قلق السعي إلى المكانة والخوف من المهانة

يوضح دو بوتون أن سعينا لأن نكون محبوبين ومقدّرين يتفوّق على سعينا لحيازة أي شيء آخر، لكن هل يستحق البحث عن المكانة أن نقدم التضحيات؟

صورتنا الذاتية تعتمد بشدة على ما يراه الآخرون فينا، ونستند إلى علامات الاحترام من الناس لكي نتقبَّل أنفسنا

تُعرف المكانة بأنها مفهوم يشير، بالمعنى الضيّق، إلى موقع المرء قانونياً ومهنياً في المجتمع، وهي كلمة مشتقّة من الأصل اللاتيني statum أو الوقوف. بالمعنى الأشمل، تشير المكانة إلى قيمة المرء في أعين الناس. أما اجتماعياً، فهي تحمل جملةً من الأحكام والمعايير الّتي تجعل كلّ فرد يقف، بالمعنى المجازي، مُحاكَماً أمام المجتمع، يلتمس منه تحديد درجته في سلّم التصنيفات، ليتبنّاها ويبني عليها موقفه حيال نفسه: هل يشعر بالرضا أو بالمهانة؟

في كتابه "قلق السّعي إلى المكانة" (دار التنوير، 2018، ترجمة محمد عبد النبي)، يفنّد الكاتب البريطاني السويسري آلان دو بوتون أسباب قلق السعي إلى المكانة، ويقترح في المقابل بعضًا من الحلول المناسبة له. يتحدث الكتاب عن أولئك الذين يتباهون بترديد أسماء معارفهم في أحاديثهم، ويبادرون إلى استعراض صورهم مع "شخصيات مرموقة"، من أصحاب السلطة أو المال أو الشهرة، عن الذين يدَّعون عدم السعي إلى المكانة، ويبالغون في دفع هذه "الشبهة" عنهم، باعتبار أن "الكشف عن أي قدر من هذا القلق قد يعتبر طيشاً اجتماعياً. وغالباً ما تبقى الأدلة عليه منحصرة في نظرة مهمومة، أو ابتسامة هشة، أو وقفة في الحديث طالت أكثر من اللازم بعد أنباء عن إنجاز حققه شخص آخر"، أو ربما يتبدى بحثهم عن المكانة في سلوكياتهم وأحاديثهم، وبشكل أكثر وضوحاً في مصطلحاتهم التي يتوخون من استخدامها اكتساب صبغة ثقافية قد ترفعهم في أعين الآخرين.

يتحدَّث دو بوتون عن الأشخاص الذين لا تخلو نفوسهم من رغبة في تحقيق تميّز اجتماعي، تستمد وقودها من ذعرهم من أن يكونوا "عاديين"، أو من أن يعتبرهم الآخرون عاديين. وكلَّما اعتبروا "هذه العادية" مخزية أو سطحية أو مهينة أو قبيحة، اشتدت رغبتهم في أن يبرزوا ويتميزوا عن غيرهم، عن أولئك الباحثين عن وفرة الموارد التي توفرها هذه المكانة، من "الحرية، الرحابة، الراحة، وربما ما لا يقل أهمية، إحساس المرء بأنه موضع اهتمام وتقدير، وهو ما يتم عبر تلقّي الدعوات للمناسبات الاجتماعية والإطراء وإبداء الاكتراث والاهتمام".

يرى الكاتب أنَّ صورتنا الذاتية تعتمد بشدة على ما يراه الآخرون فينا. وباستثناء أفراد نادرين، فإننا نستند إلى علامات الاحترام من الناس لكي نتقبَّل أنفسنا. بالطبع، قد يدفعنا السعي إلى المكانة إلى الحكم بنزاهة على مواهبنا، ويشجّعنا على التفوق. ومع هذا، فمثل "كلّ شهية أخرى، يمكن للإفراط فيه أن يكون قاتلاً أيضاً. فمن الإخفاق سوف تتدفَّق المهانة، وهي وعي حارق بعجزنا عن إقناع العالم بقيمتنا، ومن ثم يحكم علينا بالنظر إلى الناجحين بمرارة وإلى أنفسنا بخزي".

