محاولة لفهم الأزمة الأميركية الإيرانية

السياسة الأميركية في المنطقة لا تحددها تقارير الاستخبارات ولا الحقائق على الأرض في إيران والمنطقة. وتبقى إمكانية ضربة عسكرية أميركية لإيران تهديداً حقيقياً

الاستخبارات الأميركية التي يبلغ عددها 16 وكالة، يؤكد أن ليس لدى إيران سلاح نووي ولا برنامج لبنائه

يقول الكاتب إنه في عام 2007 شهدت الولايات المتحدة الأميركية نهاية عنيفة ومخزية مع الحروب التي كانت تشنها في العراق وأفغانستان والمساندة التي تقدمها للاحتلال الإسرائيلي الذي يخنق الشعب الفلسطيني، والانفجارات العنيفة التي تواجهها الحكومات الحليفة لها في باكستان وكينيا من جراء الديمقراطية الزائفة والانتخابات المزورة، وسياسات الشركات الأميركية التي ضاعفت حدة الفقر في أفريقيا وأشعلت حروب الموارد، وبدأت قوى فاعلة على الساحة الأميركية تنتقد ما تراه نتيجة لتدخلات إدارة الرئيس جورج بوش الإبن المتهورة في الشؤون الكونية.

حدث انقسام بين الصفوة والبيت الأبيض ورئيسه بوش الذي ازدادت عزلته وانتزعت منه الثقة عندما أظهرت قصة تم تسريبها عن الاستخبارات المركزية الأميركية أنها قد دمرت شريط فيديو مسجلاً عليه استخدام التعذيب عند استجواب المعتقلين فيما يطلق عليه الحرب الكونية ضد الإرهاب. وكانت هناك قصة أخرى قد تسرّبت من تسجيل أن بلايين الدولارات التي أنفقتها إدارة بوش على المساعدات العسكرية لباكستان بهدف محاربة الإرهاب فشلت كلية في تحقيق الاستقرار لهذا البلد الذي تدمره الحرب. وتسرّبت رواية أخرى تعرض الآراء الكثيرة التي تدين الاحتلال والحرب الفاشلة التي تشنها الولايات المتحدة وحلفاؤها في أفغانستان التي كان من المفترض أن تعتبر حرب واشنطن المقدسة، الحرب التى لا يستطيع أحد أن يعترض عليها بسبب هجمات 11 أيلول - سبتمبر.

وعلى الرغم من تقرير للاستخبارات القومية الأميركية نشر في 3 كانون الأول/ديسمبر من عام 2007، ويعكس إجماعاً في الرأي بين الوكالات الاستخبارية الأميركية التي يبلغ عددها 16 وكالة، يؤكد أن إيران ليس لديها سلاح نووي وليس لديها برنامج لبناء سلاح نووي، وأنها أقل تصميماً على تطوير أسلحة نووية. لكن هذا التقييم لم يوقف واشنطن عن الحرب. فبعد يومين من صدور التقييم كان العنوان الرئيسي لجريدة "واشنطن بوست": "الولايات المتحدة تجدد الجهود للمحافظة على التحالف ضد إيران". وظل البيت الأبيض والرئيس الأميركي ونائبه يسيرون في اتجاه التصعيد.

عندما زار الرئيس بوش إسرائيل لأول مرة عام 2008 بعد أن تم انتخابه، كانت إيران على قمة أجندته، وكان أحد اهدافه المبدئية أن يؤكد لإسرائيل أن تقرير الاستخبارات الأميركية لم يغيّر سياسة الولايات المتحدة حيال إيران، وعلى رغم إجماع تقرير الاستخبارات الأميركية بأن إيران لم تكن تصنع أسلحة نووية، فإن كل الخيارات ما زالت على الطاولة. وطبقاً لمجلة "نيوزويك" فإن الرئيس بوش –في هذه الزيارة- أنكر كلية لرئيس الوزراء الإسرائيلي أنذاك إيهود أولمرت كلية ما جاء في تقرير الاستخبارات. وقال موظف كبير في البيت الأبيض رافق بوش في هذه الزيارة "إن بوش ذكر للإسرائيليين أنه لا يستطيع أن يتحكم بما تقوله الوكالات الاستخبارية، لكن ما توصلت اليه هذه الاستخبارات لا يعكس آراءه الخاصة".

ونقلت مجلة "نيوزويك" أن ستيفن هادلي مستشار الأمن القومي لبوش قال للمراسلين في القدس "إن بوش قال لأولمرت، وهما منفردان، ما سبق أن قاله على الملأ، وهو أنه يعتقد أن إيران ستبقى تشكل تهديداً بصرف النظر عما جاء في تقرير الاستخبارات الأميركية، بيد أن الرئيس بوش حاول أن يقول لحلفائه شيئاً أكثر من هذا، وهو أنه يظن أن تقرير الاستخبارات هو خطاب ميت".

