في الذكرى السبعين لمجزرة دير ياسين

هذا الكتاب هو حصيلة بحثٍ موسّعٍ مُستندٍ إلى الأرشيفات والتاريخ الشفهي، مبني على ثلاثين شهادة شخصية.

تتميّز هذه الرواية عن غيرها من الشهادات بشموليّتها وبوضعها المذبحة في إطارها الصحيح

في الذكرى السبعين لمجزرة دير ياسين التي ارتكبتها العصابات الصهيونية يوم الجمعة في التاسع من نيسان – أبريل 1948، نعرض لكتاب الباحِث الفلسطيني وليد الخالدي المُعَنون "دير ياسين: الجمعة 9/4/1948" الصادر عن مؤسّسة الدراسات الفلسطينية في العام 1999

سأذكر بلدتي ما دمت حياً    وأذكر مرجها ثم الشعابا

وأقرئ دير ياسين سلاماً     متى شعّ الضحى نوراً وغابا

وقارعت الطغاة بيوم نحس   وقد صمدت صموداً لن يعابا

هذا الكتاب هو حصيلة بحثٍ موسّعٍ مُستندٍ إلى الأرشيفات والتاريخ الشفهي. والكتاب مبني على ثلاثين شهادة شخصية لأشخاصٍ من الذين نجوا من مذبحة دير ياسين سنة 1948 ومن المُقاتلين الذين دافعوا عن القرية. كما يتضمّن شهادات لعددٍ من أفراد العصابات الصهيونية التي ارتكبت المذبحة، الإرغون وعصابة شتيرن والبلماح. وقد جرى الربط بين مختلف هذه الشهادات لتكوين صورة مركّبة للأحداث عشيّة المذبحة، وللمذبحة نفسها ولآثارها.

وتتميّز هذه الرواية عن غيرها من الشهادات بشموليّتها وبوضعها المذبحة في إطارها الصحيح، فضلاً عن كونها أول رواية تاريخية تتوصّل إلى استنتاجٍ قاطِعٍ في شأن عدد الضحايا.

ويتضمّن الكتاب ست خرائط وستة ملاحق تُعدّد ضحايا المجزرة وتصنّفهم حسب العائلة والجنس والعُمر.

يبدأ الخالدي الفصل الأول بيوم تنفيذ المجزرة" اليوم يوم الجمعة 9 نيسان/أبريل 1948،حين انقضّت فجأة ، وبمعرفة قيادة "الهاغاه"، قوات شتيرن "ليحي" والأرغون "إيتسل" الإرهابيتان على قرية مواجهة للضواحي اليهودية الغربية للقدس،على بُعد أقل من خمسة كيلو مترات من مقرّ حكومة الانتداب البريطانية في عاصمة فلسطين. وبعد قتال عنيف دام أكثر من اثنتي عشرة ساعة، حتى تم للمُعتدين ما عقدوا النيّة عليه واحتلت القرية واستشهد من سكانها (البالغ عددهم 750 نسمة تقريباً) مئة شخص ونيّف، وهُجِّر الناجون كافة ليدخلوا في شتات لا نهاية له، وغدا إسم دير ياسين عبر الآفاق والعقود رمزاً لإفلاس بريطانيا العُظمى المعنوي في فلسطين، ولدمويّة الصهيونية وبربريتها.

في الفصل الثاني يُفصّل الخالدي الدوافِع التي أدّت إلى مجزرة دير ياسين قائلاً " بعد قرار التقسيم وفي الأشهر الأخيرة من الانتداب البريطاني في فلسطين عام 1948  وصل التنافُس إلى ذروته بين منظمة الهاغانا من جهة والمنظّمتين الإرهابيتين الأرغون ("ايتسل") والشتيرن ("ليحي") من جهة أخرى، وذلك أن الأولى كانت تمثّل التيّار "اليساري" العمالي الحاكِم بقيادة ديفيد بن غوريون في المجتمع اليهودي الفلسطيني، وكانت الأخريان تمثّلان التيار اليميني المتشدّد بتعاليم فلاديمير جابوتنسكي (1880-1940)، الذي كان أبرز قادته مناحيم بيغن، خليفة جابوتنسكي.

