رحلات"نايرن" من بيروت ودمشق إلى بغداد

كتاب يروي قصة نورمان وجيرالد نايرن، صاحبي شركة نايرن، التي افتتحت أول رحلات بالسيارات ما بين بيروت ودمشق وحيفا.

يروي الكتاب قصة انطلاق الباص من بيروت إلى بغداد عبر دمشق

كتاب يروي قصة نورمان وجيرالد نايرن، صاحبي شركة نايرن، التي افتتحت أول رحلات بالسيارات ما بين بيروت ودمشق وحيفا. يعتمد الكتاب القصة من وجهة نظر الأخ جيرالد الذي عاد إلى نيوزيلندا من دمشق ليعيش مع زوجته وأولادها بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية. وقد أراد جيرالد من قصة باص نايرن لتكون بمثابة تكريم لذكرى زوجته نورما، والتي كتبها جي اس توليت، ونشرتها أ. اتش. أ. دبليو ريد في العام 1968. مع أن الكتاب قد كتب منذ نصف قرن، إلا أنه من أجمل القراءات التي تروي قصة تطور الأحداث التاريخية في بلاد الشام والعراق والتطورات التي شهدتها هذه المنطقة من خلال قصة الرحلات الأولى التي نقلت الركاب ما بين دمشق وبغداد، ويكشف أسماء مهمة في تاريخنا الحديث.

جاء كل من نورمان وجيرالد إلى بلاد الشام إبان الحرب العالمية الأولى, والفرق ما بين الأخين، أن الأول لم يترك في نيوزيلندا سوى أمه وأبيه حين غادرها بينما ترك جيرالد في مدينة بيلهام في نيوزلندا الفتاة ريا فولي، التي يحبها والتي تكريماً لها كان الكتاب الذي بين أيدينا.

بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، لم يرغب الأخوان بمغادرة بلاد الشام، فقد رأوا أن هناك فرصاً كبيرة للعمل تزخر بها المنطقة ولكنهما لم يكونا يعرفان من أين سيبدآن. ولكن من المعروف أن الشقيقين وقبل انخراطهما في الجيش النيوزيلندي والتوجه للمحاربة في صفوف الحلفاء كانا قد اخترعا آلة لجز العشب، أي أنهما كانا ميكانيكيان ماهرين ويعرفان طرق التعامل مع الآلات، وهذا ما مكّن جيرالد وصديقهم وشريكهم تيد لوفيل، من تطوير ورشة لصيانة السيارات، والتي كانت جزءاً من عصب الشركة والتي مكّنتهم من الحفاظ على الصدارة في عملهم.

ابتدأ عملهم بشراء السيارات التي خلفتها قيادات الجيوش المتحاربة على أرض بلاد الشام، وكانت في حالة مهملة ومعظمها متوقف عن العمل، ابتدأ الأخوان مع تيد لوفيل، وكان يعمل ميكانيكياً في صفوف الجيش الملكي البريطاني برتبة رقيب بشراء السيارات المستعملة وتصليحها ومن ثم بيعها. ولكن مع الوقت كثرت الشركات التي باتت تعمل في تجارة السيارات، واستقدمت سيارات حديثة وابتدأت المضاربة بالعمل التي لم يتحملها الأخوان فقاموا ببيع السيارات التي لديهم واحتفظوا بإثنتين منهما فقط. وكانت أول سيارة اشتراها الأخوان هي من نوع بويك تورير: Buick Tourrer.

لم يبقَ مع الأخوين نايرن سوى سيارتين كانا يتجولان بهما طوال الوقت، خاصة بعد أن طردتهما صاحبة المنزل في بيروت، لأنهما لم يعودا قادرين على دفع إيجار الشقة. وابتدأا بالقيام بالرحلات ما بين فلسطين وبيروت، واللافت هنا أن الكتاب لم يذكر ولو مرة واحدة فلسطين بغير اسمها، وعندما تحدث عن اليهود المستعمرين لفلسطين لم يسمّهم سوى باسم الحركة الصهيونية. لقد كان الأخوان على وعي تام بالأحداث التي تحدث في العالم العربي وقد عاشوا المرحلة بجميع تفاصيلها. وما زادهم خبرة هو توطد علاقاتهم بالجنرالات والقادة البريطانيين والفرنسيين في لبنان وسوريا والعراق والأردن وفلسطين. ليس معنى ذلك أن الكتاب يتخذ طابعاً سياسياً، بل على العكس هو كتاب يروي كيف تأسست شركة نايرن وما هو الدافع وراء تأسيسها ومن هم الأشخاص الذين عملوا فيها أو امتلكوها، وكيف كانت تتم إدارة العمل. ولكن، ذلك لم يمنع أبداً من فهم الأحداث التاريخية والسياسية التي ترافقت مع الرحلات، خاصة وأن أهم زبائن نايرن كانت شركة البرق والبريد البريطانية، حيث عمل الأخوان على نقل البريد الذي كان يحتاج إلى أسبوعين ليصل من لندن إلى بغداد وبات من الممكن نقله خلال ثلاثة أيام بفضلهما.

