كان ياما كان في القدس

في رواية «كان ياما كان في القدس»، تحكي سحر حمودة قصة والدتها، على شكل التاريخ الشفهي، التاريخ المروي عن الآخرين.

كتاب "كان ياما كان في القدس" للباحثة سحر حمودة

في هذه الرواية تكتب الكاتبة سحر حمودة، وهي مصرية من مدينة الإسكندرية، قصة والدتها التي تنتمي إلى عائلة الفتياني في القدس. تلك العائلة التي اختار منها صلاح الدين مفتي الديار، وظلّت محتفظة بهذا المنصب حتى آلت الفتوى إلى آل الحسيني. الكتاب صدر في 2010 باللغة الإنجليزية، حيث قامت الراوية بتدوين "التاريخ الشفهي" الذي تسرده والدتها، (هند الفتياني)، وهي تبدو على وعي تام بأهمية تدوين "التاريخ الشفهي" وقيمة السرد والذاكرة. فالحقيقة أنه لكي يُكتب التاريخ المقدسي الشفهي، لابد أن نعرف أن الذاكرة ترتكز على أمرين أساسيين: "الرواية الشفهية" و"الوثيقة المكتوبة"، ويعتبر "التاريخ الشفهي" أحد الروافد المهمة في التاريخ البشري.

 

التاريخ الشفهي من واقع الرواية والراوي

  نعم نحن أمام هذا النوع من التاريخ الذي يُعرف بأنه: (تسجيل وحفظ وتفسير المعلومات التاريخية لأشخاص مهمين، أو أشخاص عاصروا أحداثًا هامة اعتمادًا على خبراتهم الشخصية، أو ما سمعوه من أحداث)، أو بمعنى أشمل، إنه التاريخ المروي عن الآخرين. ورغم تأخر الاهتمام بهذا الجانب لحقب تاريخية طويلة، إلا أن التطورات العلمية والتقنية – وخاصة أجهزة التسجيل والحاسبات بأنواعها- ساهمت في إعطائه دفعًا مهمًّا وتطويره خلال العقود الأخيرة.

  على الرغم من الاهتمام المؤسساتي في مختلف بقاع الوطن الفلسطيني والشتات بخلق حالة من التفاعل بين المنهج العلمي والفهم الصحيح للرواية الشفهية الصادقة القائمة على حقائق يدلي بها من عاصروا الحدث، إلا أن ما أنجز من كتابات في التاريخ الشفهي الفلسطيني ما زال قليلاً بالنسبة إلى حجم المأساة والمعاناة التي تكبدها الفلسطينيون أثناء وبعد النكبة. وثمة تقصير في المؤسسات المعنية بالتاريخ الشفهي بتدوين وجمع الروايات الشفهية ممن عاصروا أحداث النكبة.

  كذلك هناك نوع من الافتقار إلى حكومة، أو مؤسسة رسمية تهتم وتتبنى تلك المراكز، إضافة إلى أن المراكز فقيرة من الناحية المادية والمعنوية من حيث الدعم والتأهيل. وثمة حاجة إلى وجود حاضنة لها من الحكومة والجهات الرسمية للاهتمام والارتقاء بها ودعم مشاريعها من أجل مساعدتها في استكمال مشوارها في جمع التاريخ الشفهي. وفي المقابل، فإن الاحتلال الإسرائيلي يدعم بكثافة مراكز التاريخ الشفهي لديه ويؤهل الروايات المفتراة لأن تكون روايات قانونية دولية في ظل الدعم اللا محدود مادياً ومعنوياً من قبل الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية.

 

دور الذاكرة الشفهية في الدفاع عن الأرض

   نعم الذاكرة هي صاحبة الحق التي تؤكد ملكية الأرض، والتي تعيد إنعاش الجذور لتزدهر في حاضر يكاد ينسى الأرض، ويكاد ينسى أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة والتدوين، أرض «كانت تُسمّى فلسطين، وصارت تُسمّى فلسطين»، كما يقول الراحل محمود درويش. هذه هي القصة التي تلتها أم الكاتبة سحر من آل الفتياني على مسامعها، وهي القصة التي قُصت عليها، وهي تزعم أن الجميع يعرفونها. إنها تاريخهم الشفهي الذي لم يفكر أحد منهم في التحقق منه. ولكن الآن لا أحد يقدر قيمة التاريخ الشفهي إلا إذا وُثق أو ثبت بما لا يدع مجالا للشك، ومن ثم يدخل التاريخ الرسمي.

