كيف طوّر حزب الله و"إسرائيل" قدراتهما العسكرية في حربهما الطويلة

يعرض الكتاب للتطور العسكري والتنظيمي والتسليحي لكل من "إسرائيل" وحزب الله وتحديث القدرات لدى كل منهما.

تعددت الكتب التي تناولت حزب الله والصراع مع الاحتلال الإسرائيلي من مختلف الجوانب الإنسانية والسياسية والثقافية والعسكرية، وحتى العمرانية. ولكن بين أيدينا كتاب يزعم أنه الأول، الذي يتناول موضوع تطور سياسة الردع التي انتهجها الطرفان منذ نشأة حزب الله بعد الإجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982، وحتى اليوم تقريباً. ويركز الكتاب على الأمر من المنظور الذي آلت إليه لجنة فينوغراد العسكرية والتي حاولت قراءة أداء جيش الاحتلال الإسرائيلي لناحية الإيجابيات والسلبيات اللتان شهدتهما المؤسسة العسكرية في "إسرائيل" خلال حرب تموز - يوليو 2006. ويعتبر التقرير بأنه النقطة التي أثارت اهتمام المؤلف، رافاييل د. ماركوس، في البحث والكتابة.

يحاول الكاتب ذو الأصول الإسرائيلية أن يقدم دراسته في قسمين رئيسيين من الكتاب، الأول يتناول تطور سياسة الردع لدى الطرفين، مؤكداً على الدور السوري في دعم حزب الله، وأسباب تقويض قدرة "إسرائيل" على ردع سوريا، ويعتبر أن جنوب لبنان تحول إلى موقع للعمليات أراده الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد أن يبقى مشتعلاً من أجل تحقيق أفضل النتائج في محادثات التسوية ما بين الأعوام 1992-1996، والتي كانت تتطلب سياسياً من الإسرائيليين ضبط النفس مع سوريا من خلال ضبط القرار السياسي.

يضع الكاتب اللوم على سوريا في كثير من تحليلاته في عدم قدرة "إسرائيل" على تطوير وتنفيذ سياسة ردع مع حزب الله خلال السنوات الثلاثين الماضية في الصراع معه. ويثبت هذه العلاقة الجدلية من خلال أحد الأمثلة، التي أعطاها، عن قصف الطائرات الإسرائيلية موقع الصواريخ السورية في رياق قرب بعلبك، وجاء رد حزب الله في كريات شمونة من دون أن تستطيع "إسرائيل" الرد في جنوب لبنان أو بقاعه.

كما يوضح ماركوس أن القسم الأول من الكتاب يحاول أن يجيب على سؤالين طرحهما الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله بعد وصفه أهمية تقرير لجنة فينوغراد، والذي ينم عن الشفافية في التعاطي، وهما: من أخذ قرار حرب 2006؟ وما هي الخلفية وراء اتخاذ قرار الحرب ضد لبنان؟ السؤالان اللذان بقيا مبهمين ولم تجب عنهما لجنة فينوغراد.

القسم الثاني من الكتاب يركز على الثغرة التي تركها تقرير فينوغراد ويركز على المصادر المفاهيمية والإنتشار التنظيمي واستيعاب مفهوم العمليات الجديد لجيش الاحتلال الإسرائيلي في القتال. فهو يبحث في تطور مفهوم القتال لدى الإسرائيلي. إذ يفحص ماركوس عملية التكيّف الوظيفي من خلال التركيز على تطور جيش الاحتلال خلال العمليات ومفهوم تطور القتال والدوافع التي جعلت الإسرائيلي يتخذ الإجراءات التي اتخذها خلال العمليات القتالية. كما يتناول في الوقت نفسه مفهوم حزب الله العسكري الخاص حول شؤون الحرب ويضيء على الدروس المهمة التي تعلمها الحزب خلال حربه مع جيش الاحتلال الإسرائيلي في العقود الماضية.