ورغم الإذعان لوجود عواقب اقتصادية للمكانة المتدنية، فالعقوبة القصوى تكمن غالباً، وربما أولاً، في التحدي الذي تفرضه هذه المكانة على إحساس المرء باحترامه لنفسه، فمن الممكن تحمّل المشقّة البدنية لفترات طويلة دونما شكوى، ما لم تصحبها المهانة.

يتقصّى دو بوتون في الجزء الأول من الكتاب أسباب السعي إلى المكانة، ويدرج "افتقاد الحبّ" ضمن أبرز العوامل المؤثرة في هذا المجال، فيشير إلى أنَّ حياة كل شخص بالغ تحكمها وتحددها قصتا حب كبيرتان. الأولى قصة سعينا وراء "الحب الجنسي، وهي مقبولة ومحتفى بها اجتماعياً"، والأخرى هي قصة سعينا وراء حب الناس لنا، وهي حكاية مخجلة وأشد سرية. وإن ذكرت، فإنها تذكر بطريقة تهكمية لاذعة، كما لو كانت أمراً لا يهم سوى الحاسدين ضعاف النفوس. عدا ذلك، فإنه يعتبر أنّ دافع تحقيق المكانة يترجم بمعنى اقتصادي فحسب.

يرى المؤلّف أن الدافع المهيمن وراء رغبتنا في الارتقاء على درجات السلم الاجتماعي، قد لا يكون مرتبطاً بما نراكمه من سلع مادية أو ما نحوزه من سلطة، بقدر ما يرتبط بمقدار الحب الذي نتطلَّع إلى أن نتلقاه نتيجة للمكانة العالية.

لماذا الحب؟ لأن معنى إبداء الحب لنا، أن نشعر بأننا محط انشغال وعناية: حضورنا ملاحظ، اسمنا مسجّل، آراؤنا ينصت إليها، عيوبنا تقابل بالتساهل، وحاجاتنا ملبّاة. بحثاً في أهمية الحبّ، يتساءل دو بوتون: كيف نتأثر بغياب الحب؟ لماذا يجب أن يقودنا التجاهل إلى حال من الحنق واليأس، مقارنة به سيكون التعذيب ذاته مصدراً للراحة؟

في رأيه، يعدّ اهتمام الآخرين مهماً لنا، لأننا بحكم طبيعتنا مبتلون بانعدام يقين نحو قيمتنا الخاصّة. لذلك، ندع تقييمات الآخر لنا تؤدي دوراً حاسماً في الطريقة التي نرى بها أنفسنا. ونظراً إلى عدم ثبات صورتنا الذاتية، يجب أن لا يكون مفاجئاً أن نشعر بالقلق إزاء الموضع الذي نشغله في هذا العالم، لأنه سوف يحدد كمّ من الحبّ نتلقى، وسيحدد أيضاً ما إذا كنا نستطيع أن نحبّ أنفسنا أم علينا أن نفقد الثقة بها.

بالتوازي، قد يكون "للغطرسة" الأثر نفسه الذي يخلّفه الافتقاد إلى الحبّ في النفس البشرية، ما لم يكن أكثر، ولا سيما إذا وجدنا أننا مضطرون على وجه العموم إلى العيش على انتباه المتغطرسين لنا، أولئك الذين لن نكون بمنأى عنهم مطلقاً، وسنجد أنَّ رفقتهم لها القدرة على إثارة غضبنا وتوترنا، بمقدار ما نشعر بضآلة ذواتنا.

لا يتحدَّث الكاتب عن "الغطرسة" باعتبارها غريبة على مجتمعاتنا. هي ظاهرة شاعت عبر التاريخ، وتمظهرت بأشكال مختلفة، بداية من الجنود (في إسبرطة 400 قبل الميلاد)، والأساقفة (في روما 1500) والشعراء (جمهورية فايمار الألمانية 1815) وحتى المزارعين (الصين 1967)، ونجوم السينما (هوليوود 2004)، ذلك أنَّ الانشغال الأساسي لهذه الفئة هو السلطة، وإذ تتغيّر طرائق توزيع السلطة تتغير معها، طبيعياً ومباشرةً، أهداف إعجابهم وتقديرهم.

