حول "هيفاستوس – رقصة النار" للتونسي منجي عيساوي

تبدو قصص المجموعة مشدودة إلى أسباب نزولها، وتحكي هموم الناس واحتراقهم، وكذا تلتقط مفارقات الحياة من أيام مضت وأخرى قائمة، وبلغة ساخرة من شأنها إثراء الحكي وتلوينه، لكنها في العمق سخرية لاذعة وسوداء وساخنة.

"هيفاستوس" هو اسم المجموعة القصصية للتونسي منجي العيساوي (المغاربية للطباعة والنشر)، وتشتمل على 11 قصة متفاوتة الأحجام، تزيّنها رسوم للفنان توفيق عمران، ويفرش لها نور الدين الخبثاني بتقديم يفتح شهية القارئ للدخول إلى أجوائها القصصية.

بداية، ومن خلال الرؤية البصرية للغلاف يلفت انتباه المتلقي شكله الطباعي المشهي، وأناقته الجمالية التي تستحق التنويه، مما لا نجده إلا نادراً في إصدارات العديد من أغلفة دور النشر التي أصبح لا يعنيها سوى الربح السريع على حساب جمالية التلقي البصري.

أما اختيار القاص لـــ"هيافاستوس – رقصة النار" عنواناً نارياً ملتهباً، فلأنه فرضته المرحلة التاريخية الحساسة والمتقدة، بدءاً بالاحتراق وانتهاء بإماطة اللثام عن واقع ملغوم وملتبس بالاحتقانات والتناقضات. وتأتي اللوحة التي تزيّن الغلاف لتعضد هذا الاحتراق المشترك، بدليل ألسنة النار التي تتعالى وتتطاير عالية من وسط جموع جماهيرية.

هكذا تبدو قصص المجموعة مشدودة إلى أسباب نزولها، وتحكي هموم الناس واحتراقهم، وكذا تلتقط مفارقات الحياة من أيام مضت وأخرى قائمة، وبلغة ساخرة من شأنها إثراء الحكي  وتلوينه، لكنها في العمق سخرية لاذعة وسوداء وساخنة.

تحكي فاتحة النصوص القصصية، "حالة استنفار"، عن توصل رئيس شرطة بوِشاية مريبة كانت بمثابة احتراق لجهازه العصبي نقرأ: "ارتعدت فرائص رئيس الشرطة وانتفض كالملسوع على كرسيه الهزاز وهو يلتفت إلى الصورة المكبرة وراء إطارها المذهب، وقد خيّل إليه أنها تتأهب للخروج فتنقض عليه .. لقد أخبر أن هناك حركة مسترابة في بيت العربي الحوات"، مما جعله يستنفر مخبريه المباشرين وغير المباشرين وتتالى التقارير.

وفي النهاية وفجراً "يقرر السيد الرئيس اقتحام منزل العربي، وفي انتظار أن تأتيه زوجة العربي بالمناشير، ليلقفها و"قرأ الورقة الأولى ... الثانية .. الثالثة ..". وبعدها تتبخر أحلامه بالترقي الإداري وفي مهد ساخر ولاسع، ويبحث بعدها عن زميل له في المهنة كي يتكئ بعد أن تطايرت المناشير المتوهة "التقط أحد أعوانه ورقة قرأها بصوت مسموع": صوتوا لفائدة ابنتي التي تشارك في منوعة  Star Academy على الرقم 14777777714 ، أخوكم الحوات " ص 21.

في هذه القصة، يجهر القاص باستعادة تلك الأيام المذعورة التي كانت تعد الناس والأنفاس، ويعري عن ذاك الزمن الذي ظل جاثماً على المجتمع، لكن بسخرية جارحة ونابية، وبذلك يكون المحكي القصصي كما ورقة النشاف اليومية التي تجفف الصفحات الدامية، واجتيازها عن طريق الكتابة الناطقة باسم ماضيها الذي كان شبه أبكم، سوى لدى أقلية هائلة.

تنطلق قصة "المحمية"، من حلم يقظة عابر، ينتهي بلحظة صادمة وساخرة، ف"الزاهي" القادم من القرية أتعبته المدينة بضغوطها، فالتجأ إلى الحلم حيث التعويض النفسي، وهرب من المرارة الاجتماعية إلى مشروع لا يراه سواه في أحلام يقظته: "سيوظف كل مهاراته، كل علمه وخبرته التي اكتسبها طيلة هاته السنين لإنجاز مشروع العمر سأكون صاحب المروع تصوراً وإنجازاً، فهل رجال الأعمال هؤلاء أفضل مني ذكاء وخبرة ؟"، ص 38 ، وتتوالى أحلام " الزاهي".