 ومما لا ريب فيه أنه لا يزال التاريخ الشفهي للقضية الفلسطينية في الأرشيف محلاً للنقاش والجدل، ومجالًا خصبًا للدراسات والأبحاث، حيث لا يزال أغلب الموثقين أو الأرشيفيين يعتبرون أن التأريخ الشفهي عمومًا والفلسطيني خاصًا، نشاطًا لا يدخل في نطاق عملهم، ومعظم المواد الشفهية تضم إلى المكتبة (السمع- بصرية) وليس للأرشيف المتخصص. ولكن الأمر يستحق إعادة النظر، فالأرشيفي مهني قد تتطلب مهمته المشاركة في توثيق تلك المواد وهو عمل مقارب لعمل المؤرخ الشفهي.   

  سحر حمودة أدركت أن قضية التأريخ الشفهي للاجئين الفلسطينيين ما جاءت إلا لينطبق عليها محاولات المؤرخين في إيراد شروط كثيرة لتحْويل الرواية الشفهية إلى رواية مدوّنة، طالما أن أغلب التراث الشفهي يحمل في طياته تناقُضات كثيرة مع التاريخ المدوّن. وهنا لحكايات النساء سحر يجتذب الدارسين فتنتقل إليهم الحكايات من صاحباتها. فشرعت الراوية سحر حمودة في تقديم إسهامًا لعالمنا الحديث الحافل بالسرديات الكبيرة وتناولت بقلمها وظلّت تطارد أمها ليل نهار، سعيًا وراء التفاصيل والتواريخ والصور وكل ما استطاعت الحصول عليه وتسجيله ونشره وتقديمه كي تضعه طوع الأجيال المقبلة، وقالت لنفسها ومشاعر السعادة والفخر تنازعها: "هذا إسهامي، لقد عدت إلى الماضي وسحبت من أعماق أمي رغمًا عنها حكاية تستحق السرد".

  الجديد أيضاً أن هذا الكتاب لا يقدّم التاريخ الشفهي سردًا فقط، بل يعرض للقارئ أيضًا مجموعة من الصور الفوتوغرافية التي حصلت عليها الكاتبة من مصادر عدة. تتكشّف دلالات التدوين أكثر عندما ندقق في الموقع الذي يُعبّر عنه، والمقصود هنا هو المكان والإطار الزمني. فالكاتبة المصرية تُدوّن قصة أمها المقدسية التي استقرت فيما بعد في القاهرة وعملت في منظمة اليونيسكو في أوائل الخمسينات من القرن العشرين.

  والحقيقة أن الفكرة تتبلور في لحظة مغايرة تمامًا، فقد عملت سحر حمودة لفترة في جامعة بيروت العربية، فتقول في المقدمة: «تعمدت كتابة هذا الكتاب حين كنت ألقي محاضراتي في بيروت ما بين 1996 و2000، إذ كان عدد من تلاميذي فلسطينيي الأصل، إلا أنهم لم يكونوا على معرفة بالقرى التي ينتسبون في الأصل إليها أو أي شيء عن البلاد التي انتسب إليها آباؤهم وأجدادهم الذين أُجبروا على تركها، لم يكن لديهم ماضٍ فلسطيني، وإنما حاضر لبناني فقط».

وعلى عكس هؤلاء الطلاب تعيش فلسطين بتفاصيلها في وجدان الكاتبة، وهنا أدّى هذا التواصل النفسي المتشابك إلى إنجاز فكري، «ذلك أنّ الحكايات الصغيرة في حياتنا هي التي تصنع الموزاييك الأكبر للبلد والتاريخ وصروح الماضي الكبير».

