شيّقة تصعد من صلب المقدّس، لتهبط  في تاريخ بلدان تحول الأصدقاء والجيران فيها بين عشية وضحاها  إلى أعداء. فمَن أولئك الذين يكتب عنهم فارحي. هم؟!.. نحن؟!. من نحن؟!. في الرواية متواليات حكائية سلسة تنفتح بخفّة على نهايات مرنة لا تتوقف قبل أن تلد ما بعدها. تتوالى حيوات أبطال "رجل منصَّب" وكأن بهم: كوكونا، أوسيب، بستان، ديف، توما، ليلى..؛ موضوع الحكاية وإشارتها معاً، إسقاطاً على إنسانيتنا التي غمرها القتل والدم والثأر وجنون الحروب. "وإذا كنا، نحن، نساء هذه الأيام نعامل أنفسنا بالطريقة نفسها، فهل تركنا لأنفسنا أي أمل إذاً؟ نعم، هناك أمل. وسيبقى هناك وقت لاستعادة عاطفتنا الطبيعية وحب الحياة الفطري فينا. سيبقى هناك وقت لاستعادة الفضائل التي يمنحنا إياها عشاق الحب. نحن النساء قد أنيطت بنا مهمة خلق المستقبل. وقُدِّر لنا أن نكون حماتُه".

وكأن لا فصل يُذكر عند الكاتب التركي البريطاني(1935)، بين الأسطورة والأصل في رواية تاريخ الجزيرة. "في البحر، يرش الصيادون ماء العسل، العطر والبخور. بعدئذ يجرحون راحاتهم، ثم يلامسون بها وجه الماء المتموج ويمزجون دمهم به ليصبحوا أخوة الدم مع حوريات البحر. على قمم الجروف، يقف المتزوجون الذين ملؤوا سراويلهم التحتية بثمار الخوخ، ثم يمارسون طقس رمي الأمواج بها، لخلق رابطة مسبقة بين آلهة البحر وبيم أولادهم الذين سينجبونهم". بالمقابل لقد كان الدرس الأول، الذي تعلّمه أوسيب غورا (زينوس) في المدرسة على يد معلمته كوكونا، عن سكيندير موطنه الأصلي، هذه الجزيرة الأسطورية التي سُمِّيت على اسم الاسكندر الأكبر حيث أرسله معلمه أرسطو لدراسة ما كان يعرف آنذاك بالملكية الأكثر سلمية في بحر البحار، وعندما شاهد طريقة فلاحي سكيندير في حراثة التربة وبحارتها حارثي الأمواج يعيشون في وئام نشأت لديه فكرة زواج الشرق من الغرب. المرأة رجلا مُنَصَّبا فيها، الأشياء، البشر، كلب الحراسة كاستور، كل شيء يبدو حاضراً وكل الرغبات الخائفة والنبيذ والعرق والتين والعنب وكل من يموت مقتولاً وكل من يعيش بانتظار لحظة قتله على يد أحد أعدائه. ورغم كل شيء ها هو أوسيب وبعد غياب دام خمسون عاماً يعود إلى الجزيرة في مصادفة تجعل أول من يلتقيه هي كوكونا(الراوية هنا)، هي التي وضعته قبل خمسين عاماً على متن العبّارة ليبتعد عن الجزيرة رغبة أمه إليانورا الصقر أن يتجنّب انتقام أعدائه، يقول أوسيب : "اعتقدت أنه قد آن الأوان كي أعود؛ أن أنهي ما تبقى من حياتي حيث بدأتها".

ثمّة لغة للمكان لازمت الراوية كوكونا وهي تقتفي ما غاب من آثار وأعمدة إغريقية ومعابد رومانية وجروف ومساجد عثمانية وكنائس خلابة ومنازل الحرفيين ومستودعات زاهية الألوان، الأغنام، الماعز، الخنازير، الدجاج والإوز. كل شيء كان يتحرك بحرية بين الحشود البشرية!. لم يبق سوى أطلال التاريخ والغبار، الصدأ والطحالب، بقايا الصرف الصحي، وجيف الحيوانات النافقة المنتفخة ورمال باهتة تفترش الشاطئ " ذكريات الناجي الذي لا يزال يلسعني في كتفيّ. لقد مات والدي بسببي".

