رواية "2063" .. رحلة في أدب الديستوبيا

رواية "2063" تفتح آفاقًا للبحث في الأدب الطوباوي، وتقيس كيف يفهم العرب والمسلمون هذه المفاهيم، على خلاف التقاليد الغربية الراسخة.

رواية "2063" للروائي المصري معتز حسانين

كان من حسن حظي حضور حدث توقيع كتاب لإبراهيم نصر الله، وخلال جلسة الأسئلة والأجوبة، ذكر واحد من الضيوف الرواية الكلاسيكية لجورج أورويل 1984. لم يكن هذا من قبيل المصادفة لأن الكتاب الذي تم توقيعه كان رواية نصر الله شبه الديستوبيا الخاصة "حرب الكلب الثانية". (كان ذلك في 23 تشرين الثاني - نوفمبر 2018 في مكتبة تنمية، مع تقديم الكاتب السوداني حمور زيادة). لقد فاجأنا جميعًا بردة فعله. وافق على أن القوة الساحقة للدولة واضحة في رواية أورويل، كما أشار السائل.

ومع ذلك، أصر نصر الله أننا ـ العرب لدينا خبرة أكبر في الأنظمة الاستبدادية في تاريخنا، أكثر مما يعرفه الغربيون، ولذا فنحن نعرف أن النظام ـ مهما بدا مستبدًا وقويًّا ـ سوف ينهار في النهاية. في كثير من الأحيان يسقطها مجموعة استبدادية أخرى، ولكن هذا بحد ذاته يدل على أن الدولة ليست قوية كما تعتقد، حتى مع سيطرتها على المعلومات وسبل عيش الناس. لقد شعرت بسعادة غامرة لسماع هذه الكلمات، لأن شيئًا لم يعجبني في رواية أورويل ـ التي قرأتها في المدرسة ـ هو أن كل شيء في دولة أوقيانوسيا كان غير فعال، باستثناء شرطة الفكر Thought Police. لم يبدُ هذا صحيحًا بالنسبة إلي، حتى في تلك السن المبكرة. سوف تتسرب عدم الكفاءة إلى كل شيء، بما في ذلك الشرطة السرية، على أساس البيروقراطية والفساد ومشاكل الميزانية والمحسوبية، وما إلى ذلك.

ويبدو أن الديستوبيا هي نوع من الرفاهية في العالم الغربي، مثل الرعب. الناس خائفون جدًّا في هذا الجزء من العالم، مع مخاوف حقيقية في كل زاوية، لدرجة أنهم لا يحتاجون إلى صنع أفلام عن القاتل السيكوباتي ومصاصي الدماء لتخويف أنفسهم.

أدب الديستوبيا لا بُدَّ منه لتفادي الديستوبيا؛ ولكن هناك حاجة إلى جرعة من الواقعية مع الديستوبيا على الأقل حتى لا تفقد الأمل. أذكر كل هذا بسبب مقال صغير رائع من تأليف خالد جودة أحمد: "الديستوبيا الناعمة ومجتمع رواية (2063)"، حول رواية "2063" لصديقي معتز حسانين. رواية جديدة قديمة لم تحظَ بالاهتمام الذي تستحقه، حتى الآن!

 

الراحة الأبدية هو هدف الديكتاتور الأجنبي

رواية "2063" تفتح آفاقًا للبحث في الأدب الطوباوي Utopia، وتقيس كيف يفهم العرب والمسلمون هذه المفاهيم، على خلاف التقاليد الغربية الراسخة. الرواية هي قصة قاتمة عن شاب مقيم في مصر في عام 2063، يوسف علي، في هذا العالم المستقبلي، تعيش مصر تحت احتلال عسكري أجنبي ـ حلف "تمدا" TAMDA ـ على غرار حلف شمال الأطلسي NATO، لكن الهدف من هذا الاحتلال الأجنبي هو جعل الناس سعداء!

حلف "تمدا" يوفّر للناس كل ما يحتاجون إليه، من وظائف آمنة إلى المخدرات والكحول والجنس، كل ذلك في مقابل الحرية السياسية والفكرية. الكتب ممنوعة، وهناك حظر دائم للتجول، الأحياء محاطة بالأسوار والشوارع مراقبة.

المشكلة الوحيدة هي أنه عليك أن تأخذ اختبار رضا المواطن، وإذا كنت تشعر بالرضا أقل من 95٪، تُقْتَل على الفور. يوسف، راضٍ عن الحياة، مع كل وسائل الراحة المادية والشعور بالأمان الذي يتوق إليه معظم الشباب في العالم العربي. الشيء الوحيد الذي يؤرِّقه هو ذكرى انتحار والده. يستيقظ كل يوم، ويسمع صوت إطلاق النار الذي أنهى حياة والده. كان الأب ثوريًّا تمتع ـ لفترة وجيزة ـ بالربيع العربي، ليجد فقط أن البلاد تغرق في الديون، وطبقة القيادة الجديدة تُسَلِّم البلاد إلى حلف "تمدا".