يقول المؤلّف الصهيوني عاموس بيرلميوتر الذي كتبَ سيرة مناحيم بيغن قائد "ايتسل" الأعلى إنه "لكي نفهم ما حصل في دير ياسين يجب أن نفهم ذهنيّة بيغن ونظرته إلى العرب في إطار الظروف السياسية والعسكرية القائمة ، وهي ذهنية ونظرة استلهمهما من مُرشده جابوتنسكي مؤسّس الحركة التصحيحية "إن الحركة التصحيحية ترفض رفضاً قاطعاً، أي ادّعاء لعرب فلسطين بأية حقوق سياسة أو اقليمية في أرض إسرائيل... وقد حرص جابوتنسكي على نزع الرومانسية عن الشرق وهو القائل "الشرق هو الغريب عني، ونحن معشر اليهود نحمد الله على أنه ليست لنا أية علاقة بالشرق… ولا بدّ من كسح الروح الإسلامية من أرض إسرائيل". ويتابع بيرلميوتر قائلاً "إن نظرة "ايتسل" و"ليحي" تتفرّع من الحركة التصحيحية لكنها أكثر "راديكالية" من نظرة جابوتنسكي ويمكن تلخيصها بأن "العرب إنما هم قتَلة ووحوش الصحراء وليسوا شعباً يتمتّع بشرعية الشعوب".

وكان أهم مجال لهذا التنافُس هو المجال العسكري أي العمليات العسكرية والإرهابية ضد الفلسطينيين التي حلّت محل مثيلتها ضد البريطانيين في الفترة السابقة لقرار التقسيم، وكان أخطر مسرح لهذا التنافُس مدينة القدس وريفها لما تمثّله القدس من أهمية رمزية وتاريخية ودينية وسياسية واستراتيجية. وكان حصاد هذا التنافُس المُرتجى مكاسب سياسية لدى الرأي العام اليهودي في فلسطين تُحدّد موقع كل من التيارين على الخريطة السياسية للدولة العبرية المُرتَقبة الولادة فور انتهاء الانتداب في 15 أيار (مايو) 1948 بعد أن حصلت على الضوء الأخضر في قرار التقسيم.

بعد اتخاذ القرار بالهجوم على دير ياسين اجتمع قادة "ايتسل " و"ليحي" العسكريون لوضع خطة الهجوم وحضر الاجتماع عشرة منهم، بمن في ذلك بن تسيون كوهين قائد الهجوم القادم ممثلاً للـ "ايتسل" (الأرغون) ومساعده يهودا لبيدوت ، وضابط عمليات "ايتسل" يهوشع غولد شميت ، وحضر عن "ليحي" (الشتيرن) بتحيا زليفنسكي قائد وحداتها" ومردخاي بن غوزيهو ضابط عملياتها.

يقول" يهودا لبيدوت مساعد كوهين في شهادة له عن الاجتماع "إن الاقتراح بتصفية سكان دير ياسين جاء خلال هذا الاجتماع من "ليحي" "وأن الغرض من ذلك كان أن نثبت للعرب ماذا يحدث عندما تشترك "ايتسل" و"ليحي" في عملية واحدة ، وأن نحدث عاصفة من الأصداء تجتاح البلد بأسره وتصبح نقطة تحوّل في القتال بيننا وبين العرب. وبكلمة كان المقصد تحطيم معنويات العرب ورفع معنويات الجالية اليهودية في القدس ولو قليلاً ، وهي التي كانت في الحضيض نتيجة الضربات الموجِعة التي كانت قد تلقّتها مؤخراً"."إن الدافع الأساسي كان اقتصادياً ذلك أننا كنا في أمسّ الحاجة إلى الغنائم لتموين قواعد المنظمتين التي كنا أسّسناها حديثاً مع بقاء الهدف الأمني العسكري".

ليل الجمعة 9 نيسان 1948

قُبيل منتصف ليل 8/9 نيسان تحرّكت قوّة "ليحي" بقيادة بتحيا زليفنسكي من حيّ الشيخ بدر (مسرح تدريبهم) إلى مستعمرة غفعت شاؤول نقطة انطلاقها ، إذ تمركزوا في موقع للهاغانا ملاصِق لمصنع البيرة. وفي الوقت نفسه وصلت قوّة "ايتسل" بقيادة بن زيون كوهين إلى مستعمرة بيت هاكيريم نقطة انطلاقها.

لم يكن ليل الجمعة 9 نيسان (أبريل) عام 1948 ليلاً ساكِناً لأهالي دير ياسين البالغ عددهم 750 نفساً. بيد أنه لم يخطر ببال أحد منهم أنها ستكون آخر ليلة سيأوون فيها إلى فراشهم بين أهلهم ووسط كرومهم في قرية آبائهم وأجدادهم ، أو أن العديد من أقرب الأقربين إليهم لن يروا غروب الشمس التالي، ولفّ البلدة جوّ جمع بين دكنة الليل والحزن على عبد القادر الحسيني الذي استشهد قبل يوم أي 8 نيسان - أبريل 1948 في معركة القسطل.