تتحدّد لحظة دخولنا نطاق أحد المتغطرسين في اللحظة التي يثار فيها موضوع عملنا مثلًا. وبناء على إجابتنا يكون ردّ فعله، فإما أن تحفّز فيه اهتماماً غزيراً أو إعراضاً عاجلاً. يقول دو بوتون: "في قرارة أنفسنا، سيؤلمنا هذا الاهتمام المعتمد على شروط خارجية، لأن أول ذكرياتنا عن الحب هي أن نتلقى الرعاية ونحن في حالة من العري والاحتياج التامّين، فالأطفال الرضّع بطبيعة الحال لا يمكنهم رد الجميل لمن يرعونهم، ويرجع منحهم الحب والاعتناء بهم إلى كونهم من هم عليه وحسب. ولكننا نبلغ سن الرشد، ستعتمد عاطفة الآخرين على ما ننجز ونقدم: أن نكون مهذبين، أن ننجح في المدرسة، وفيما بعد أن نحق المنزلة والوجاهة الاجتماعية". قد تنجح مثل تلك الجهود في جذب اهتمام الآخرين، غير أنَّ التعطّش العاطفي الأصيل داخلنا، بحسب الكتاب، لا يتعلّق بأن نبهر الناس بأعمالنا، بقدر ما يرمي إلى استعادة إحساس التّدليل السخيّ والبريء الذي تلقّيناه صغاراً.

من جهةٍ ثانية، قد يكون غريباً أن ننظر إلى تطلّعاتنا بشيء من السلبية، إذا ما افترضنا أنها أحد أسباب قلقنا وسعينا المفرط إلى المكانة، ولكن مثل هذه الغرابة تتبدَّد شيئاً فشيئاً إذا ما علمنا أنَّ الطموحات التي نتوخى تحقيقها قد تنقلب علينا عندما "تتضخّم" بمقدار يصعب الوصول إليه، فنرزح تحت وطأتها. يقول دو بوتون إنَّ أبناء العصور الحديثة حظوا بثروات وإمكانات تفوق أيّ شيء تخيّله أسلافهم ممن حرثوا التربة متقلّبة المزاج لأوروبا العصور الوسطى. وعلى الرغم من ذلك، فقد أبدوا مشاعر مبالغ فيها بأن لا شيء يكفي مطلقاً، سواء من حيث هوياتهم كأشخاص، أو من حيث ممتلكاتهم.

هنا، ترجع المشكلة إلى الطريقة التي نقرر بها بدقة المقدار الذي نعتبر أنه الكفاية، ذلك أن حكمنا بشأن ما يعيّن الحد المناسب لأي شيء – للثروة أو التقدير مثلاً – لا يجيء أبداً مستقلاً بنفسه. بدلاً من ذلك، فإننا نصنع تلك المعايير عن طريق مقارنة حالنا بحال مجموعة من الناس، من الذين نعتقد أنهم يشبهوننا، فلا نعتبر أنفسنا محظوطين إلا حينما نملك مثل ما يملك، أو أكثر مما يملك، الأشخاص الذين نشأنا معهم ونعمل إلى جانبهم أو نتخذهم أصدقاء أو نتشابه معهم في المجال العام.

يعود هذا الشعور، في رأي الكاتب، إلى أننا، في ظلِّ ظروف مختلفة، كان من الممكن أن نكون شيئاً آخر غير ما نحن عليه. هو شعور يزرعه فينا التعرّض لمنجزات أعلى حقّقها من نعتبرهم مساوين لنا، ويتولَّد عنه القلق والنقمة. من هنا، قد نتسامح مع كل نجاح يحققه الآخرون إلا نجاحات أندادنا المزعومين، فهي لا تطاق، ويكون الثمن الذي ندفعه مقابل تطلعنا هو القلق المتواصل، الذي ينبع من أننا أبعد ما يكون عن تحقيق كل ما قد نستطيع، يشرح.

هذا الشّعور لا يقف على تطلّعاتنا وطموحاتنا، ولكنه يمتدّ أيضاً إلى كفاءاتنا الشخصية، التي توقعنا أيضًا في شرك القلق من المكانة، ذلك أنها قد لا تكفي وحدها في وصولنا إلى المراتب التي نسعى إلى بلوغها، وغالباً ما تكون الظروف مؤاتية بالفعل لتكفل النجاح لمن يستحقّ، والتعثّر والسقوط لمن لا يستحقّ، فالمعيار كثيراً ما يكون "من أنت؟"، لا "ماذا تفعل؟".