عندما يحتج الشبان للمرة الثانية، يُضرب وسط القاهرة بالأسلحة النووية، وتتولى قوات "تمدا" السيطرة على أية حال. لكن كل ذلك كان في الماضي البعيد. لقد مات الثوار الصغار ـ من الشيخوخة أو السرطان (أو الانتحار) ـ وحمل جيل يوسف الراية. وهم سعداء بعد أن شهدوا البلد يتعافى اقتصاديًا - جميع الديون تم سدادها - في حين أن نظام "تمدا" يوفر لهم كل وسائل الراحة في الحياة، في مقابل المراقبة من دون توقف والأحياء المسوّرة وتجريم الكتب.

تعليق يوسف على طريقة العيش هذه هو: "لم تختلف هذه التنازلات عمَّا كان يحدث قبل مجيئهم. المزيد من الأسوار.. لا بأس.. لا حرية.. نحن لم نعرفها.. هذه هي مشكلة الكبار ممن عرفوها.. الكتب ممنوعة.. وما الحاجة إلى الكتب؟ لا يسمح لنا بالخروج من البلاد.. نحن لا نعرف معنى الخروج أصلًا، ولا فائدته! لدينا حياة جيدة هنا وهذا يكفينا. هذا ما كان يجعلنا نختلف عن جيل أبي.. هذه هي بلادنا لكنها لم تكن بلادهم.. ربما لهذا السبب انتحر.. ربما".

قارن هذا مع البطل وينستون سميث Winston Smith في رواية 1984، سميث يشك في عقله؛ بسبب سيطرة الدولة على المعلومات ووسائل الإعلام والتاريخ، إنه يشك في أن العالم سيئ، ولكنه يخشى أن يكون مخطئًا، ويشعر بالغضب لأن العامل العادي أفضل حالًا من أي وقت مضى ولا يعرف بالضبط كيف وصل الحزب إلى السلطة واختراع الأخ الأكبر Big Brother، لقد تم شطب الماضي، على الرغم من مشاكل الحياة. نقص لا نهاية له في الغذاء وغيرها من الخدمات. بالنسبة إلى يوسف، ليس لديه مثل هذه المشاكل على الإطلاق. يتذكر الماضي جيدًا، لكنه لا يبالي فحاضره أفضل من ماضيه من الناحية المادية البحتة، أولوياته واضحة في الحياة، وهي لا تختلف كثيرًا عن مخاوف العالم الحقيقي للعرب.

وبالمناسبة لا تزال لديه كل الكتب، ويرشو مفتش البناء المحلي للنظر في الاتجاه الآخر. إنه الفساد، كما قلت، وكان يوسف سعيدًا جدًا باكتشاف أن والده كان قادرًا على الإفلات بهذا ولفترة طويلة!

هذا تصوير أكثر واقعية للشمولية، وسوف تلاحظ الفرق عندما يتعلق الأمر بالجنس والرومانسية. كل شيء مسموح به للمصريين المقيمين تحت احتلال حلف "تمدا" والناس يريدون أن يكونوا سعداء، من حيث الكم. يعتمد معتز على المعرفة المباشرة لأن كل شيء من الحشيش إلى الرقص الشرقي تم نشره في التاريخ المصري، منذ عهد الفاطميين إلى عبد الناصر. (في اليوم الذي سبق حرب 1967، أعطيت للجنود صورٌ لنجوم السينما والراقصات لرفع معنوياتهم). يبدو أن أورويل كان يحاول جاهدًا تَخَيُّل ما قد يفعله مثل هذا النظام، وكيف سيعمل ويشتت الجماهير.

فرق رئيسي آخر هو مسألة الروابط الاجتماعية، الحياة العائلية في مقابل الفردانية. يوسف علي، رغم قبوله الصادق للعالم الذي يعيش فيه، ليس سعيدًا كما يجب أن يكون. لقد تراجعت نتيجة اختباراته، وعندما يتوجه إلى مركز رضا المواطنين في مسقط رأسه في الإسكندرية، فإنه على يقين تام من أنه لن ينجو هذه المرة. (أفرغت مكتبة الإسكندرية من كتبها وتحولت إلى مركز محلي لإجهاض مثيري المشاكل المحتملين، ولا يمكن للسكان رؤية البحر المتوسط ​​بعد الآن، وذلك بفضل الجدران). السبب هو إحساسه بالوحدة. الجنس ليس كالحب، وليس نفس الشيء كأن يكون لديك شخص مميز في حياتك يحبك، ويجلب الأطفال إلى العالم، والشعور بالاكتمال.