بعد أن ابتدأ الأخوان نايرن التجوال بالسيارتين اللتين بقيتا في حوزتهما، خلال إحدى الرحلات صعد معهما بعض المسافرين الذين طلبوا منهما أن ينقلاهم معهما من بيروت إلى حيفا وإلى طرابلس، أو من بيروت إلى دمشق. وكانت وعورة الطرقات تجعل من السفر أمراً صعباً جداً في بعض المناطق، فالبلاد كانت تجتازها عربات السفر التي تجرّها الدواب ولم تكن مؤهلة بعد لسير السيارات الصغيرة التي تنقل الركاب. وكان الطريق من بيروت إلى حيفا يمر عبر صيدا إلى رأس الناقورة ومن ثم يعبرون قرية الزيب وصولاً إلى شاطئ حيفا الرملي. 

أحد باصات شركة "نايرن" على خط بيروت - دمشق - بغداد

وفي العام 1923 أطلقت حملة بالمر- مالكوم من أجل اجتياز الصحراء من أجل الوصل إلى بغداد انطلاقاً من دمشق. نظم الحملة نورمان نايرن، وكانت عبارة عن قافلة مؤلفة من ثلاث سيارات. شارك فيها فرانسيس كتانة وهو فلسطيني متزوج من ابنة ضابط بريطاني وكان يدير فرع شركة طوماس كوك في بيروت.

بعد أن انطلقت القوافل من أجل تفحص الطريق من دمشق إلى بغداد عبر الصحراء، كان هناك اتصال مع أحد الأشخاص الذين لعبوا دوراً مهماً في تأمين الحماية للقوافل التي نقلت المسافرين عبر الصحراء وهو الشيخ محمد البسام من قبيلة الروالة. كان الشيخ البسام يتاجر بالذهب ما بين بيروت ودمشق من جهة وبغداد من جهة أخرى. وهو يعرف الطريق بالتفصيل. كان ينقل الذهب على ظهر الجمال عبر الصحراء حتى يصل إلى دير الزور، ثم يقوم بتحميل البضاعة عبر نهر الفرات لينقلها إلى بغداد. عرض الأخوان نايرن المشروع على الشيخ البسام والذي رحب بالفكرة فهو كان يرغب باستخدام وسائل أسرع لنقل تجارته عبر الصحراء. وأبدى استعداده لتأمين الحماية والأدلاء للقوافل من أفراد قبيلته، ولكن كان على الأخوين تأمين المال اللازم لدفع الأجرة لهم، وهذا ما كان يسمى بنظام "الرفيق". لم يقبل المندوب السامي البريطاني أنذاك السير برسي كوكس، تأمين الحماية للقوافل عن طريق دفع الأموال للبدو في العراق، وبذا فوّت البريطانيون فرصتهم بدخول التاريخ، كمساهمين في فتح الطريق البري ما بين الشام والعراق. ولكن في بغداد التقى كل من جيرالد ونورمان مع السيد دي دبليو جرمبلي، الذي كان المفتش العام للبرق والبريد في بغداد وكان سابقاً وزير الطيران المدني في بريطانيا، والذي كان مهتماً بالفكرة، ووعد بمنح الأخوين عقداً حصرياً بنقل البريد عبر الصحراء وبالتالي تأمين الحماية. كما تواصل الأخوان مع المفوض السامي الفرنسي في سوريا الجنرال وايفند، الذي أبلغهما عن اهتمام السلطات الفرنسية بالمشروع وأبدى استعداد بلاده لدفع أجرة الرفيق بالذهب لحماية القوافل وتم فعلياً إرسال الدفعة الأولى من الأموال.

بعد أن فتح طريق البادية بعد قمع الثورة السورية الكبرى عملت شركات عدة في نقل المسافرين عبر الصحراء. ولكن شركة النايرن اهتمت بنقل الشخصيات الأوروبية الكبرى عبر الصحراء وأمنت لهم الخدمات من الدرجة الأولى، ومن خلال نقل البريد تأمن إستمرارية عمل الشركة خلال سنوات الكساد الإقتصادي الذي مرّ به العالم بعد الحرب العالمية الثانية. اذ أنه وبعد الحرب العالمية الثانية طُلِب من الأخوين العمل على فتح طريق بري من طهران إلى كل من بيروت ودمشق وبغداد، واستكشاف الطريق الأفضل لنقل البريد والركاب. لا تخلو هذه المرحلة من رواية القصص الطريفة والمهمة حول التأسيس لهذه المرحلة المهمة من عمل شركة النايرن، وخاصة ما يتعلق منها بأهمية اكتشاف البترول في كل من العراق وإيران وبدء العمل على إنتاجه.