يعتقد دو بوتون كذلك أنّ أبرز سمات الصراع لتحقيق المكانة هي الريبة وانعدام اليقين، عندما نتأمَّل المستقبل في ضوء معرفتنا بأننا معرضون في أيّ وقت لأن يخيب مسعانا إذا أعاق تقدّمنا منافسونا أو زملاؤنا، أو إذا اكتشفنا أننا نفتقد القدرات اللازمة لبلوغ أهدافنا المنشودة، ويرى أنَّ الخلل في التوازن بين ما نتطلّبه ونتلهّف عليه وبين أحوال العالم المتقلّبة هو خامس الأعمدة التي ينهض عليها قلق المكانة في نفوسنا.

وفي هذا المجال، يعدّد خمسة عوامل يتوقَّف عليها كسبنا للرزق أو الاحترام، وهي ذاتها تقدّم لنا خمسة مبررات وجيهة لكي لا نطمئنّ أبداً إلى بلوغنا المنصب المنشود أو الاحتفاظ به داخل تراتبية المناصب، وهي:

 

1 – الاعتماد على الموهبة المتقلّبة.

2 – الاعتماد على الحظّ.

3 – الاعتماد على صاحب العمل.

4 – الاعتماد على ربحية صاحب العمل.

5 – الاعتماد على الاقتصاد العالمي.

 

في الجزء الثاني من الكتاب، يقدّم المؤلّف الحلول التي تؤسّس، في رأيه، لتبديد قلقنا من الانحدار إلى مكانة دنيا، فيجد أنَّ الفلسفة علاج فعال لتصويب نظرتنا إلى آراء الآخرين، فإذا أردنا استخلاص نصيحة من دراسات الفلاسفة، فستكون أن "نتخلى عن هوسنا الصبياني بحماية، ومراقبة مكانتنا وكأننا لسنا سوى شرطة مراقبة هذه المكانة، وأن نرضى بدلاً من ذلك بمشاعر الرضا المبنية على أرض أشد صلابة، والنابعة من إحساس بالقيمة عماده المنطق بالأساس".

يقول دوبوتون: "وفقاً لأحكام العقل، ينبغي أن نحكم بصحة نتيجة محددة في حالة واحدة فقط، هي أن تكون ناشئة عن سلسلة أفكار منطقية مبنية على افتراض مبدئي سليم.. اقترح هؤلاء أنه يمكن لمرء، بفضل العقل، أن يتثبت من مكانته اعتماداً على الفطنة والإدراك السديد، بدلاً من أن تترك هذه المكانة ألعوبة للنزوات والأهواء السائدة في ساحة السوق".

بالطبع، فإنّ ذلك لا يدعو إلى اعتبار امتداح الآخرين لنا أو ذمّهم شيئاً غير ذي قيمة دائماً وأبداً، كما يوضح، فالفلسفة لم تنكر جدوى أنواع محددة من القلق، إذا سلَّمنا بقيمة بعض مشاعر القلق وأهميتها في مساعدتنا على أن نحقق الأمان وننمّي مواهبنا، ولكنّ الفلاسفة ينصحون باستغلال ملكاتنا العقلية لتوجيه سهام العواطف نحو الأهداف المناسبة، سائلين أنفسنا: هل ما نرغب فيه هو نفسه ما نحتاج إليه حقاً؟ وهل ما نخشاه هو ما يدعو إلى الخوف حقاً؟

ثاني الحلول التي يقدّمها الكتاب هو الفن، الذي يحفل تاريخه بتحديات نظام المكانة؛ تحديات قد تتخذ شكلاً ساخراً أو غاضباً أو غنائياً أو حزيناً أو طريفاً. يشير دو بوتون إلى أنّ أغلب الروايات العظيمة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، شنَّت هجوماً على التراتبية الاجتماعية المقبولة والسائدة، أو على أقلّ تقدير، نظرت إليها بعين الشكّ، وقدّمت نوعاً من إعادة ترتيب لدرجات سلّم الأفضلية، ولكن وفقاً للاعتبار الأخلاقي، لا وفقاً للأموال والممتلكات أو خط السلالة.

