إعلان "موت المرأة" بعد "تذويب الإنسان"

جاء إعلان "موت المرأة" في العقود الأخيرة وتدحرجت المرأة العربية من سماء مثالية إلى حضيض الواقع العربي الذي ثقل بالخيبة والحروب والحصار والتجويع وهدر كرامة الإنسان، إذ ارتبط موت المرأة بموت كبرياء الإنسان.

لم تعد الكتابة العربية تعبّر عن الحرية الفردية أو الجماعية وإنما أصبجت جزءاً من كيان السلطة، لأن السلطة احتوت الكتّاب

يعد كتاب "تذويب الإنسان" للباحث العراقي حسن الخاقاني واحداً من سلسلة دراسات فكرية صدرت عن جامعة الكوفة في العام 2018. الكتاب هو عبارة عن قراءة فلسفية لنقد النقد ونقد الأدب العربي، من خلال القراءات الفلسفية لكتاب عالميين وفيه يعرض لقضية مهمة هي: ضمور الإنسان، كوجود وككيان متجرد في الكتابات العربية.

يعرض الكتاب في خمسة فصول مواضيع مختلفة ومتنوعة تندرج في إطار تطور الفكر الإنساني خلال مراحل مختلفة من العصور. ويلفت الكاتب في المقدمة إلى قضية مهمة هي:" لا يمكن أن يكون للحياة من حركة أو أثر بغياب الإنسان"، غير أن تذويب الإنسان قد تم من خلال الحداثة وتمثل ذلك في قسوة العلاقات المادية والإقتصادية.

استعار الخاقاني عبارة "تذويب الإنسان" من خلال بعض دراسات كلود ليفي شتراوس. ويرى أن موضوع الدراسة "الإنسان" هو ما تعرض له من ضغوطات وما جرى عليه من إزاحة لمركزه وتقويض لدوره، وأن التقويض في القضايا الكبرى في العصر الحديث والتي تتصل اتصالاً مباشراً بالإنسان الذي مزقت حياته الحروب المتواصلة المقترنة بالأطماع الاقتصادية. وكان أن أصبح الموت سمة من سمات هذا العصر، فمن مزاعم الفلاسفة والمفكرين بـ"موت الإله، إلى موت الإنسان، إلى موت المؤلف". وأهم ما يتحدث عنه الكاتب في سلسلة الموت هذه هو "موت المرأة"، ولحسن الخاقاني السبق في هذا الإعلان كنتيجة فلسفية مهمة.

يبدأ الكاتب بالحديث عن مصطلحات العلوم الإنسانية ومفاهيمها، وما جرى من تقلّبات ومن رفض بالإعتراف بها في مقابل العلوم الطبيعية أو العلوم الصرفة. وأراد الباحث من خلال الوقوف على موضع النقد الأدبي الحديث ومن خلال رفض الإعتراف بالعلوم الإنسانية أن يشرح مسيرة النقد نحو العلمية، التي استوقفتها مشكلات عديدة توسعت من نطاق النقد لتشمل قضايا أكبر مثل المسائل الثقافية أو الوجودية أو الفلسفية التي تتعلق بالأصول الفلسفية التي ينطلق منها النقد.

يبدأ الكتاب بعد ذلك بالحديث عن أركان البحث العلمي ويبدأ بتحديد المصطلحات ومجال عملها، الذي يتألف من جزءين وهما المنطوق والمفهوم، والذي يجب أن يتسم بالدقة والدلالة. ولذلك علاقة بأمرين هما: الأول، الحمولة المعرفية التي يفيض بها تراثنا العربي، والثاني معاصر، يتعلق بسعة الإنفتاح على الثقافة الغربية.

ويبدو أن مفهوم العلوم الإنسانية لم يظهر حتى بدايات القرن التاسع عشر، والذي نبّه إلى أن الإنسان يحمل صفاتاً مشتركة مع الحيوان من حيث الحس والحركة والغذاء، ولكنه يتميز عنه بالفكر والإبداع. والإنسان كائن اجتماعي أوجد الحضارة المادية والمعنوية، وكان بذلك الشغل الشاغل للفلاسفة، مما أدى إلى رفع من شأن الذات الفردية. ولكن الضربة التي تلقاها الإنسان بعد إعلان فريديريك نيتشه موت الإله وترك الإنسان وحيداً، بذا أصبح الإنسان في مكان تتقاطع فيه قوى الصراع المتناقضة وأصبح وجوده تابعاً لتلك القوى المادية ذات الفلسفة النفعية الخالصة. وبحسب الكتاب، فإن هناك الكثير من الفلسفات التي نشأت وعملت على "تذويب الإنسان".