 

السردية التاريخية عبر ذاكرة الأم

قد يكون في الحركة المستمرة لارتحال هذه السردية بين ثقافات مختلفة يتحوّل الصمت والنسيان إلى فعل تعبير وتذكّر، فتضع الراوية صوتها مع صوت الأم وتميّزه ببنط ثقيل، فتتواصل الأجيال برؤاها المختلفة عبر الصوت الأمومي. وما يظهر مشوشًا في تاريخ الأم تُنقّب عنه الإبنة وتنقح التفاصيل من دون أن تتعدى على مساحة الذاكرة.

ومع التوغل في السردية نسمع صوت الراوية وهي تخبرنا بتواصلها الإنساني مع كل من تبقى من عائلة الفتياني، فتقابلهم تارة في القاهرة وتارة في عمان. هنا تتداخل الأصوات، وترتحل الحكاية عبر الزمان والمكان حتى تقوم سحر حمودة بتدوينها في «كان ياما كان في القدس».

ولكي يتعمق التواصل ويستمر ترحال الكتاب بين الثقافات والذاكرة تقوم هند الفتياني -أم الكاتبة وصاحبة الحكاية- بترجمة الكتاب إلى العربية، وهكذا تتبدل الأدوار وكأن الأم هي التي تقتفي آثار إبنة أمسكت بجزء من الذاكرة وكتبت «كان ياما كان في القدس». تسير خلف نموذج سابق لكتاب (رسم القدس) جمع بين النصّ والرسومات، كأنّ الفنّان يؤكّد بالواحد منهما على الآخر. فعند الحديث عن باب العامود، مثلًا، يبيّن لنا حاله تمامًا من الداخل والخارج، وكيف تطوّر شيئًا فشيئًا. وهو لم يكتفِ لإيصال ذلك بصورة واحدة، بل أكثر من توظيف الرسومات حتّى يحصل المتلقّي على صورة متكاملة ووافية عن هذا المعلم من معالم المدينة وتاريخه، وهو ما ينسحب على معالم أخرى.

  ومن بين رسومات كتاب "كان يا مكان: القدس قبل مئة عام" جاء في الكتاب: "للقدس سحر يقع كلّ من يزورها تحت تأثيره، فيبقى وجدان زائريها مرتبطًا بإحدى زواياها أو أركانها التي تعود إلى أزمنة غابرة، ولم يبقَ من منشئيها إلّا فنّهم المعماريّ، يدلّل على أنّهم كانوا هنا؛ فالقدس لا يعمّر فيها أحد، بل يسعى الجميع إليها لتبقى سيرتهم حيّة بعد رحيلهم من خلالها".

ومن هذا المنطلق، قرّر الفنّان شهاب القواسمي (57 عامًا)، أن يكون له نصيب من ذاكرة القدس، وأن يترك بصمة فنّيّة جميلة في سجلّاتها، فأعدّ للمدينة كتابًا يصوّر جمالها الحقيقيّ الصافي، البعيد عن أيّ زيف أحدثه الاحتلال الإسرائيليّ فيها.

   وقد حاولت سحر حمودة أن تتجنب العوائق التي وقفت قبل ذلك حجر عثرة أمام جمع الروايات الشفهية للتأريخ لأحداث النكبة، منها الجهل بأهمية التوثيق وجمع الخبرات واستخدامها في تغيير موقف سياسي للفلسطينيين، بالإضافة إلى عوائق أخرى كضعف الإمكانيات المادية للمهتمين نتيجة عدم وضوح الأولويات الخاصة بهذا الشعب. مع عدم إيلاء جمع الرواية الشفهية لأحداث النكبة أهمية قصوى ووضعها في سلم الأولويات، كل ذلك كان سببًا في تضاؤل حجم الجهد المبذول مقارنة مع ما هو مطلوب.