بأشكاله كافة، من الروايات إلى الرسوم الكاريكاتورية إلى المسرح والدراما والكوميديا، يرى المؤلف أن الفن يمكن أن يساعدنا على تصحيح الكثير من مفاهيمنا المسبقة الملوّثة بالنفاق الاجتماعي حول مكمن الجلال والإعزاز في هذا العالم. فعندما تتيح لنا التراجيديا، مثلاً، أن نشعر بتعاطف نحو إخفاقات الآخرين أكبر مما نشعر به في الأحوال المعتادة، فإن مرجع ذلك بالدرجة الأولى إلى طبيعة هذا الشكل الفني ذاته، حيث يسعى إلى أن يتقصى أصول الإخفاق.. فأن نعرف المزيد في هذا السياق، يعني بالضرورة مزيداً من التفهّم والصّفح.

أمام ذلك كله، وإذا ما أجرينا "غوصاً عمودياً في بضع طبقات مختارة من التاريخ، فسيتبدى أمامنا طيف واسع ومتنوع من سمات الشرف والتميّز حسب اختيار مجتمعات مختلفة في عصور مختلفة"، وإذ تتبدل باستمرار العوامل المحددة للمكانة العالية، تتبدل وتتحول معها بطبيعة الحال دواعي قلق المكانة في نفوس الناس. ولذلك، وكعزاء للذين يشعرون بأكبر قدر من القلق أو المرارة بسبب الأنماط المثالية لمجتمعاتهم، يشير المؤلف إلى أن تاريخ المكانة حتى عند استعراضه بتلخيص مخلّ، يكشف عن نقطة أساسية وملهمة: الأنماط المثالية ليست منحوتة من الصخر، وليست أصناماً لا تتبدّل، فلطالما كانت قيم المكانة موضعاً للتبدل المستمرّ، ولعلّها سوف تتبدل مرة بعد أخرى في المستقبل. والكلمة التي قد نستخدمها لكي نصف عملية التغيّر هذه هي السياسة، يضيف.

في الواقع، تحاول الجماعات المختلفة دائماً وأبداً عن طريق شن معركة سياسية، أن تحوّل نظام التقدير السائد في مجتمعاتها، وأن تغنم بالكرامة والشرف أمام معارضة كل أصحاب السبق والكلمة، وفقاً للأنظمة السابقة، عبر وسائل مختلفة، مثل صندوق الانتخابات أو البندقية أو الإضراب أو حتى الكتاب في بعض الأحيان. سوف تكافح الفصائل والفرق المختلفة لإعادة صياغة مفاهيم مجتمعاتها حول من هو الأحق بمزايا المكانة العالية، يضيف شارحاً.

في مقاربة لقلق المكانة في الحياة المعاصرة من منظور سياسيّ، يوضح دو بوتون أنَّ الشخص الناجح في نيويورك مثلاً، هو من استطاع أن يحوز مالاً وسلطةً وشهرةً بفعل منجزاته في أحد قطاعات العالم التجاري، وبذلك أصبح المستوى المعيشي الباذخ علامة على الجدارة والاستحقاق، ولكن نموذج المكانة المذكور ليس إلا صناعة بشرية، مهما بدا طبيعياً. كما أنه حديث نسبياً، ويتسم في بعض الأوقات بانعدام الإنصاف وبكونه موضوعاً لتغيّر متواصل. وبناء عليه، يصبح امتلاك سلع مادية أمراً مرغوباً، لا لأنه يضفي سروراً، بل لأنه يضفي الاحترام والكرامة.

يقول دو بوتون: "لم تكن الانتقادات الموجّهة إلى المجتمع الاستهلاكي تركز فقط على ما يخص عيوب المنتجات وعدم فعاليتها، ولكنها تتوجَّه أيضاً نحو الصورة المشوّهة لاحتياجاتنا التي ترسمها طريقة تقديم تلك المنتجات لنا، ولرفعه مراكمة المال إلى أعلى درجات الإنجاز، بينما يجب أن تكون عاملاً واحداً فقط من بين عوامل كثيرة تحدد اتجاه حياتنا".

