رجل شارع روما

الأشياء تحدث بكل بساطة. أعتقد أن الحياة أمر عشوائي، وكذلك هو الموت.

رواية "رجل شارع روما" للكاتب محمد الحباشة

مع أن البعض وصف الرواية بأنها تتحدث عن القلق من الموت، ولكن قصة رجل شارع روما، هي نوع من القصص البوليسية والتي تنهي بمقل أشخاص عديدين، مع أن القصد من القصة كان يبدو في البداية هو الحديث عن كيفية سير حياتهم وعن الصراعات الداخلية، التي يعيشونها من خلال حياتهم اليومية، لكن القصة توصلنا في نهايتها إلى موت الشخصيتين الرئيسيتين فيها بشكل مفاجئ وعرضي، وإن كانت حياتهما قصيرة وبائسة في جانب وحافلة في جوانب أخرى.

قد لا تكون القصة عن الموت ولكن هي بالتأكيد عن عبثية الحياة. ولكن يبدو أنه حين يحين دنو الأجل قد تتعدد أسبابه ولكن النتيجة واحدة. ولكن أن يأتي قتلاً، فهو الأبشع.

"رجل شارع روما" قصة للروائي محمد حباشة صادرة عن دار نوفل في العام 2018. تأتي في 142 صفحة، غير ممتلئة. ومع ذلك، فهي قصة زاخرة بالأحداث، التي تتوالى سريعاً، مما يجعلها قصة ممتعة فعلياً مع أن فيها الكثير من حوادث الموت، ولكنها قصة تزخر بالحياة. مع العلم أنه ليس بوسع القارئ ربط العنوان بأحداثها ولا بتأثيرات الموت فيها على حياة الأشخاص، أو على بطلي القصة بالذات، إلا أن موتهما سيكون له تأثيره الإيجابي على حياة من عاشوا من بعدهما.

القصة واضحة الشكل من حيث العناصر التي تتعلق بتركيبتها في الشكل العام. فأحداث القصة تجري في تونس، ويبدأ تاريخ الأحداث فيها في العام 2014، وتنتهي فيه. وفي الحقيقة، يمكن لهذه القصة أن تحدث في أي زمان من زمننا الحديث الذي يشهد انفتاحاً في العلاقات ما بين الرجل والمرأة وعلى المعلومات والمعلوماتية والتقنيات الحديثة، مع أن تأثير النقطة الأخيرة محدود جداً هنا.

وقد قسّمت القصة إلى ستة أقسام أو فصول تفاوتت أحجامها من دون أن تتناسب فيما بينها، بحيث كان كل قسم يؤدي الوظيفة المطلوبة منه.

تبدأ القصة بلقاء الصديقين أمين ووليد الأستاذان الجامعيان اللذان يدرّسان في الجامعة نفسها. يترافق الصديقان إلى كل مكان تقريباً، إذ تربط بينهما صداقة وثيقة. أحدهما أعزب وهو أمين، والثاني، وليد، وهو متزوج من إمرأة جميلة باتت حياته معها لا تطاق. ولكن صديقه أمين، لم يتمكن يوماً من القول له أن عليه الإنفصال عن زوجته لأنها جعلت حياته جحيماً خاصة وأنها لا تحبه: فهو لا يعرف أين تتواجد، وليس هناك مواضيع مشتركة بينهما، وهي لا تريد أن تنجب منه أطفالاً وأن تؤسس معه عائلة، بل يتضح في بداية الفصل الثاني أنها تعشق حتى الموت صديقه أمين.

أما أمين فهو عازب، يخرج مع العديد من الفتيات ولكنه يعشق ابنة برفيسور صديقه في الجامعة، يدعوه بشكل دائم للسهرة في بيته. لم يتمكن أمين خلال القصة من أن يختلي وحبيبته سيرين في لحظة حميمية. إلا أن ذلك حدث يوم مقتله، وكان ذلك قبل موته بساعة إن لم يكن أقل. وأمين، هذا يخاف الموت ويخشى البقاء وحيداً في منزله، وفي محاولة للقضاء على خوفه، توجه هو وصديقه وليد لشراء تابوتين من النوع الفخم.