يعود الكاتب إلى مفهوم النقد ويبدأ باستعراض الحركات النقدية التي ظهرت في أماكن مختلفة من العالم، والتي ابتدأت بالظهور عند اليونان ومن ثم في روسيا ومن ثم وصلت إلى العالم العربي، وينتقد بشدة التأخر العربي في هذا المجال. ويرى الخاقاني أن مسيرة النقد نحو العلمية هي مسيرة شاقة وطويلة. وقد أفادت في علوم كثيرة مثل علم النفس. وقد أنتج ذلك سلسلة من المناهج المستمدة من علم اللغة واللسانيات، كما أنه حرر الخطاب من  التعميم والإطلاق بعد أن حلت الدقة اللغوية والصرامة المنهجية محلها. كما أن النقد قد قدم منجزات كبيرة في مجال تحليل النص وتحليل الخطاب.

حظي مفهوم الإنسان اهتماماً خاصاً منذ أيام الفلسفة اليونانية على أنه أساس المعرفة، إلا أن هذه الأهمية تعرضت للإنتكاسة وأذيبت بسبب هيمنة الكنيسة على مختلف نواحي الحياة الإنسانية. ثم عاد هذا المفهوم ليتجدد في القرن الرابع عشر الميلادي مع ظهور حركة الإنسانيين، عماد عصر النهضة. غير أن تقويض الإنسان عاد مع النظرية الداروينية، حيث تعاضد كل من الفلسفة والعلم في توجيه الضربات الأولى للذات الإنسانية، إذ تحدثت عن الإنسان على أنه ذرة سابحة في عالم الكون الفسيح. وفي هذا الإطار يتحدث الكاتب عن دراسة كلود ليفي شتراوس عن مقوّمات العقل البشري وطرائق عمله، والتي رفضت الإعتراف بالإنسان كذات تمثّل كياناً واقعياً وينتقص من قيمة وعيه. كما ترى دراسة شتراوس أن الإنسان كاذب ومخادع وتنفي أن يكون متمتعاً ولو بقدر نسبي من الحرية في مجال المبادرة والإبداع، ولا تكترث كثيراً بمشاعرة وعواطفه وتفرغ كلامه من المعنى أو القصد، أي أنها تقتضي على الذات الإنسانية. ويذهب شتراوس إلى أبعد من ذلك، حيث يلغي النزعتين الوظيفية والتاريخية عن الإنسان ويرى أنه ليس حراً حتى في أحلامه. فيتحول الإنسان بذلك من فاعل إلى مفعول به.

في حين أن فوكو يرى أن الإنسان هو اختراع العصر الحديث وهو لم يكن موجوداً قبل ذلك. ويعتبر فوكو أن عصرنا ليس فقط هو عصر نهاية الإنسان وموته، بل هو عصر نهاية الذات بوصفها وعياً وقصداً وشعوراً ومعنى، وهو عصر سيادة الخطاب. وظهر فوكوياما كنصير قوي لفوكو والذي قال بانهيار التاريخ بعد انهيار الشيوعية، ولكنه عاد وتراجع عن فكرته. واعتقد فوكوياما بأن نهاية الإنسان هي في المعرفة، ولكنه لا يستطيع أن يعرف ما إذا كانت المعرفة ستنقذه أم ستقتله.

لم يكتفِ فوكوياما بذلك، بل ذهب من تقويض الإنسان إلى تقويض النص. غير أن رولان بارت ميّز بين العمل أو الأثر والنص، وهي أن النص متعدد القراءة ومعانيه غير محدودة وهي مضمرة في لغته. والقوة التي يملكها النص ترجع إلى إمكانية النقد في قراءته، ولذا فهو يتجاوز لغته وأنماط تفكيرها. فالنص ينتسب إلى مؤسسة أكبر منه وهي مؤسسة الكتابة، وهي مؤسسة اجتماعية، وعليه، فإن هناك فرقاً ما بين النص المقروء، والذي يتسم بوضوح غايته وضيق مجال تأويله، وما بين النص المكتوب، والذي يمكّن من خلال القراءة المتعددة من إعادة تأويله المستمر والمتغير عند كل قراءة. والأكثر من ذلك يشرح بارت كيف أن النص يدخل في شبكة علاقات تجمعه إلى أبناء جنسه من النصوص.