 قرابة الواحدة صباحاً من يوم الجمعة 9 نيسان (إبريل) تحرّكت شراذم مُشاة المُهاجمين من قواعدهم حتى تكون في مواقعها المُحدّدة لكلٍ منها في أطراف القرية ، وفق خطة الهجوم التي حدّدوا تنفيذها عبر أربعة محاور في الخامسة والنصف من الصباح. أولاً شرذمة ليحي بقيادة مردخاي بن عوزيهو تتقدّم من غفعت شاغؤول إلى دير ياسين من الشمال، ثانياً شرذمة مُختلطة تتقدمها مصفّحة عليها مُكبّر للصوت  بقيادة منشه ايخلر تندفع من الشرق إلى قلب القرية، ثالثاً ، شرذمة بقيادة يهودا سيغل تنطلق من مستعمرة بيت هكيرم وتهبط الوادي الفاصل بينها وبين دير ياسين وتقتحم دير ياسين، رابعاً شرذمة بقيادة يهودا لبيدوت تنطلق من بيت هكيرم أيضاً وتهاجم القرية بحركة التفافية من الجنوب الغربي كي تُسيطر على الأعالي الغربية لدير ياسين من الخلف .

في هذه الأثناء كان رجال دير ياسين وشبابها في حال تأهّب شديد يتناوبون الحراسة ويساندون بعضهم بعضاً فيها ، فإسماعيل محمّد عطية (37 سنة) العائِد لتوّه من معركة استرداد القسطل، يتوجّه إلى منزله ليتفقّد أسرته ثم ينطلق إلى أحد مراكز المراقبة أمام منازل العائلة، ليقف على مسافة من أخيه الأصغر وكلاهما يحمل بندقية. ويُنهي داود جابر دوره في الحراسة في الساعة الثانية عشرة من منتصف الليل وبدل أن يعود إلى منزله يتوجّه مع آخرين لدعم المجموعة المرابطة عند كسارة سحور، وفي الساعة الثانية عشرة أيضاً يستلم أحمد رضوان البندقية من أخيه محمود الذي يكبره سناً ليقوم بدوره في الحراسة والمراقبة، ويأخذ في الوقت نفسه حسين زيدان البندقية من إبنه داود.

تفاصيل المعركة

وتتعدّد الروايات بشأن بدء إطلاق النار . فإسماعيل محمّد عطية يروي أنه فوجِىء في الساعة الثالثة والنصف تقريباً بسماع رصاص من بندقية أخيه محمود ، فيطلب منه تفسيراً عن "هذا التصرّف الطائِش" فيردّ محمود إنه أطلق على يهودي يحاول التسلّل. ويروي داود جابر أنه سمع مع رفاقه من موقعهم عند كسارة سمور. في الساعة الرابعة عياراً نارياً فيطلب منه حسين زيدان الذي كان في الموقع نفسه أن يذهب ويُخبر القرية بعدم إطلاق النار.

ويروي السمور" في حوالى الساعة الخامسة والنصف صباحاً وبعدها بقليل يأتيه مَن يقول إن بعض نساء وأطفال آل سمور ما زالوا في منزل عبد الحميد سمور ، فيذهب معه ويُخرجهم من شبّاك خلفي ويصعد إلى منزل عارف سمور حيث يتمترس على سطحه ويُعيق مع رفاقه تقدّم اليهود على الطريق الرئيسة التي يُشرف عليها المنزل".

واصطدمت الشرذمة المُهاجِمة بمقاومة شديدة من وسط القرية. وفي الساعة الخامسة تبدأ طلائع الجرحى من المهاجمين في الوصول إلى غيفعات شاؤول ، ويكتب الضابط المناوب للهاغانا في قيادة ديفيد شلتئيل قائد الهاغانا بالقدس في دفتر العمليات اليومية: "هوجِمت دير ياسين في عملية مشتركة للايتسل وليحي، ليحي نجحت في عمليتها من جهة غيفعات شاؤول والايتسل اصطدمت بصعوبات، هناك أخبار عن مقاومة لا بأس بها وهناك قتلى وجرحى بين المُهاجمين". وفي السادسة يُصاب بن سيون كوهين (ايتسل) قائد الهجوم بجراح خطيرة ولا يستطيعون إخلاءه، ويروي بيتلسون "كنت مناوباً في هيئة الأركان للهاغانا في تلك الليلة ويسأل حرّاس الهاغانا في غيفعات شاؤول" ما العمل؟ المُهاجمون عالقون ونصدر لهم الأمر بمساعدتهم".

 ويقول المؤرّخ اليميني ملشتاين:" اشتركت رشاشات الهاغانا في الأحياء المقابلة لدير ياسين في العملية وأصيب الكثيرون من أهالي دير ياسين جرّاء هذه النيران". ويضيف :"تقدّم عدد قليل فقط من ايتسل تحت وابِل النيران لمُلاقاة رجال ليحي وسط القرية.. عندما نفَذت الذخيرة من ايتسل وليحي أعطاهم قائد غيفعات شاؤول في الهاغانا ذخيرة قليلة وأخذوا من دون موافقته مدفعاً من طراز لويس".