لم ينفعه التابوت في شيءٍ سوى أنه كان مغرياً لزوجة صديقه وليد، والتي جاءته في آخر إحدى الليالي وقد شربت حتى الثمالة وكانت قد تشاجرت مع زوجها وتركته في البيت ينتظر عودتها بلا طائل. في تلك الليلة وتحت ضغط الإغراء أو الرغبة قام بخيانة صديقه الحميم وليد وزنى مع زوجته ومن ثم ابتدأ ينمو لديه شعور كبير بالخوف والندم. إذ كان خائفاً من خسارة صديقه إذا ما علم بالأمر. في هذه اللحظة تبدأ أحداث القصة بالتشابك وتبدأ القصة بالتصاعد نحو العقدة. الحقيقة أن القصة تحتوي على مجموعة من العقد والتي لها علاقة بمختلف الشخصيات التي تمر بها.

غير أن هناك شخصيات تدخل على الهامش، والتي لها علاقة بالموت، وإن حاول الكاتب أن يضفي أثراً للموت على حياتها ولكنه في الحقيقة لم يوفق في ذلك. فالقارئ يمكنه أن يستنتج وبيسر أن مأساة موت والدي عيسى صانع التوابيت لا علاقة لها بحياته أو حتى باختيار المهنة التي يقوم بها. فعيسى رجل متعلم كانت له تجربة سيئة مع رجال المخابرات في زمن الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، والتي أدت به إلى الخوف من العيش بين الناس وتفضيل الحياة منعزلاً يصنع التوابيت. وفي الحقيقة إن تأثير الست سنوات في سجون المخابرات كانت تأثيرها الهدام على حياته أكبر بكثير من حادثة موت والديه. وتأثير حادثة موت الوالدين كان مقروناً بالحالة الإجتماعية السيئة وتسلّط الأغنياء على الفقراء، ولكن لم يكن هو بالذات ذو التأثير السيء على حياة عيسى. إذ لا يبدو من السياق أن عيسى رجل يقلقه الموت إلا من خلال إسقاط أزمة أمين مع الموت على عيسى، ففي هذه المسألة بالذات لم يكن الكاتب موفقاً.

ويتحدث الكاتب عن الشخصيات الأخرى مثل البروفيسور ويعرض لحياته الخاصة وإن بشكل مختصر من خلال فصل صغير. ولكن يمكننا أن نفهم منه الكثير عن حياة هذين الزوجين وعن حياة بنتيهما. وما يتضح من خلال تشابك الأحداث في القصة أن حبيبة البطل، أمين، كانت قد تعرضت لحادثة اغتصاب من قبل والد صديقتها عندما كانت في سن المراهقة، ولكن أحداً لم يعلم بهذه الحادثة إلا عندما قررت الإنتقام منه وطلبت من أمين المتيم بها أن يساعدها، وكانت تعلم أنها يمكنها التلاعب به إلى حد أنه سيقوم بفعل كل ما تريد، حتى القتل.

يحرص الكاتب على تقديم نجلتي البرفيسور، ليس لأن لهما دوراً هاماً في سير الأحداث في القصة ولكن دورهما الأهم هو في رسم خطوط نهايتها. فكلاهما تدرس الطب، وهذا التركيز على نوع دراسة سيرين حبيبة أمين، وعلى انطباعتها وخاصة على ما يحدث في حصة التشريح، سيكون له أثره الواضح في النهاية.

وبلعب عمل الأب والذي يسعى إلى تحسين مستواه المادي من خلال سرقة الآثار بالتعاون مع الخبراء الأجانب الذين يأتون إلى تونس من أجل ترميم بعض المواقع فيها، في إيصال القصة إلى ذروتها، حيث يتورط كل من أمين ووليد في هذه العملية خلال وجود الأب في لبنان من أجل الترويج لموسوعته التي عمل عليها لأكثر من ثلاثين سنة، وهي عن الموت عند الفينيقيين، أجداد التونسيين. يترك الأب رحلة الترويج لموسوعته في اليوم التالي ليقضي عيد ميلاده مع ابنتيه بعد حديث قاسٍ مع الأم، التي عبّرت عن استيائها بسبب إهماله لها ولإبنتيهما لأكثر من عشرين عاماً، كنتيجة لأسلوب حياته الأناني. يعود الوالدان إلى البيت ولكن وبكل بساطة تسير حياته بشكل بسيط وسلس نحو علاقة أفضل مع عائلته، يحاول أن يعمل عليها من خلال الإهتمام بالإبنتين والتعبير عن محبته لهما، حيث يؤدي الشجار المفتعل دوره نحو الحل، بالنسبة للبرفيسور وعائلته.