وأما التقويض في هذه السلسلة من الشروحات فتكون - بحسب الخاقاني - أحد مظاهر التعويض الرئيسية التي تتجلى في المجال الإقتصادي، حيث أنتج التقويض ظاهرة "الإستعمار"، وهي ظاهرة اقتصادية هدفها الوصول إلى ثروات الشعوب والهيمنة عليها. كما استخدم مبدأ التغريب، الذي يقوم على الإلغاء الكامل لمقوّمات شخصية الشعوب المستعمرة بنزعها من تاريخها وثقافتها ولغتها وإحلال لغة وثقافة المستعمر محلّها. هذا الأمر أحدث انقساماً عميقاً في بنية المجتمع، وكانت اللغة من أهم مظاهر التغريب، التي اعتمدها الغرب المستعمر إدراكاً منه لأهميتها. ومن هذا المنطلق قام المستعمر بتقسيم الكيانات السياسية الكبيرة إلى دول صغيرة تعبث بها الحاجة المحلية واليد الأجنية بطلاقة. وعليه، فإن التقويض ابتدأ من أوروبا مما استرعى الاهتمام الأميركي. والغريب أن أشهر الفاعلين هم من اليهود من أمثال ماركس وفرويد واينشتاين قديماً، ومن أمثال شتراوس وهارولد بلوم وغيرهم حديثاً. والتقويض لا يقتصر على مجال محدد بل شمل مختلف نواحي الحياة.

تحتل المرأة مكانة مهمة في الكتاب. وبحسب الخاقاني، فقد اصطنع الشعراء خلال حقبة من الزمن صورة نمطية للمرأة، والتي سميت بـ"ثقافة الحجب"، والتي يمكن تسميتها بحسبه بـ "الصورة التمثالية"، وهي ثقافة ذكورية مهيمنة فرضها التسلط الذكوري على المرأة. فهي إضافة إلى كونها مسخّرة لخدمة الذكر، فقد فرض على المرأة أمور أخرى مثل التواري والإختفاء وراء حجاب. وممن كتب في هذا الشأن الدكتور يوسف عز الدين، والذي يصف لباس المرأة المتزمت والأسود، وعدم سير الرجال مع نسائهن خشية أن يعرفن من أي بيت يأتين، وقد روى عز الدين أنه سمع يوماً أحد الشيوخ يتحدث مفاخراً بأن زوجته لم ترَ عتبة الباب في حياتها.

يناقش الكاتب موضوع المرأة والحجب والتي وضعت تحتها ويشرح مفهوم الحجب بتفصيل شديد، ويرد معطياته ونتائجه إلى دراسات في علم الإجتماع حول خصائص المجتمع العراقي. كما يرد الكاتب هذه الثقافة إلى ما بعد انكفاء الحضارة العربية الإسلامية. وللأسف، لم تحاول الثقافة العراقية الحالية تعديل هذه الثقافة وهذه الصورة النمطية عن "المرأة التمثالية" بل سعت إلى تكريسها. غير أنه خلال مرحلة عز الدين، كانت هناك دعوات إلى تحرير المرأة والتي ابتدأت مع قاسم أمين والتي ذهبت إلى حد تحرير المرأة وتحويل صورتها من الصورة الوهمية إلى صورة واقعية، حيث ظهر صراع إيديولوجي ما بين مظهرين: الأول تحرري تحت مسمّى "السفور" وآخر تقليدي تحت مسمى "الحجاب" وكان بينهما صراع إيديولوجي على أشده. هذا الصراع تجلّى في الأدبيات الشعرية والنثرية على حد سواء. وأشهر من كتب في ذلك هو جميل صدقي الزهاوي وكان من المتمردين على ثوابت المجتمع وتقاليده، ومنهم أيضاً الشاعر معروف عبد الغني المعروف بـ"الرصافي".

ويرى الخاقاني أن صورة المرأة في الشعر الحديث انتقلت من حقبة مظلمة بعد أن احتفظت بصورة نمطية واحدة حتى عصر النهضة الحديثة والتي شهدت انفتاحاً واسعاً، وأدى ذلك في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن العشرين إلى ظهور صورة جديدة للمرأة.

ثم يتناول الكاتب الدعوة إلى السفور التي أدخلت المرأة إلى مجال العمل، وكان من نتائج ذلك دخول الأفكار العقائدية اليسارية الماركسية والقومية. وقد ربط عمل المرأة بالنضال واعتبر أنه سعي نحو الحرية والعدالة المقرونين بالوعي والثقافة والإيمان بحق الحياة الكريمة.

موضوع المرأة يحتل تفصيلاً مهماً في الكتاب حيث يشرح الخاقاني وضعية المرأة بالتفصيل من المرأة العار، إلى المرأة البغي وشرح أوضاعها بكثير من التفهم والعقلانية، إلى المرأة ضد المرأة ليصل إلى نسق الخيبة، ومن ثم إعلان موت المرأة. جاء إعلان موت المرأة في العقود الأخيرة وتدحرجت المرأة العربية من سماء مثالية إلى حضيض الواقع العربي الذي ثقل بالخيبة والحروب والحصار والتجويع وهدر كرامة الإنسان، إذ ارتبط موت المرأة بموت كبرياء الإنسان.