 وقد ألقت الكاتبة هنا حجراً في ماء راكد، حين أدركت أن عملية تدوين الرواية الشفهية في صراع مع الوقت، فالسنوات الماضية التي لم يهتم الكثيرون فيها بالتدوين الشفهي، خسرت كثيرًا نظرًا لانقضاء آجال المعمرين الذين عاصروا النكبة، وبات من النادر وجود أشخاص كانوا في زمن النكبة بعمر 12 عاماً على الأقل ليرووا الآن تفاصيلها. فسبيل الإنقاذ للرواية الشفهية بات متأخراً جداً، وبناء عليه يجب ضرورة العمل والاهتمام بتدوين الرواية الشفوية للأحداث والقضايا المعاصرة التي تلحق بنا والتي يعمد الاحتلال إلى تزويرها وروايتها من وجهة نظره.

 

أهمية تدوين التاريخ الشفهي للقضة الفلسطينية

هنا تجب معرفة أهمية التاريخ الشفهي كمصدر مكمل يحدد أو يصحح الوقائع التي وثقتها المصادر التقليدية، فى ظل عدم توافر الوثائق لأسباب تتعلق بالمدة القانونية للاطلاع أو لأنها فقدت، ويستدعى ذلك أحيانًا الاعتماد على الشهادات والروايات الشفهية لاعتبارات أنها ستكون المصدر الأساسي للتوثيق التاريخي. لا وثائق يعني لا تاريخ... لقد كان ذلك هو الشعار التقليدي في تناول المواد غير الوثائقية في البحث التاريخي، ولكن العصر الحديث بكل ما استجد فيه من تكنولوجيا المعلومات منذ بداية ظهور أجهزة التسجيل الصوتي وأجهزة تصوير الفيديو وصولاً إلى البريد الالكتروني والإنترنت فرض تغيير ذلك الشعار.

   يقينًا أن التاريخ الشفهي للقضية الفلسطينية يقع على الخطوط الأمامية لديمقراطية الاطلاع على الأرشيف للأجيال المقبلة، وينبغي أن نكون على وعى بالقيمة التاريخية لمثل هذا النوع من الوثائق وبالتالي الوعي بقيمة إنتاجها وحفظها وإتاحتها، ولابد في المقابل من تجنب إنتاج وحفظ شهادات تافهة حيث الاحتياج هنا إلى أرشيفي ذي بصيرة تمكنه من تبين المصدر الشفهي ذي القيمة التاريخية الأصيلة.

   في روايتنا هذه، وزعّت حمودة حصيلة ذاكرة الأم إلى خمسة أقسام: «بيت مقدسي: دار الفتياني»، «حياة العائلة»، «مقاسمة القدس مع الإنجليز»، «النكبة»، «الحياة في الشتات»، بالإضافة إلى مقدمة تشرح فيها رحلة البحث. واللافت أيضًا الشكر الذي تصدّر الكتاب. لقد وجهت سحر حمودة الشكر لأسماء محدّدة تنتمي إلى عائلة الفتياني وفروعها، وهو ما يعني أنّ التدوين لا يُعبّر فقط عن ذاكرة الأم، بل هو وعاء لذاكرة عائلة بأجيالها المتعاقبة. الحقيقة أنّ الكتاب يُعد رصدًا للقدس الفلسطينية الخالصة وتدوينًا لذاكرتها، بعاداتها وتقاليدها وعائلاتها، وهو ما ظهر في تدوين التركيبة الاجتماعية مع الإبقاء على الإطار السياسي والمقاومة، وصولًا إلى الشتات.   

بهذه الرؤية قامت الكاتبة بتدوين سردية أمها، حيث انتزعتها من ذاكرتها، فمنحتها صوتًا ومنحت الماضي وجودًا ماديًا. فجاءت التدوينة مُحكمة مُرتبة في أفكارها، فأضفت نظامًا فنيًا على فعل التذكر، وهي نتيجة متوقعة من سحر حمودة التي تشغل منصب أستاذ في قسم اللغة الانجليزية وآدابها في جامعة الإسكندرية. فجاء عملها بحثياً ليؤطر التدوين، وساعدها أيضًا تعمقها في الثقافة اليونانية والرومانية القديمة التي تدفع القارئ دائمًا في البحث والتنقيب عن أصل الأسطورة وأشكال ارتحالها.