في واقع الأمر أن ما دفع البريطانيين التحري حول إمكانية فتح الطريق البرية بعد الحرب العالمية الثانية وتسهيل السفر عبرها هو بروز أهميتها من أجل نقل الخبراء والمهندسين والإداريين العاملين في شركة انغلو- ايران للبترول وغايتهم تسهيل وصولهم من بغداد وطهران إلى بيروت وبالعكس، حيث كانوا يصلون ميناءها عبر بواخر نقل المسافرين. كما أن النقل بالبر كان أرخص بكثير وأسرع بكثير من نقل المسافرين بالطائرات التي لم تكن تحمل أنذاك المسافرين ليلاً عبر الصحراء كما كانت تكلف كثيراً. وفي الحقيقة أن جيرالد يتحدث عن التغيير الدراماتيكي الذي حمله اكتشاف البترول للمنطقة، والصراع ما بين البريطانيين والفرنسيين على كيفية نقله واستثماره.

كما أن الكتاب يروي تطور مراحل النقل، وتطوير أنواع جديدة من الإطارات التي يمكنها أن تسير في الصحراء مستخدمين خبرة شركة فايرستون الأميركية، ومن ثم إدخال المكيف واستخدامه في سيارات وباصات النايرن من أجل تأمين الرحلات المريحة للمسافرين. وممن كان يسافر معهم أيضاً الحجاج الذين كانوا يستقلون حافلات النايرن في مقابل قطع ثمينة من السجاد العجمي أو بعض القطع الحرفية المهمة، فتنقلهم باصات النايرن إلى دمشق أو حيفا ومن هناك ينطلقون باتجاه مكة المكرمة. 

الثورات العربية

رحلات باصات "نايرن" عبر الصحراء إلى العراق ومكة المكرمة

يعرّف الكتاب بأسماء لم نكن نسمع بها من قبل مثل الشيخ محمد البسام، وهو من أبناء بادية الشام الذي كان له فضل كبير في تسيير الرحلات الأولية من دمشق إلى بغداد والذي لولاه لم يكن من الممكن أن تسير قوافل الرحلات في العشرينات من القرن الماضي، بل كانت انتظرت وقتاً أطول من ذلك. وهذا الأمر جلّي من خلال الحديث عن مخاطر السفر عبر الصحراء والتي تحتاج ليس فقط للتزود بالماء والطعام، اذ لم يكن في المرحلة الأولى تجاوز الصحراء ممكناً بأقل من ثلاثة أيام. لقد احتاج الأمر تأمين الطريق من قطاع الطرق وتأمين الدليل عبر الصحراء وإلا لكانت تاهت الرحلات الأولى وما تبعها من رحلات أخرى.

كما تبرز أهمية الأسماء، التي ترد في الكتاب، ومنها أسماء الجنرالات ورجال السلطة البريطانية والفرنسية المحتلة والدور الذي لعبته خلال فترة الإنتداب على بلاد الشام والعراق ومنها اسم السير بيرسي كوكس الذي كان من أهم الشخصيات التي لعبت دوراً في تقسيم المنطقة العربية والشرق وهو الذي وقع اتفاقية استقلال فارس المشروط مع الإنتداب البريطاني، وكانت له علاقات مهمة مع الملك السعودي عبد العزيز آل سعود، وهو الذي قمع دور الملك فيصل في المنطقة العربية، وهو مولودٌ من أبوين يهوديين. وكوكس من الأسماء المجهولة بالنسبة للعرب والبريطانيين على حد سواء، مع العلم أنه من أهم اللاعبين في الساحة العربية. ومن ثم هناك الأسماء العربية التي ساهمت ولو من وراء الكواليس في التغيير الذي جاء فيه تفعيل شركة النقل ما بين العراق والشام. كما أن الكتاب يتحدث عن الثورات التي قامت في سوريا وبخاصة الثورة السورية الأولى، ومع أنه يخبر كيف أن الثورة امتدت ليتسع مداها إلى جميع أراضي سوريا الحالية، إلا أنه يصر على تسميتها بثورة الدروز. ومن ثم يتحدث عن الصعوبات التي كانت هذه الثورات تتسبب بها من قطع للطرقات واضطرار شركة نايرن للنقل لإتخاذ طرق بديلة بعد أن هاجمها بعض قطاع الطرق. ولكن الطريق الجديدة التي سلكت جعلت الرحلة أطول وأصعب: إذ كان على القوافل السير من بيروت إلى حيفا ثم إلى جنين فنابلس والقدس لتتجه بعد ذلك وعبر وادي الأردن لتقطع جسر اللنبي فتصل إلى السلط ومن ثم إلى عمان حيث يقضون الليلة قبل التوجه إلى الرطبة وصولاً إلى بغداد. وفي هذا الإطار لا تغيب ثورات العام 1936 والتي طالبت بالإستقلال في كل من العراق وسوريا وفلسطين عن سلطة الإنتداب، وثورة علي رشيد الغيلاني، وحصاره للسفارة البريطانية في بغداد، وحكم فيشي في سوريا ولبنان، وسيطرة الروس على أفغانستان والطريق المؤدي من إيران إليها، وغير ذلك من التفاصيل الممتعة.