على رغم محاولة الكاتب تصوير كتابه للقارئ الغربي بأنه ذو طبيعة محايدة، ولكن من خلال التعابير النمطية التي يحملها الكتاب، تظهر انحيازه لـ"إسرائيل"، من خلال تعابير يستخدمها الإعلام الإسرائيلي والغربي كـ"جيش الدفاع الإسرائيلي"، والصراع في الشرق الأوسط، مع أن الصراع هو بين العرب وبين "إسرائيل"، وليس كامل الشرق الأوسط. وتعابير مثل الحرب الأهلية السورية، أو الصراع ما بين حزب الله و"إسرائيل"، وكأن حزب الله ليس مقاومة عربية لبنانية ضد عدو محتل. هذا مع أن الكاتب يتحدث عن الاحتلال الإسرائيلي للبنان في الأعوام 1978 و1982، ولكنه يضعه في إطار محاولات "إسرائيل" حماية نفسها من الفدائيين الفلسطينيين، والذي يسميهم "مليشيات إرهابية"، وما إلى ذلك من تعابير.

يرى ماركوس أن حرب 2006 تعتبر حرباً مهمة وهي تستحق الدراسة بسبب الأداء المتوسط لجيش ذي تسليح متطور وحديث في مقابل عناصر حزب الله المسلحين والمدربين بشكل جيد، كما وصفته منشورات الجيش الأميركي ووزارة الدفاع البريطانية. إذ أعطت طبيعة القتال ما بين الطرفين الغرب طريقة جديدة للتفكير حول مستقبل الحروب، وكيف يمكن أن تكون محصلة الحروب ما بين مقاتلين غير عاديين وما بين جيوش تقليدية ومدربة تدريباً حديثاً، وخاصة عندما يتعلق الموضوع بالصراع ما بين حزب الله و"إسرائيل" وقد دخل اليوم في عقده الرابع وليس هناك من آفاق لوقف هذا الصراع ذي الطبيعة التفجيرية والمتزعزعة والتي تحمل في طياتها آثاراً جيو-استراتيجية في الشرق الأوسط، خاصة بعد انخراط حزب الله في الحرب في سوريا.

ويعتبر الكاتب أن دخول الكتاب إلى تحليل الإستراتيجيات العسكرية ليس فقط من باب فهم الصراع منذ ثمانينات القرن الماضي، والأحداث التي دارت حول العام 2006 فقط، بل من أجل فهم مجريات الصراع في المستقبل.

من الواضح أن الدراسة تهتم بالعمق بتطوير جيش الاحتلال الإسرائيلي لتقنيات حربه مع حزب الله، من أجل إيجاد مفهوم أعم حول طريقة تفكير الإسرائيلي خلال الصراع مع الحزب اللبناني المقاوم، خاصة بعد احتلال "إسرائيل" جنوب لبنان وإقامة المنطقة الأمنية العازلة "الشريط الحدودي" من أجل حماية أمن المستعمرات الإسرائيلية في شمال فلسطين وحتى اليوم. إذ يرى ماركوس أن هناك فجوة في الدراسات التي قدمت حول كل من حزب الله والجيش الإسرائيلي لناحية وجهة النظر التعليمية والتنظيمية.

كما يسهم الكتاب في دراسة معمقة لحزب الله لناحية كونه عبارة عن قوات عصابات منظمة تعلمت وتطورت من خلال التكيّف في مراحل الحرب المختلفة، وظهر ذلك عبر: تناقص عدد الشهداء لدى الحزب خاصة ما بعد العام 1993، بينما بدأ ارتفاع عدد قتلى الجيش الإسرائيلي وميليشيا العملاء المسماة "جيش لبنان الجنوبي". كما يتحدث الكتاب عن ارتفاع عدد عمليات حزب الله المضطرد ضد "إسرائيل" وخاصة في تسعينات القرن العشرين وبعد اغتيال أمينه العام السابق السيد عباس الموسوي.