إنها رواية عن أولئك الموتى الذين اختاروا التخلي عن سبل الخلق، اختاروا مضاجعة الكره لا الحب، أولئك الذين يتنفسون من أجل أن يَقتِلوا ويُقتَلوا. وكوكونا تكتب قصة خرافة أن تصبح أية حماقة هي "ذريعة مناسبة للقتل من أجل الشرف". تسرد سيرة مكان دخل الشرّ فيه كشظية ثم انتشر مثل شجرة البلوط. مكان توارى مع أصوات بشر مضوا يقتلون بعضهم بعضاً لاسترداد مفهوم الشرف، بشر خافوا من الحياة وعاشوا مع الكراهية "البشر الذين نبذوا رحمتهم الفطرية باعتبارها ضعف".

رواية تَقرأ بصوت عالٍ ضجيج التاريخ وهذيان النزاعات والحروب، تحتفظ منها بكل ما هو غير متوقع. إنها رواية عن سكيندير. وقد تكون عن سوريا، عن لبنان، عن العراق، عن بلدان وبلدان.. على مدى 525 صفحة من القطع المتوسط، يقبض الموت على البيوت والشوارع والشباب والأرواح. نقرأ : "المدينة في حالة فوضى. لقد نُهبت من أولها إلى آخرها. وأي سلع تصل تصادرها العصابات على نقاط التفتيش. الناس مرعوبون. معظمهم يموت جوعا. يبحثون عن فتات يقتاتون به. اليأس يسكن عيونهم. السوق السوداء وحدها مزدهرة..".

في هذه الرواية يقترح الموضوع لغته ويسير بعيدا عن التكلّف. لا شيء أكثر هدوءً في زخم الموت من لغة يومية مشتقة من حال شخصيات الرواية بتنوعها:" أبدأ بتحضير المصائد. تسألني "ماذا تفعل؟". "مصائد لأضمن أمانك". فأنا ذاهب إلى المدينة لأجلب لك الدواء". "سأكون في أمان. لقد أشعلت لي ناراً، تبقي الحيوانات بعيداً.". "هذه المصائد ليست ضد الحيوانات" "من أجل الناس، إذن؟ لكنها ستؤذيهم، حتى أنها قد تقتلهم.".

يبني موريس فارحي عوالم أول رواية له ترجمت إلى العربية، في العلن. يرى القارئ منها المخفي داخل البناء الفني ومضامينه، والصريح أيضاً. امتزاج وتفاعل ينسحب على كامل الشخصيات من خلال كوكونا(الراوية) وحقيقة السرد الذي تحفظ تفاصيله عن ظهر قلب. القانون في الجزيرة، في جانب منه، مع التدين الأعمى والطقوس الغيبية للإيمان الرسولي. كان لكل عائلة منازع يدافع عنها وهو شاب. مثلا دفعت زوجة هانيبال والد أوسيب بأن يصبح منازع آل غورا، إذ كان رجال عائلة غورا ينفدون ومن تبقى منهم تجاوز مرحلة الشباب. علاوة على ذلك، لو رفض تلك المهمة كانت والدة أوسيب كما هددته ستنصِّب نفسها رجل العائلة المنازع بعد أن تلد أوسيب.. بالمقابل كان أهل جزيرة سكيندير شديدي الكرم ويمتلكون حسّاً فطرياً بالعدل لكنهم انحدروا إلى ثقافة عنف خلال بضعة عقود دون أية مقاومة تذكر. تقول الرواية بأن هذا الانحدار بدأ بعد أن نزلت الجزيرة عصابة من الجنود الباحثين عن الثروة. كان هؤلاء الأشرار يجوبون أوروبا بحثا عن المجتمعات الغنية، النائية غير المحصّنة، والتي يستطيعون استغلالها دون مقاومة تذكر. منذ ذلك اليوم وعلى حد وصف هانيبال في مذكراته كان القدر دوما في صف الرجال الأشرار ومنحهم فرصة تحقيق طموحاتهم عقب انسحاب العثمانيين من الأرخبيل في نهاية القرن الثامن عشر. وفي التفاصيل : كان يقودهم مهووس أطلق على نفسه اسم تيمور وادعى أنه ينحدر من سلالة سوط الله. وسرعان ما أسس أولئك الفاتحون حكما إرهابيا على الجزيرة. تيمور الذي كان يكره المسيحيين، واليهود، والمسلمين، والمتحولين وكل الآخرين على قدم المساواة، شرع وبكذب خبيث في زرع الشقاق بين العائلات وضرب المصالح أحدها بالآخر عن طريق استغلاله التعصب الذي كان نائما منذ قرون. وسرعان ما وجدت الجزيرة نفسها في أتون منازعات لا ترحم بعد أن عاشت قروناً من الحياة الآمنة الجذابة. وعندما مات تيمور بعد أن سن مجموعة عقوبات شديدة القسوة في مواجهة كل ما يعتبره جريمة. خلفه ابنه جنكيز الذي سميّ على اسم أحد ملوك آسيا الوسطى، وفي مرحلة من المراحل وقّع على قانون هو عبارة عن مجموعة أحكام ترسخت في بعض القبائل والتجمعات البلقانية النائية التي اعتمدت وصية أساسية وهو صون الشرف وخصوصا غسل العار بالدم المسفوك. وأصبحت النسخة الخاصة من هذا القانون هي دستور سكيندير.