هل ترى أيًّا من هذه المشاعر معروضة في رواية أورويل "1984" الرائعة؟ غير محتمل. الغرب مصاب بالفردية ولا يفكر بهذه الشروط. ترى الحرية كمجابهة بين الفرد والدولة، أو مجابهة بين الفرد والمجتمع. ومن ثم، حُظِرَ الجنس في رواية أورويل.

لدينا أولويات مختلفة، ومجموعة مختلفة من التجارب. ويعاني يوسف أيضًا من ذكرى والده، وكتب والده، كل ذلك التراث الذي قطع نفسه عنه. لا يمكنه أن يتفهم تفكير والده، وهذا يجعله يشعر أنه غير مناسب في هذا العالم. الاغتراب Alienation في طريقة التفكير العربية ليس عزلة عن المجتمع، كما يفكر الغربيون، بل الاندماج في المجتمع ومعاييره إلى حد أنك تنسى نفسك!

هذا أمر فظيع، كما أعلم، لكنه أيضًا أكثر منطقية. إن أقسى ما في الاغتراب ألا يدرك المرء أنه مغترب وأن تعتقد أن كل شخص آخر مريض عقليًا وليس أنت.

 

صناعة عالم أدبي عربي جديد، متفائل بحذر

ثم يتوجه يوسف إلى مركز الرضا وهو يعلم أنه قد لا يعود، ولكنه لا يمانع. وكما يقول: "ربما نتيجة الفحص الماضي هي ما جعلتني أفكر، حسنًا لدي ثلاثة شهور قبل أن يتم إعدامي، ما الذي يجب عليّ فعله؟

الهرب، حسنًا.. لقد حاول الجميع فعل ذلك يا يوسف، ولم ينجح أحد قط، وبالتأكيد لن تستطيع أن تضع قدمًا واحدة خارج حدود هذه البلاد، بالإضافة.. إلى أي مكان ستهرب؟! العالم بأكمله وضعنا في ذلك القفص ولن يسمح لنا بالخروج منه.. لقد اكتفوا منا. إذن حاول أن تستمتع بالأسابيع القليلة المتبقية فهذا أفضل شيء لك. وهذا ما فعلته بالفعل، أخذت أستنزف كل إجازاتي المتاحة، في البداية أخذت أصرف كل ما لديّ من أموال ببذخ على المتع الرديئة والمسموحة لنا من عقاقير الهلوسة والبهجة تارة، أو قضاء يوم كامل داخل إحدى قاعات السينما وحضور كل الحفلات، وقضاء وقت ما قبل حظر التجوال ببعض النوادي الليلية، والعودة إلى شقتي بصحبة إحدى المومسات لتبقى حتى ساعات الصباح الأولى وينتهي الحظر. هكذا كان روتيني اليومي في الأسابيع الأولى إلى أن قادتني أقدامي إلى تلك الكتب الغارقة في الغبار وأخذت أتصفحها في فتور إلى أن أدركت أنها نوع آخر من المخدرات.. النوع الخطير منها".

 لحسن الحظ عندما يخفق في فحصه تسمح له موظفة متعاطفة هناك بالذهاب ـ فتاة تدعى هبة إسماعيل ـ وتهرب معه. في هذه العملية يضع أفكاره السخيفة على المحك عندما يختبئ في "نادي الفردوس". هذه منظمة تجعل الناس سعداء، مقابل كل مدخراتهم في الحياة، وصادف أحد مندوبيها المتجولين يوسف قبل ذهابه إلى المكتبة. تمنحه المنظمة يوسف وهبة، مساكن رحبة، بل وتحضر له كتب والده، مقابل مقدم أتعاب. في البداية يسير كل شيء على ما يرام، ولكن مع مرور الوقت يصيب الملل كلًّا من يوسف وهبة. يُقصد بنادي الفردوس أن يكون صورة مرآة للمجتمع من زاوية رأسية، وكشف حدوده. (خمنت ذلك في قراءتي الأولى للرواية ولكني تأكدت من ذلك في محادثة مع الكاتب معتز).

لاحظ أيضًا أن العلاقة بين الثنائي الديناميكي تظل "بريئة". لا يفعلون أي شيء أبدًا أثناء وجودهم في غرفة مغلقة، إذا جاز التعبير. يبدو أن علاقتهم معلقة. إنها مصطنعة بعض الشيء لكنها توجه رسالة حول ما نعتبره نحن ـ العرب والمسلمون ـ السعادة والحريات الأساسية.