يعرض الكاتب شهادات جديدة من خلال لقاءات مع ضباط  سابقين من الجيش الإسرائيلي ومع  الناطق باسم قوات اليونيفيل في جنوب لبنان تيمور غوكسل الذين تحدثوا عن وقائع شهدوها، واللافت الإحترام الذي يبديه غوكسيل للمقاومة، التي أبدت شجاعة كبرى، والتي استطاعت تطوير قدراتها التكتيكية خلال سنين المعركة، في حين أن الإسرائيلي لم يكن قادراً على ذلك. فعلى سبيل المثال، كان حزب الله يكمن للدوريات الإسرائيلية ما بين المطلة وقلعة شقيف والتي كانت تنطلق دائماً في ساعات محددة فكان مقاومو حزب الله يرصدوها ويهاجموها، فاستعاض عنها الإسرائيلي بالحوامات العسكرية التي ابتدأ حزب الله بإسقاطها، فيشرح غوكسيل أن الإسرائيلي كان يستطيع وبكل بساطة تغيير مواعيد دورياته، وبذا كان يستطيع أن يصعب على حزب الله عملية رصده، ولكنه كان متحجراً في أدائه، بينما كان حزب الله قادراً على التكيّف والتطور.

وعليه يرى ماركوس، أن "إسرائيل" حتى العام 2006، استخدمت مع حزب الله طرق ردع تقليدية، في حين أن حزب الله استمر في تطوير بنتيته العسكرية والتنظيمية وكما استمر بالتعلّم من تجاربه وتجارب الإسرائيلي خلال سنوات الصراع. وما يلفت النظر هو طريقة عرض التجارب من خلال المقارنة ما بين الخطابات التي قام بها الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله ونائبه الشيخ نعيم قاسم ومسؤول حزب الله في الجنوب الشيخ نبيل قاووق وبعض نواب الحزب مثل محمد رعد والوزير محمد فنيش وعلي فياض.

واعتمد ماركوس في معظم مصادره الإسرائيلية على التصريحات التي أطلقها عدد من روؤساء الوزارات الإسرائيليين، والضباط الذين خدموا في جنوب لبنان وقادة القطاع الشمالي، وكانت بعض هذه المصادر هي لقاءات خاصة أجراها ماركوس مع هؤلاء الضباط.

ليس هدف الكتاب تقييم عمل حزب الله بالذات، إذ أن الكاتب يوضح في العديد من المواقع على أهمية المراحل التي مر بها حزب الله منذ أن كان يحارب ضمن مجموعات كبيرة نسبية، قد يصل تعدادها نحو الأربعين مقاوماً ويهاجمون بالطريقة التي اعتمدها الإيرانيون في حربهم مع نظام صدام حسين، وكان في تلك المرحلة يسقط عدد كبير من الشهداء، إلى أن دخل حزب الله في مراحل متقدمة أكثر. حيث ابتدأ حزب الله برصد تحركات جيش الاحتلال الإسرائيلي ووضع العبوات الناسفة، أو تنفيذ العمليات الإستشهادية ضد الجنود الإسرائيليين، إلى أن أصبح كما يصفه ماركوس بقوات كوماندس منظمة باتت تكمن للإسرائيلي وتقوم بالمواجهة معه وتكبده خسائر كبيرة.

يقسّم الكاتب مراحل القتال ما بين الطرفين زمنياً، ولكنها تعتمد على أحداث مهمة ومنها غزو "عملية الليطاني" في العام 1978، والاجتياح الإسرائيلي للبنان "عملية الجليل" في العام 1982. ومن ثم يركز على أهمية النتائج التي فرضها حزب الله في المرحلة الأولى حتى أوائل 1990، انتقالاً إلى العام 1993 في عدوان تموز –يوليو ومن ثم اتفاق نيسان –أبريل في العام 1996، حيث فرضت معادلة تحييد المدنيين، التي يعلق عليها أحد الضباط الإسرائيليين الكبار بأنها كانت معادلة مجحفة للإسرائيليين، الذين كان عليهم أن يتقبلوا مقتل جنودهم بصمت، فهم غير قادرين على كشف عناصر المقاومة وقصفها، ولا يمكنهم الرد بين المدنيين أو تحميل الدولة اللبنانية المسؤولية وبالتالي قصف البنى التحتية، لأن حزب الله سيقوم بالرد بقصف الكاتيوشا على المستوطنات، كرد على قصف المدنيين أو البنى التحتية في لبنان. وسمّى الضابط هذه السياسة "باستراتيجية الحمقى".