ويقول تعميم وزّعته استخبارات الهاغانا على كبار القادة في 18 نيسان "مع سقوط الجرحى والقتلى الأوائل في أوساط المُنشّقين (أي ايتسل وليحي) دبّت الفوضى في صفوفهم، كأن وحدة صغيرة خاضت المعركة بمفردها ونفّذ الاحتلال بوحشية، عائلات بأكملها قتلت، وتكدّست الجثث فوق بعضها البعض".

ويروي عزرا يخين (ليحي) في الساعة السابعة صباحاً :" جاء موفَد من ايتسل إلى القطاع الذي كانت فيه ليحي ، وقال إن رجال منظمته يبحثون في الانسحاب بسبب النقص في الذخيرة"، وقال مردخاي بن عوزيهو قائد ليحي الذي لم يكن قد جُرِح بعد للموفد "إذهب وأقنعهم بعدم الانسحاب فنحن في داخل القرية".

وفي وقتٍ مُبكرٍ يصل ضابط اتصال إلى معسكر بالماح ويقول إن رجال ايتسل  منهكون ويطلبون المساعدة، فتسرع مجموعة بالماح وتحضر مدافع هاون ودليلاً وتتوجّه إلى دير ياسين. ويروي رؤوفين غرينبرغ من مُهاجمي ليحي"قاتل العرب كالأسود وتميّزوا بقنصٍ مُحكم".

يروي أحمد عيد أنه توجّه برفقة علي جابر وكلاهما من دير ياسين إلى مركز البوليس الرئيسي في "قشلة" القدس حيث قابلا العقيد محمّد السعدي طالبين إليه التدخّل ، فاعتذر لكونه خارجاً عن إرادته واتصلا باللجنة القومية في المدينة لكن من دون جدوى، وكانت النجدة بالتمام من البسطي وأحمد شقبوعة من سكان عين كارم.

ويورد الخالدي شهادات النساء والأطفال الذين نجوا أو وقعوا في الأسر بعد أن اقتحمت العصابات الصهيونية دير ياسين. فيعطينا صورة أدقّ لمُعاناة العُزّل من أهالي دير ياسين التي تراوحت بين الحرق و"حفلات الإعدام" والسرقة والنهب.

ويُضيف حسين فخر الخالدي، أمين سرّ الهيئة العربية العُليا، إن "مجزرة الأبرياء" (عدد شهداء دير ياسين في حدود 245 - 250 شهيداً)، حصلت في القرية الوحيدة من قرى قضاء القدس التي لم تستنجد بأية هيئة عربية على أنها في خطرٍ من اليهود ، وأنها كانت تعيش مُحاطة بالمستعمرات اليهودية التي عقدت معها اتفاقاً حافظت عليه طوال الأشهر الأربعة السالفة. ويتابع الخالدي إنه أرسل رسائل إلى الملك عبد الله وإلى سائر رؤساء الدول العربية يشرح لهم ما جرى في دير ياسين.

ويُقرّر أن يقام في خريف 1949 احتفال رسمي لتدشين المستعمرة الجديدة في دير ياسين وأن يكون إسم المستعمرة غيفعات شاؤول "ب". ويكتب الفيلسوف اليهودي مارتين بوبر إلى رئيس الوزراء عند سماعه بالأمر يطلب "على الأقل تأجيل إسكان القرية حتى تلتئم الجراح… وينبّه إلى أنه من الأفضل أن تبقى حالياً أرض دير ياسين غير مزروعة وأن تُترَك منازلها شاغِرة من أن تدنّس بعمل تفوق أهميته الرمزية السلبية جدواه العملية بما لا يقاس". ولا يردّ بن غوريون على رسالة بوبر فيثابر بوبر في مكاتبة بن غوريون وتتكدّس رسائله في مكتب بن غوريون من دون إجابة .

ويحتشد بضع مئات من المدعوين إلى احتفال تدشين المستعمرة ويحضر بينهم وزيران من الوزارة العمالية إلى رئيس بلدية القدس اليهودي والحاخامين الرئيسيين اللذين كانا قد "استنكرا ما حصل في دير ياسين في بيان علني عبّرا فيه عن "خجلهما" وشجبهما "لوحشيّته". ويبثّ رئيس الدولة حاييم وايزمان برسالة تهنئة وتعزف الفرقة الموسيقية لمعهد الضرير المجاور وتقدّم التحية. وهكذا تختزل دير ياسين مأساة فلسطين بأسرها.

وبعد فإن عدد سكان دير ياسين اليوم يزيد عن أربعة آلاف نسمة موزّعين في الضفة الغربية من فلسطين والأردن والمملكة العربية السعودية والكويت وقطر والولايات المتحدة وفي البرازيل.