ويعطي المؤلف فيليب بنيس أمثلة حول كيفية الفبركة الأميركية لأي حادث بسيط وتحويله إلى مؤامرات الغاية منها أن تكون ذريعة لشن هجوم محكم ضد من يقف في وجه مشروعها، وكيف تبدأ فبركات التمهيد لأي اعتداء

في كانون الثاني - يناير 2008 أصدر البنتاغون تقريراً عن حادثة وقعت في مضيق هرمز زعم "أن قوارب إيرانية سريعة قد زاحمت ثلاث بوارج أميركية حربية كانت متجهة الى الخليج الفارسي، وأذاعت رسائل تهديد بأن السفن الأميركية على وشك الانفجار وسقطت منها أشياء تشبه الصناديق الصغيرة في البحر". ووصفت وكالة رويترز "كيف اقتربت القوارب الإيرانية من السفن الأميركية بطريقة عدوانية"، واعتبر البنتاغون تصرف القوارب "بأنه تصرف متهور عدواني غير مسؤول"، أما البيت الأبيض فاعتبره "متهوراً واستفزازياً".

والحقيقة كما أشار الكاتب بنيس الى أن العديد من المتحدثين الإيرانيين أكدوا "أن الصوت الذي أطلق التهديدات لا يحمل اللهجة الفارسية، واعترفت البحرية الأميركية نفسها أنها لا تعرف حقيقة من أين أتت الأصوات التي أطلقت التهديدات".

وكنموذج حول الفبركة الأميركية لأي حادث، يلفت المؤلف الى أنه "بسرعة أصبحت الحادثة على كل لسان، وتذكر الكثيرون حادثة "خليج تونكن" التي وقعت في 4 اب/أغسطس عام 1964 أثناء حرب فيتنام. وكيف اتخذ الرئيس الأميركي أنذاك جونسون "حادثة الهجوم على سفينة بحرية أميركية" ذريعة لإرسال القوات الأميركية الى فيتنام، والتي عرف العالم بعد سنوات أنها كانت "مفبركة" وأن الهجوم المزعوم لم يحدث قط. فهل كانت حادثة القوارب الإيرانية في مضيق هرمز ذريعة لجورج بوش؟ وهل كانت لتكون له بمثابة "خليج تونكن"؟

وتوالى التصعيد البلاغي الكلامي، ففي اذار/مارس 2008 استقال الأدميرال ويليام فالون رئيس القيادة الوسطى من منصبه العسكري في أعقاب الرفض الشديد من جانب الرأي العام للتهديدات بهجوم عسكري على إيران التي أطلقتها إدارة بوش. وبعد ذلك بيومين زار نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني الشرق الأوسط بزعم أنه ذاهب لتشجيع المفاوضات الإسرائيلية – الفلسطينية، الا أنه كان يهدف الى الضغط على الحلفاء في المنطقة لقبول التصعيد الأميركي ضد إيران، وبدأت  احتمالات ضربة عسكرية في الازدياد.

في أوائل نيسان/ابريل اللاحق، قدم الجنرال بتريوس القائد الأعلى للقوات الأميركية والسفير كروكر المبعوث الأميركي الى العراق على التوالي تقارير الى الكونغرس بأن الاستراتيجية الأميركية بإرسال 30 ألف جندي أميركي إضافي الى العراق هي تطور ناجح، لكن العدو في العراق تغير، فلم يعد تنظيم "القاعدة" هو المشكلة الرئيسية بعد أن ظهرت إيران كلاعب رئيسي، وبدأ موظفو إدارة بوش في الحديث عن الحرب بالوكالة في العراق، حيث تقوم طهران بتسليح وتدريب مختلف الميلشيات الشيعية كنوع من محاربة الولايات المتحدة.

وأعقب ذلك التصعيد الإعلامي، ففي 12 نيسان - أبريل وبعد أيام قليلة من مداولات الكونغرس، صدرت صحيفة "نيويورك تايمز" تحمل عنواناً رئيسياً يشير الى مقابلة مع كروكر، يقول العنوان: "إيران تحارب بالوكالة على حد قول الدبلوماسي الأميركي".

أما صحيقة "واشنطن بوست" فقد كان عنوانها الرئيسي في نفس اليوم هو: "الولايات المتحدة تقول إن إيران تهديد رئيسي للعراق". وبدأت المقال قائلة "إن العنف الذي وقع في الأسبوع الماضي في البصرة وبغداد أقنع إدارة بوش بأن تلك الأفعال هي من جانب إيران وليس القاعدة، وهي تشكل التهديد الرئيسي داخل العراق".

يقول بنيس "ستكون هناك معركة طويلة على الرغم من تقارير وكالات الاستخبارات التي تؤكد أن إيران ليس لديها سلاح نووي ولا تقوم ببناء سلاح نووي. فمن الواضح أن لا تقارير الاستخبارات ولا الحقائق الواقعية على الأرض في إيران والمنطقة سوف تحدد السياسة الأميركية في المنطقة، وتبقى إمكانية ضربة عسكرية أميركية لإيران تهديداً حقيقياً".