وتم الإنسحاب الإسرائيلي في العام 2000 إثر الإنتخابات الإسرائيلية في العام 1999، وتحت ضغطها وضغط حركة "أمهات الجنود" الإسرائيليين في لبنان، والتي طالبت بسحب أولادهم من براثن المقاومة في جنوب لبنان. ولكن خطأ "إسرائيل" الإسرائيلي - بحسب ماركوس - أنها انسحبت من دون أن تضع قواعد ردع مهمة تمنع حزب الله من مهاجمتها في مزارع شبعا وخطف الجنود الإسرائيليين.

يركز الكاتب على حرب يوليو - تموز 2006، ويبدأ بتوضيح الإستراتيجية التي كان على الإسرائيلي أن يتعلمها من تصريح السيد نصر الله بأنه لو كان يعلم بأن ردة فعل "إسرائيل" ستكون بهذه القوة لما كان حزب الله قام بالعملية في الوقت والزمان اللذين نفذت فيهما. ولكن الكاتب يعود ليوضح أن نتائج الأداء الإسرائيلي السيء لجيش قوي ومتطور مقابل مجموعات من الكوماندس كانت سيئة وأن "إسرائيل" لم تضع استراتيجية محددة ولم تطور تقنياتها العسكرية وتجهيز جنودها من أجل حرب من هذا النوع.

ينهي ماركوس كتابه بمحاولة لمقاربة الوجود العسكري لحزب الله في سوريا منذ عام 2011 وحتى اليوم، وهو يعتبره جزءاً من العملية التعليمية التي بدأها الحزب منذ بداية الثمانينات، حيث يقوم حزب الله باستخدام التقنيات الحديثة وبتطوير استراتجيته العسكرية من خلال اكتساب المزيد من المعرفة العسكرية من خلال تطبيق خططه في الحرب ضد "داعش" وغيرها من المجموعات التكفيرية. كما يرى الكاتب أن حزب الله اليوم يبحث له عن موطئ قدم في الجولان السوري.

في الحقيقة الكتاب زخم بالمعلومات واللقاءات، وهو يقدم لفكرة جديدة جداً حين يتحدث عن تطور العسكري والتنظيمي والتسليحي لكل من "إسرائيل" وحزب الله وتحديث القدرات لدى كل منهما. وهو يفي فصائل المقاومة، التي شبّهها بجيش من الكوماندس، الكثير من حقها، وخاصة عندما يصف قدرة المقاومة على تطوير استراتيجيتها. ولكنه في الوقت نفسه يحاول أن يلتمس العذر لجيش الاحتلال الإسرائيلي الذي لم يستطع الصمود كجيش نظامي أمام مجموعات صغيرة مقاتلة ومدرّبة. كما يحاول من خلال الكتاب الدخول على عقيدة حزب الله القتالية، ولكنه في نهاية الأمر لم يكن يستطع أن يرى حزب الله إلا من خلال كونه "مجموعة شيعية مرتبطة عقائدياً بقضية الإمام الحسين ومظلوميته". هذا طبعاً ليس غريباً عن حزب الله، ولكن ما لم يقدر الكاتب على استيعابه وفهمه، أن مظلومية الإمام الحسين يستقيها حزب الله في الجنوب من كون الجنوب أرضه، التي يريد أن يحررها وأنه لن يرضى أن يعيش عليها في ظل الاحتلال والظلم الإسرائيليين.