كان القانون في عهد جنكيز يعتبر كل الذكور في العائلات المتنازعة الذين بلغوا العاشرة من عمرهم أهدافاً مشروعة للمنازعين عندما يعثر عليهم خارج نطاق حرم بيت العائلة؛ الأمر الذي أدى إلى انخفاض عدد الذكور خصوصا بسبب موت الأولاد الصغار كما أجبر العديد من الرجال الباقين على قيد الحياة على اللجوء إلى مناطق نائية من الجزيرة إلى بقية حياتهم مع قليل من الطعام في أكواخ محصّنة حيث الفتحات الوحيدة فيها تتّسع فقط لخروج سبطانة البندقية عبرها وهذا تسبب بدوره بتراجع الزراعة وزيادة النفقات. إلى أن غيّره هانيبال  ليوجب أن يُناط النزاع بواحد فقط من أفراد كل عائلة. ولاحقا اقترح هانيبال تعديل القانون، الذي هو أساسا قد قام جنكيز بتحويره من قوانين من العصور الكلاسيكية، بما يجعل كل عائلة تختار من بين رجالها منازعاً واحدا بحيث ينحصر النزاع بين رجلي العائلتين فقط، ويجب أن تمنح عائلة أحد المتنازعين الذي يُقتَل هدنة قصيرة لدفن رجلها واختيار منازع آخر يخلفه. لكن هانيبال لم ينجح في إبطال مفعول قانون الجزيرة الذي أبقى على تعيين امرأة من الأسرة منازعا عن الأسرة في حال قتل كل الرجال فيها قانونا كنسياً. ومن بين تلك النساء كانت بستانة في صيغة رجل مُنصَّب هو "بستان"!. إلى أن تمكنت بفضل أوسيب من التحرر واستعادة أنوثتها. إذ يكتشف أوسيب بعد عودته إلى الجزيرة في وثائق والده هانيبال أن الأمر ممكن من خلال المصالحة إما بتقديم اعتذار علني، أو التعويض المادي. "أنا بستانة كريستوف، المعروفة من قبلكم، لبعض الوقت، باسم بستان. لقد رجعت إلى اسمي الأصلي لأنني قررت أن أتخلى عن موقعي كرجل منصَّب.... لقد تبادلنا النزاع لأجيال. وكلنا يعرف كيف بدأ ذلك النزاع. لقد استخدمنا أمراء الحرب ليقتل أحدنا الآخر. واخترعوا قصصاً لطّخت شرفنا جميعاً... أنا التي كنت، حتى وقت قريب، أقتات على خبز كراهيتنا اليومي دونما تفكير...". ورغم عودة بستانة عن كونها رجلا مُنصَّباً، إلا أن نهاية الرواية تكشف بأن كل تلك العائلات التي وافقت يوم المصالحة على إحلال السلام في الجزيرة حنثت جميعا بوعدها " لقد استأنف الناس المنازعات بروح ثأرية مضاعفة بسبب شعورهم بالخيانة والخوف ولعجزهم عن تخيل حياة دونما قانون صارم". إضافة إلى أن من قتلها كان ابنها زيمون!. بالمقابل لم يكن لأوسيب أن يبقى على قيد الحياة إلا من خلال حبه لبستانة وحمايتها بعد أن أنقذها من الموت. يضمد جراحها، يغسلها، يساعدها على المشي، يهدهدها لتنام.. لكنه بعد أن قتلت بستانة أمام عينيه برصاص ولدها يضمر النار في جسده معها متحدين.