يبدأ الكاتب بعد ذلك بالحديث عن سياسات الإستبداد وتبجيل الحاكم والتي كانت شاهدة على هبوط الثقافة العربية والتي تجلّت في خطاب التبجيل للحاكم من خلال الكتابات التي تبجل المؤلف في مقدماتها وتهدي الكتب إلى شخصيات رفيعة لا علاقة لها بعمل المؤلف وتعمل على تمجيد صانعها. ويغوص الخاقاني في هذا المجال إلى عمق بدايات الحضارة العربية الإسلامية وبداية انتشار التأليف، عبر استعراض الكتب والمجلدات المعروفة تاريخياً؛ ويعرض لتأثير توسع الدولة على الكتابات والمؤلفات والمقدمات الموضوعة للكتب. ويشرح آثار ابتعاد الكتّاب أو اقترابهم عن مراكز الحكم وتأثير ذلك على الأدب المكتوب، حيث أدى ذلك إلى ضيق دائرة النفاق مع بداية العهد العباسي، والتي عادت فضاقت في نهايته مع دخول الأعاجم من فرس وترك إلى سدة الحكم.

في مرحلة متقدمة، لم تعد الكتابة في المؤلفات العربية تعبّر عن الحرية الفردية أو الجماعية وإنما أصبجت جزءاً من كيان السلطة، لأن السلطة احتوت الكتّاب واستوعبتهم في أجهزتها الرسمية. غير أن الكاتب يعود للقول إن كتاب التبجيل كان من ميزات الثقافة العربية في مختلف عصورها.

وما تحدث عنه الكاتب في هذا المجال لا ينطبق على الثقافة العربية فقط، بل هو يتماشى مع الثقافات الأخرى، وخير دليل على ذلك هو الإعلام الغربي المملوك من قبل مراكز صناع القرار في الغرب. والنقد الذي يوليه الكاتب لتبجيل الأدب العربي للحاكم، هو أمر صحيح، ولكن الغريب أن هذا النقد موجّه دائماً لشخصيات من لون طائفي واحد مما يضع الكاتب في موضع شك بسبب انحيازه خلال النقد لجهة سياسية أو طائفية محددة دون الأخرى.

في النهاية، يرى الخاقاني أن الإنسان يولد ولديه ثروتان هما الفكر واللغة. وهاتان الثروتان هما مقوّمات الحياة المفتوحة أمام الاختيار. وهناك علاقة جدلية بينهما ومبنية على التأثير المتبادل. ويرى أنه بحسب ماركس، فإن وعي الأفراد لا يحدد وجودهم، ولكن وجودهم الإجتماعي هو الذي يحدد وعيهم. واللغة هي التي تنقل معطيات الواقع إلى الذهن البشري. واللغة لا تشير إلى تطور الفكر الإنساني فحسب، بل  إلى اهتداء الإنسان إلى طريقة عملية ينظّم من خلالها تقديم أفكاره مكتوبة من أجل توثيق ما يجول في فكره. والكتابة تنقل اللغة من الأذن إلى العين وتسمح للقارئ بالإنفراد مع النص المكتوب أيّاً كان منشأه.

خلال تطور كل من الشعر والنثر في اللغة العربية عبر العصور، وخاصة منذ عصر النهضة العربية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، سعى العديد من الكتاب إلى إحياء اللغة العربية والدفاع عنها وابتدأت الكتابات الحديثة بتقديم رؤية حديثة للحياة المدنية ونظام الحكم وتقديم أنموذجات غربية حول التطور الذي أصاب النثر العربي الحديث في عصر النهضة، وهو النتيجة المنطقية المباشرة لتطور الفكر والتفكير في هذا العصر الذي شهد  انفتاحاً على العالم الجديد والإحتكاك المباشر بالثقافات الغربية والشرقية من خلال الترجمة أو الإتصال الإنساني العلمي في مختلف نواحي الحياة ومن أهم أساليب التواصل كان من خلال الصحافة وإن كانت بطيئة في بداياتها. ولكن أن تدخل البشرية خلال هذه العصور من التطور وتطور الحريات والعلاقات والإطلاع على مختلف الثقافات لنصل اليوم إلى تذويب الإنسان والعودة به إلى العصور المظلمة ونقاط البدايات فهو أمر صادم يضعك الكاتب من خلاله أمام حقيقة بشاعة تطور العالم الحديث، ويأتي السؤال إلى أين نحن ماضون؟.