ثم تعرف السلطات بأمر نادي الفردوس، ويكون على المنظمة أن تخلي الجميع. هذا عندما يجد يوسف وهبة السعادة، بعد أن وضعا الحياة الزائفة التي كانا يعيشانها وراء ظهريهما وخرجا إلى العلن. يأخذان قطارًا على خط سكك حديد قديم مهجور في الصحراء الغربية ويثقان بمصيرهما إلى المجهول. كل ما لديهما هو الآخر وآمالهما وأحلامهما، ومجموعة كتب يوسف. يبدو هذا أكثر من كافٍ لخلق عالم جديد، إذا سألتني!

من الجيد أن تنتهي رواية "2063" بنبرة إيجابية، وهو أكثر مما أستطيع قوله عن معظم الروايات الكئيبة من طراز الدستوبيا، في الشرق والغرب. ويدل هذا على شيء ما يحدث خلف الكواليس، في قلوب وعقول وروح المؤلفين في كل مكان في العالم العربي. ليس فقط أنهم يتحدون العذاب والكآبة، بل هم أيضًا يبتكرون علامتهم المميزة الخاصة بالأدب الدستوبي.

الروايات الدستوبية نادرة في التاريخ الأدبي العربي، على الرغم من كل تجاربنا الواقعية القاتمة. عندما كُتِبَت الروايات الكئيبة في الماضي، كانت في كثير من الأحيان تقليدًا صارخًا لما يقدمه الغرب، خلط مجموعتين متناقضتين من المبادئ الثقافية معًا. فعلى سبيل المثال، رواية صبري موسى، السيد من حقل السبانخ (1987)، هي مثال على ذلك. لديك عالم من المتعة والعطلات التي لا نهاية لها والجنس والمخدرات، ولا توجد حياة عائلية، مثل الكثير مما قدَّمه معتز حسانين في "2063"، ولكن يبدو أن شكل رواية صبري موسى يأتي من خارج الحظيرة العربية تمامًا. المدينة ذات القبة البلورية التي تحمي السكان من الإشعاع والتلوث لعالم المستقبل المدمر تبدو وكأنها مُستلهمة من رواية يفغني زامياتين Yevgeny Zamyatin الكلاسيكية "نحن" (1924)، إلا أن هناك مشهدًا مُقحَمًا لإثنين من المتمردين يمجِّدان فضائل الزواج إلى الجماهير المشتتة، ويتم بطريقة فوقية جدًا وغير مقنعة. لا يوجد حوار حقيقي ومناقشة للآراء، لذا يبدو أنه غير مناسب مع البيئة المحيطة. مثل الدعاية، ولا شيء أكثر من ذلك. (يرجى الاطلاع على أطروحة ماجستير محمد الياسين لعام 2008، الخيال العلمي في الأدب العربي الحديث في ضوء الدراسة المقارنة [عربي]، جامعة البعث، حمص، سوريا).

رواية معتز حسانين هي محلية بالكامل، بينما تستوعب كل ما كان يحدث من قبل. في مقدمة كتابه يذكر المؤلف الشاب روايات أخرى )كئيبة( مثل عطارد (2013) لمحمد ربيع، وفي القصة نفسها يذكر البطل رواية "الغريب" لألبير كامو Albert Camus. من الواضح أن معتز شخص جيد القراءة ولا يخفي مصادر أبحاثه وإلهاماته. وحقيقة أن روايات مثل "عطارد" و"الطابور" (2014) بقلـم بسمة عبد العزيز بدأت تخرج منذ عام 2011، هي دليل على أن الكُتَّاب والقراء في مصر والعالم العربي بأسره "ينضجون" وبسرعة. لا ننسى المرحوم أحمد خالد توفيق ورواياته مثل إيكاروس، في ممر الفئران ويوتوبيا.

والحق يقال إنه حتى أورويل يشرح كيف يتم استخدام الجين الاصطناعي الرخيص (مثل الفودكا في روسيا) للسيطرة على المثقفين والأفلام الإباحية للتحكم في الطبقة العاملة. لا ننسى دور الجنس والمخدرات في Brave New World لهكسلي. لكن المؤلفين العرب يستخدمون هذه الأدوات بشكل أكثر ثباتًا ويسرني أن أقول هذا.

معلومة إضافية لوجه الله، عندما تحدثت إلى صديق سوداني من جيل صبري موسى، علمت أن المؤلف كان من أشد المعجبين بالاشتراكية الناصرية في أوجّها وساعد في الترويج لها. فقط لينقلب إلى الجانب الآخر عندما جاء الرئيس أنور السادات إلى منصب الرئاسة وبدأ في تحرير الاقتصاد.

 كان الخيال العلمي العربي في الماضي السحيق، إذاً، مثالاً على المقولة: خطوة واحدة إلى الأمام، خطوتان إلى الوراء!