دروس في البراءة: سحر الغرب وزخرفة الشرق في رواية ريم

رواية "ريم" هي أولى روايات الكاتب أحمد صلاح المهدي وصدرت في مصر عن دار الكنزي للنشر والتوزيع في كانون الثاني يناير 2017 وهي تنتمي لأدب الخيال الغريب، وموجهة بشكل أساسي لفئة اليافعين العمرية، إلا أن الكبار يستطيعون الاستمتاع بها أيضًا.

رواية "ريم" الكاتب أحمد صلاح المهدي

 تبدأ الرواية ببطل اسمه سيف يعيش حياة روتينية تقليدية حتى يقرر اقتناء قط أسود من أحد محال الحيوانات الأليفة. ومنذ ذلك اليوم تنقلب حياته الرتيبة رأسًا على عقب بسبب القط ومحاولاته المستمرة للتخلص منه، مما يجبره على محاولة تعقب أثر المالك الأصلي للقط ـ أو هكذا ظن ـ وهي الطفلة الريم المذكورة آنفًا. يتبع نصيحة البائع في محل الحيوانات الأليفة (الذي كان له تجربة مخيفة مماثلة مع القط الأسود) بأن يذهب إلى السوق ليسأل أهالي السوق عن رؤية فتاة صغيرة مع هذا القط اللعين (ترتدي دومًا فستانًا أبيض). يتصادق مع فتى صغير يدعى "أسامة"، أمه الفقيرة تبيع الخضراوات في السوق، ويدل سيف على بيت ريم، كوخ معدوم في منطقة معزولة في قلب الأشجار.

مرت ريم طيلة حياتها بالمآسي، أمها، التي هربت من جدتها الشريرة، تزوجت بشاب ثري يعيش حياة ميسورة، لذا لم تعرف ريم أي شيء عن جدتها. ثم مات أبوها وأمها في حادث سيارة، ورفض الجدان الثريان ـ والدا الأب ـ تحمل مسؤولية ريمـ فقد كانا معترضين على تلك الزيجة من البداية وألقيا بها في حجر جدتها، ولكن ما سيأتي هو الأسوأ.

تروي الحكاية من منظور شخصيات عدة، ولكن المثير للاهتمام هو أن سيف هو أول شخص تلتقي به، لا ريم. هذه طريقة بارعة ومراوغة للسرد لو سألتني عن رأيي. بسبب سرد الرواية من منظور الشخص الثالث، فهذا يسمح لك بالانتقال بين منظور الشخص البالغ إلى منظور الطفل ـ ريم وأسامة ـ وهذا الانتقال ممتع حقًا. فإن البراءة وجهل حقيقة الأشياء الشريرة في هذا العالم هما ما يسمحان للأطفال بتحمل قسوة الحياة في نهاية المطاف.

هذا بدوره يسمح لك بالانتقال بين العالم العلمي التكنولوجي البارد الذي يقطنه البطل سيف، إلى عالم السحر الأسود الغامض الذي أجبرت ريم على العيش فيه. مجددًا فهذا الأمر متعمد من قبل المؤلف الذي درس جيدًا أعمال لافكرافت (H.P. Lovecraft) التي تنتمي إلى الخيال الغريب[1] (أدب يدمج عناصر من الخرافات والأساطير في مجتمعٍ حديث؛ ليس أدب الرعب بالضبط، وإن كانت له سمات مشتركة).[2] عندما ترى سيف وعمله الروتيني الممل في إحدى الشركات الكبرى، وبيته الحديث (المودرن) في الضواحي، توقن أن لا يوجد شيء غريباً وغير متوقع في هذا العالم، العالم تحكمه القوانين الواضحة، وهكذا دواليك. ولكن ومن حسن الحظ الأطفال أنهم لا يرون الأمور بنفس الطريقة، فكل شيء سحري وجديد وعجيب، أو مصدرًا للخطر بالنسبة إليهم.

الأهم هو أن تتعلم طيلة الوقت، وأن تجد شخصًا كي يشاركك وحدتك، وأحلامك، هكذا كان الأمر بين ريم وأسامة. أسامة هو أيضًا طفل وحيد، فقد أباه في سن صغيرة، ولا يتحمل حياة السوق؛ فيقضي وقتًا طويلًا وحده، يخترع ألعابًا جديدة، أو يبحث عن أصدقاء.

ستحب تردد وحياء الطفلين، كما ستضحك من كون سيف شخصاً انطوائياً مصاباً برهاب الأماكن المغلقة. عندما يقرر شراء القط الأسود يكون هذا لأنه رأى القط وحيدًا منبوذًا، مثله في عمله وحياته الشخصية. فاختيار الاسم البطل مثير للاهتمام، ألا تتفق معي؟ اسمه "سيف" لكنه بالكاد يمثل أي شيء من صورة الفارس النبيل، حتى يجبر على إنقاذ حياة أسامة في نهاية الأمر. ولكن الطفلة ريم تنقذ حياته وأكثر من مرة. والنهاية غامضة أيضًا، فيلتقي سيف مجددًا بريم وبحوزتها قط أسود جديد هذه المرة.

هل استسلمت في النهاية لطرق الساحرات الشريرات، أم أنها ساحرة طيبة تستخدم قواها لأغراض مختلفة تمامًا؟ لا يخبرنا أحمد المهدي بذلك، وهو أمر نادر في أساليب الكتابة المصرية الجادة. الكاتب العربي التقليدي يعتمد على وسائل السرد التقليدية، بل يعمد إلى كشف كل أوراقه في النهاية، ولا يترك أي نهايات مفتوحة للقارئ.