بستان هي بستانة الرجل المنصَّب لعائلة آل كريستوف، أصبحت بناء على طلبهم رجلهم المنصَّب. زيمون ابنها من زوجها فالمر الذي قتل في المنازعة ومات قبل أن يولد طفله. تخيلت بستان أن تصبح لـ زيمون الأب الذي لم يعرفه أبدا. بالإضافة إلى هاجس الشرف. اعتقدت أنها بتحولها إلى رجل منصَّب، ستحميه من المنازعة. مع ذلك إنه ينتظر موتها كي يأخذ مكانها : "... لو عرفت، يا زيمون، كم هو رائع أن تمنح الحياة لمخلوق، لتوقفت عن التفكير في القتل والموت... لقد أردت أن أكون حرة مثل رجل. لكن ذلك كان مجرد نزوة. حقيقة الأمر هو أنني كنت أماً.... بعد أن قتلتُ كل أولئك الرجال ما الذي غيرني؟ الآن أصبح القتل غير مقدس. إنها لمسة زينوس". ماذا لو كان أوسيب-زينوس- هبة من السماء؟ ها هنا رجل، حيونته المنازعات والحروب! وعندما يعود إلى وطنه، ماذا يجلب معه؟ لم يجلب الموت-الذي شاهده في كل مكان وأتخم منه! على العكس، يجلب معه الشفاء-هذا الفن الذي سلبتنا إياه الحروب الأهلية. والأكثر أهمية أنه قد جلب معه الحب! الحب. منحه إياه راعي الحب، الإله الوحيد الجدير بالعبادة! جاء به إلى هذه الجزيرة المغمسة بالكراهية منذ قرون! هل يمكن أن نرفض هذه الهبة؟ إن قتلناها، ألن نكون قد قتلنا كل شيء؟.

كانت هذه الرغبة بالعودة عن القتل عند بستان/ة بعد أن قتل/ت أنطوان الموسيقي عازف العود. لقد مات أنطوان لأنه كان يقدّس القانون.. لكن من الذي قتل أنطوان؟ يقول ماريوس : "إنه انعدام الروح! أولئك المهووسون بالسلطة! دعاة القانون! الناس الذين يرون الحياة من خلال الموت، ومن خلال الموت فقط! والأنبياء المزيفون..".

توما الصالح يجسّد شريعة الجزيرة، زوجته ليلى الشابة التي ستبقى عذراء لأن توما معطوب الخصيتين، أطلقوا النار على خصيتيه وفقد رجولته يقول "رغم مرارة وفظاعة فقدان الرجولة، فقد ضمنت لي البقاء حيا! استطعت أن أحيا.. أن أستمتع بحلاوة الحياة.. أحمل راية الشرف دون أن أضطر إلى المنازعة من أجله". توما الذي سافر إلى الخارج واكتشف أن كل كتاب يناقض الآخر. هو الذي فشل في استيعاب التنوير الأوربي وبسبب عجزه عن الإنجاب تحول إلى متعصب يكره في قرارة نفسه، كل أجيال الذكور، ويزوجهم إلى الموت. وجد أوسيب وثائق تخص والده هانيبال أرّخت لأزمنة السلم والرخاء في الجزيرة. في ذلك الوقت حيث منحت السلطنة، السكينديريين حق الحكم الذاتي وإدارة شؤونهم بحرية لكن بعدل؛ وهكذا حافظوا على مبدأ أن التجارة مع الجميع هي جوهر الحضارة. هذا الاعتقاد في التعايش أنتج روح حسن النية: عندما تتسبب عواصف البحر المتوسط المتقلب بإغراق سفن، تدمير ثروات، قتل أقارب، أصدقاء، ومقربين، كانوا يسرعون إلى تقديم العون والمساعدات المالية. فلا غرابة أن بشراً من كل الأعراق والأديان تنافسوا على الاستقرار هنا. ليبقى أحد هواجس إجابات الرواية : هل فعلا أنه إن أردنا أن نحقق على الأقل شيئا جديرا بالاحترام، قد يستغرق منا حياة كاملة؟!.