وعلى العموم، ورغم أنه فهمنا لهذا كلّه، لا يمنع بطريقة إعجازية أي منغّصات قد تنشأ نتيجة لنموذج المكانة، ولكنه يستطيع على الأقل أن يعلّمنا أشياء مفيدة حول أفضل السبل للتعامل مع تلك المشكلات، وبذلك يقلّل هذا الفهم بنسبة كبيرة إحساس الاضطهاد ومشاعر السلبية والارتباك.

وعلى نحو أكثر حسماً، يستخدم دو بوتون فكرة المرض والموت، كسبيل لمواجهة قلق المكانة والمشاعر المضطربة المصاحبة لها، ذلك أنَّ الموت يكشف لنا مقدار هشاشة الاهتمام الذي نحصل عليه بفضل المكانة، وربما أيضاً انعدام قيمته، فعندما نحظى بصحة طيبة ونكون في ذروة سلطتنا وقوتنا، لا تكون لدينا أي حاجة إلى التساؤل إن كان هؤلاء الذين يبدون لنا المجاملات تدفعهم عاطفة مخلصة حقاً أم التماس غنائم متقلّبة وسريعة الزوال.

وإذا كان من شأن تأمل موتنا أن يرشدنا وينوّرنا، يضيف، فربما نجد أيضاً بعض الراحة من قلق المكانة عند تأمّل موت أشخاص آخرين. وعلى الخصوص، أولئك الذين جعلتنا إنجازاتهم في الحياة نشعر بأقصى درجات القصور والحسد، "ومهما عانينا من النسيان والتجاهل، ولاقى آخرون من السلطة والتبجيل، فيمكننا أن نجد عزاء في فكرة أن مآلنا سوف ينتهي في آخر المطاف إلى المادة الأكثر ديمقراطية على الإطلاق: التراب".

كما أننا نستطيع أن نتجاوز الإحساس بانعدام الأهمية، ليس بجعل أنفسنا أكثر أهمية، ولكن بإدراك أن كل إنسان على وجه الأرض يفتقر إلى تلك الأهمية بدرجة أو بأخرى. ويضيف: "ربما يتبدّد قلقنا إزاء من هو أطول قامة منا ببضعة سنتيمترات، ليفسح المجال لإحساس الهيبة والجلال تجاه أشياء أضخم من أي إنسان بملايين المرات، إلى تلك القوة التي قد نسميها اللانهائي أو الأبدية، أو قد نسميها الله، على نحو أبسط وربما أنفع وأجدى".

 كانت البوهيمية هي آخر الحلول المقترحة في الكتاب. يشرح دو بوتون أنَّ البوهيميين فئة من الناس، ترتدي ثياباً بسيطة، وتعيش في الأجزاء الأرخص من المدينة، وتقرأ بشراهة، ولا تبدو مكترثة بالنقود كثيراً... وفقاً لنظم حياتهم وتفكيرهم، فإنَّ المال لا يستطيع شراء السّمو والشرف، وبالمثل لا يمكن لممتلكات الإنسان أن تكفلهما له. أما اليخوت والقصور، فعند النظر إليها بأعين البوهيميين، فإنها لا تعدو كونها رموزاً للغرور والغطرسة والطيش، والمكانة في اعتبارهم يمكن اكتسابها من خلال أسلوب ملهم في الحديث أو القدرة على نظم ديوان شعر يتسم بالذكاء وصدق العاطفة. ولذلك، فإنه يعتبر أنّ سلوكياتهم قد تشكّل حافزاً لمعالجة قلقنا، ويرى أنَّ أهمية البوهيمية تكمن في أنها أضفت شرعية على الوصول إلى طريقة بديلة للحياة، يستطيع كلّ فرد في المجتمع إيجادها.

وفي الختام، يؤكّد دو بوتون أن لا الفلسفة ولا الفن ولا السياسة ولا الدين ولا البوهيمية، قد سعى أي منها للتخلّص التام من التراتب الهرمي للمكانة. وبدلاً من ذلك، فقد حاولت جميعها أن تؤسّس أنواعاً جديدة من التراتبية، تعتمد على مجموعات قيم لا تعترف الأغلبية بها وتنتقدها، وسعت إلى تذكيرنا بأنَّ هناك أكثر من طريقة واحدة للنّجاح في الحياة؛ طرق أخرى غير طريقة القضاة والصيادلة.