الهوة بين الأجيال

جيل أحمد المهدي أكثر انفتاحًا على الحياة الحديثة وأكثر تقبلًا لها من الأجيال التي تسبقهم، وأكثر قدرة على استيعاب التقنيات والأنواع الأدبية الغربية وتطويعها. منزل ريم هو الكوخ الكلاسيكي في الغابة مأخوذ من الأدب التراث الشعبي  الأوروبي (cabin in the woods). الغابة المتشابكة المظلمة الغامضة هي بالكاد تشبه أي شيء يمكنك رؤيته في الغابات المصرية.

ومن المفارقات أن الساحرات لا يمثلن جزءًا كبيرًا في الحكايات الشعبية العربية، في بعض الأحيان هناك الدجالات، والنساء التي تقرأ الطالع، ولكن الساحرات (witches) هن جزء أساسي ومحوري في الأدب الأوروبي. عندما سألت أحمد عن مظهر الفتاة الصغيرة ـ بشرتها بيضاء أيضًا ـ فسّر ذلك بأنه إشادة منهُ بالأدب الأوروبي الذي تربى على قراءته. وصفت الناقدة الأدبية المعروفة والأستاذة الجامعية ميلاني ماجيدو (Melanie Magidow) رواية "ريم" بأنها "ممتعة، سلسة، مثيرة. على غرار هاري بوتر ورواية المقبرة لنيل جايمان").[3]

صحيح أن نمط القصة غربي، ولكن المواد الخام التي بنيت منها هي مصرية خالصة. يمكنك بسهولة تمييز البطل المصري، الموظف الجالس على مكتبه، يعيش حياة ميسورة في الضواحي، جاهلًا بما يحدث في بقية البلد. الشخص الوحيد الذي يلوّح له بالتحية في العمل هو سائس الجراج. وبسذاجه يعتقد أنه يمكنه إعادة القط إلى محل الحيوانات الأليفة، فأنت لا تستطيع إعادة أي شيء اشتريته في مصر.

حس الفكاهة هو أيضًا مصري، فالبائع في محل الحيوانات الأليفة، فما أن يرى سيف حتى يفكر أنه واحد من هؤلاء الزبائن المملين المدللين الذين يكتفون بالمشاهدة من دون شراء شيء. في المرة التالية التي يراه فيها لا يفكر سوى في طريقة للتخلص منه. وهو أمر مألوف إذا حاولت تقليب أحد صفحات الكتب المستعملة هنا في شوارع القاهرة وإذا استفسرت عن ثمنه، قد يخبرك البائع بأن تغرب عن وجهه. فكرة أن يكون هناك زبون يسأل عن شيء محدد ـ كاتب، أو نوع أدبي، أو عنوان كتاب محدد ـ هي فكرة غريبة عنهم، ناهيك عن مساعدة الزبون في المقارنة بين الأسعار لكي يدرك أنه لم يتعرض للنصب.

ريم حلالة المشاكل

 تشعر أيضًا أن الرواية تناقش مشكلات متجذرة في المجتمع المصري بشكلٍ ساخر. فهي قصة أطفال على كل حال. فهناك الفجوة ما بين الأغنياء والفقراء، سواء في شكل سيف واختلاطه مع الطبقة العاملة، أو الزواج المشؤوم بين أم ريم وأبيها، وما تلي موتهما.

والحقيقة أن أم ريم تمردت على الساحرة هي أيضًا، مشكلة موضعاً للنقاش، فالجدة اثناء حديثها تمثل النظرة التقليدية للآباء والأمهات العرب الذين يرون أطفالهم دومًا عصاة متمردين. وتنال ريم مقداراً مماثلاً من التقريع بدورها. يحاول الكاتب أيضًا أن يلمح إلى إذابة الحاجز بين الأولاد والبنات عبر صداقة أسامة وريم. الآباء العرب والأمهات يبالغون في حماية أبنائهم، فعلي سبيل المثال لا توجد مدارس مختلطة بين الأولاد والبنات في الكثير من الأماكن.

تذكر أن النقطة الأساسية لقصص الأطفال هي "تشجيع الأطفال" لأن يصنعوا مصيرهم الخاص، وتعليم الكبار ـ لا سيما الوالدين ـ أمرًا أو أمرين. رواية ريم بالتأكيد تحقق هذا الغرض، بطريقة متقنة ممتعة ومن خلال صورة مصرية. كانت متقنة حقًا حتى أنني لم أنتبه لهذا المغزى حتى بعد قراءتي لها مرتين.

كل ما يمكن أن أقوله لأحمد المهدي: "لقد أبليت حسنًا". لقد حققت روايته نجاحًا وتتم إعادة طباعتها بينما نحن نتناقش حولها، وقد وصلت أخيرا السوق الجزائرية.[4] كما أنه يعمل على ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية كي يصل إلى جمهور عالمي.

هذه طريقة جيدة لتقديم الأدب المصري إلى مسرح الأدب العالمي. بالمناسبة هل ذكرت لكم أن ريم لا تزال ترتدي فستانها الأبيض في نهاية القصة؟!!.

 

[1] هذا ما كتب في ويكبيديا عن "الخيال الغريب" (weird fiction) https://en.wikipedia.org/wiki/Weird_fiction

 

[2] رجاء قراءة مقال أحمد المهدي عن هذا النوع الفرعي من الأدب، http://ahmedmahdi.net/2016/12/14/weird-fiction-lovecraft-and-arthur-machen

[3] رجاء الاطلاع على https://www.goodreads.com/book/show/32945525

[4] https://www.facebook.com/Official.AlMahdi/photos/p.797210460440066/797210460440066/?type=1&theater