يعود الأب ليجد أن صديقيه وليد وأمين ليسا على السمع، ومهما حاول الإتصال بهما في البيت أو على الهاتف المحمول، فإن الجواب يأتي بأن الخط مقفل. ويقرأ في الجريدة عن اعتقال الشرطة لإيطاليين وتونسي يعمل كحارس آثار عندما كانوا ينفذون عملية سرقة، ولكن التونسيين الآخرين اللذين تواجدا في الموقع قد اختفيا ولم تستطع المباحث أن تجد لهما أثراً. لا يترك الكتاب انطباعاً كبيراً عند القارئ حول قلق الأب على صديقه أمين بأكثر من قلقه من أن يتعرض للتحقيق إذا ما قررا الكشف عن دوره في هذه العملية، وبذا يبدو جلياً ضعف علاقات الصداقة الحقيقية بين شخصيات القصة.

في البداية عند قراءة القصة، يتولد فضول من أجل معرفة دور التابوتين فيها، غير أنه يتضح في النهاية أن لا علاقة لهما بما آلت الأحداث اليه، سوى أن الرجلين يقتلان، من دون أن يكون للتابوتين علاقة بذلك، بل الأكثر من ذلك أن الرجلين يدفنا فوق بعضهما البعض من أجل إخفاء الدليل على أنهما قتلا وعن مكان قتلهما. وكان أمين يخشى أن يأكله الدود بعد موته وذلك فقد كان سعيداً بالتابوت ذو النوعية الجيدة التي ستحفظ له جسده من خطر الدود. ولكن تلعب العلاقة مع زوجة صديقه وليد، التي قررت الإنفصال عن زوجها بعد التي أقامتها مع صديقه دوراً في دفع وليد لمرافقة صديقة أمين إلى المكان الذي سيلقيان فيه حتفيهما.

لا تنتهي القصة، التي صيغة بطريقة جيدة من حيث اللغة والحوار، والوصف المسهب للأماكن بمعاقبة المجرمين. بل يبدو أن القتلة والسارق قد سارت أمور حياتهم بطريقة سلسة وجيدة، وقد أدت الجرائم الكبيرة التي قاموا بها، أو التي ساعدوا على إخفائها بلعب دور جيد في إصلاح ذات البين بينهم، وأن الحوار الذي جرى ما بين ريما ابنة البروفيسور وما بين والدها عندما تسأله عن الموت والحياة وعن الدنيا والآخرة وعن أسباب حدوث الأشياء، فيجيب الأب: "أعتقد يا ريما أن الإنسان يريد أن يصدق أن لكل شيء سبباً ولكن لا وجود لمثل هذه الأسباب. الأشياء تحدث بكل بساطة. أعتقد أن الحياة أمر عشوائي، وكذلك هو الموت". الحوار كان يهدف إلى دفع المتورطين في القتل إلى القبول بما حدث وإتمام حياتهم وكأن شيئاً لم يكن.

سمعت أحدهم يقول أن لكل قصة عبرة، وأن القصص دون هذه العبرات ليس لها معنى. ولكن في هذه القصة لم أستطع أن أجد العبرة التي يريد أن يوصلها الكاتب، إلا اذا أراد أن يقول بعد كل اللحظات الوجدانية والمعاناة النفسية التي تمر بها الشخصيات أن كل شي في هذه الحياة يحدث ببساطة وأن كل شيء فيها عشوائي، وأن يتابع الإنسان الحياة بما يأتي بها من حوادث من دون أن يسأل عن أسبابها وإن كانت من الكبائر. وهذا ما حدث تماماً في حالة البروفيسور حرامي الآثار وبناته.