وأحد أهم التفاصيل التي ترد في الكتاب الذي كتب في العام 1968 ورويت قصته بعد أن توفيت نورما في بداية الستينات أنه كان يتحدث عن المنطقة بكل صدق وولاء، ويخبر عن مواقف الناس تجاه تقسيم بلاد الشام، اذ يقول جيرالد: لم تكن الحدود ما بين العراق وسوريا معروفة إلا لحفنة من السياسيين والعسكريين، والأكثر من ذلك أنه لم يستخدم سوى اسم سوريا ليحدد المدن التي تقع ضمن حدود بلاد الشام. وعندما يروي الأحداث التي تأثرت بها شركة النقل بسببها، فإنه يذكر أن من أسباب الثورة السورية الكبرى كانت المحاولة الفرنسية من أجل تقسيم سوريا إلى أربع دويلات وهي حلب ودمشق واللاذقية وجبل الدروز، كما يتحدث عن تقسيم لبنان وسوريا.

تخبر قصة باصات نايرن وبكل سلاسة عن أسباب تسمية بعض المناطق التي تمر بها مراراً وتكراراً، من دون التساءل مثلاً عن أسباب تسمية جسر فيكتوريا في دمشق بهذه التسمية، ومن خلال قصة باصات النايرن يمكننا أن نفهم أن التسمية جاءت بسبب قربه من فندق فيكتوريا الذي أعد لإستقبال الملكة فيكتوريا في دمشق، لكنها توفيت في العام 1901 قبل أن تتمكن من زيارة دمشق. سمّي الفندق فيما بعد باسم هارون الرشيد، والذي هدم في أواخر الخمسينات. ولكن الجسر احتفظ باسمه، وقد كان الفندق من أهم المحطات التي كانت تتوقف عندها حافلات النايرن للإستراحة. كما ساهمت الشركة ببناء أول فندق في تدمر من أجل الإستراحة بعد أن تم اعتماد تدمر كمحطة للإستراحة، واختيرت تدمر كمنطقة لجذب السياح منذ بدايات القرن الماضي وكان البعض يقضي أياماً طويلة من أجل الإسترخاء والتمتع بالهدوء الذي حملته الصحراء إلى زوارها.

لا يمكننا اختصار الكتاب ببضع كلمات، إذ أن قراءته تعد في الحقيقة تجرية مثيرة بحد ذاتها. إن هذا النوع من السير الذاتية تحمل دائماً في طياتها رواية للتاريخ لا تقل أهميتها عن أهمية الدراسات التاريخية، ولكنها أكثر موضوعية منها ومن المذكرات التي يرويها السياسيون. وهي تحمل في طياتها معلومات قيمة ومهمة ومنها يمكن قراءة تأثير الحياة السياسية والإقتصادية في حياة الناس والشعوب، وهذا ما لا يمكن قراءته في الكتب التاريخية، فالتاريخ ليس فقط صراع الضعفاء مع الأقوياء، ولا يقتصر على الصراع على الأرض والسلطة والمال، وهذا جزء مهم، ولكن التاريخ أيضاً هو قصة نضال الناس من أجل إيجاد طريق للحياة والإستمرارية على هامش هذه الصراعات المحمومة. وقصة النقل ما بين دمشق وبغداد هي قصة شابين جاءا بحسب نظرتهما لتحري بلاد الشام والعراق من العثمانيين، ثم قاما بأهم عمل احتاجته المنطقة، وهو التأسيس للنقل البري، الذي لولاهما لكان استغرق أكثر من عشرين عاماً قبل البدء به. توقفت شركة النايرن والتي كانت تدار من دمشق عن العمل في العام 1958، بسبب تأميم الشركات الأجنبية. يقول جيرالد إنه كان من الأفضل القبول بالعرض العراقي بشراء الشركة ودفع التعويضات لموظفيها بدلاً من التمسك بوظائف موظفيها، الذين اضطروا للمغادرة من دون دفع أية تعويضات لهم.