لكن هذا المشروع المتخيل لا يلبث أن ينتهي بتكسير أفقه وإعادته إلى نفس الواقع المر: "ضربه الصبي بالكرة مدافعاً عن أمه، خرج النادل يطلب ثمن كأس الشاي وقارورة الماء، تقاذفت نسمات الهواء أوراق الجريدة وطارت في كل الاتجاهات، جرى "الزاهي" خلف الأوراق يجمعها بين عجلات السيارة وأقدام المارة"، ص51.

وبهذا يتضح، الشعور باللا انتماء للمجتمع، والتجاء "الزاهي" إلى الداخل مخرجاً وتعويضاً عن النقص الاجتماعي وشعوراً في أحضان الحلم بالملاذ الآمن بحثاً عن ذاته الهاربة وكما ينبغي أن تكون لا كما هي عليه الآن فريسة لواقع أحدب حارق.

في قصة "مجنون المدينة"، يتحول الجنون إلى شكل آخر من الاحتراق النفسي والعقلي، والذي يلحق أفكار الشخص نقرأ في ص 77:

"أمام باب جامع الزيتونة رجل مشرع سيفه صائح في من حوله: أريدهم جميعاً أمامي الآن"

"علا الصوت من جديد: "ايتوا بهم من تحت الأرض لن أعذركم أيها الكسالى ..سأجعلكم عبرة لمن لا يعتبر .. سأريكم كيف تحكم الأمصار وكون الولاء".

يبدو الجنون، من خلال النموذجين، مدخلاً لنقد ثقافة العنف التي أضحت مألوفة، وبذلك يموضع نفسه ضدها، وينتصر ضمنياً لقيم التغيير والتطور والإبداع. لهذا فهو جنون من نوع نقدي كما ذكرنا سابقاً، ويعتبر صاحبه نفسه صاحب قضية ورسالة.

في القصة الثالثة، "الحلاق والعروس" يحكي السارد عن احتراق من نوع آخر، فرملة التي تشتغل حلاقة وممكيجة للعرائس "وبكل طاقتها لتوفر المال الذي يملأ عين خطيبها وتسد كل الذرائع التي تمنعه من إتمام زواجهما في هذه الصائفة" ص  32. لكن هذا الذي تضحي من أجل لا يلبث أن يحرق هذه التضحية في قفلة القصة: "ألقت رملة نظرتها الأخيرة على العروس وهي تهم بالدخول، نظرت إلى السيارة المزدانة فرأت الرجل الذي تنتظرُ يمسك بيد العروس ويجلسها إلى جانبه بالمقعد الخلفي للسيارة"، ص34.

وعليه، تسدل القصة ستارتها على احتراق عاطفي، وعلى حداد ثقيل، لكن، ثمة إشارة دالة وخفية إلى الوقاحة الذكورية، وإلى مجتمع تقليدي ماضوي راكد ويفتقد إلى القوة الداخلية التي تحركه، والأكثر منه أن إنتاج كائنات يقوم حجر الأساس فيها على عقلية ذكورية تكرّس دونية المرأة واضطهادها نفسياً.

في قصته الأخيرة، يستدعي "هيافاستوس" "إله النار" شخصية أسطورية، دلالة على تجديد تراثنا حتى يتمكن التعبير عن مضامين معاصرة، وبذلك يتجاوز النقل الحرفي، حيث يغدو "البوعزيزي" التونسي هو "هيفاستوس"  اليوناني، كلاهما تلتهمه النار في سيدي بوزيد: "بلغ الغضب هيرا مسكت "هيفاستوس" ورمته من فوق جبال الأولمب فتلقفت رائحة الشواء، ونار الخشب المحترق في ذلك اليوم الخريفي في الشارع الرئيسي لمدينة سيدي بوزيد"، ص 133.

وعليه، تكون القصة قد أدت الدور المنوط بها والذي نتوقعه، وهو استحضار هيفاستوس عبر تقنية المفارقة وعبر استمرارية متطورة للماضي، ومن ثمة تجنب السردية الماضوية وإسقاط رؤية الحاضر على الماضي حيث ركز القاص على البوعزيزي في علاقته ب"هيفاستوس" التي يغلب عليها اللهيب والاحتراق جراء وبذلك يكون استلهاماً رمزياً لا تاريخياً.

وبعودتنا ثانية لمجموعة "هيفاستوس" نكشف أن القاص منجي عيساوي قد كتب قصصه بلغة فصيحة تتخللها بعض العبارات التي كتبت بالعامية أو بلغة أجنبية، وبخصوص هذا التهجين اللغوي، نورد الشواهد التالية:

"نظر إليه الزاهي قائلاً: هل تحب أكل "الهندي"(التين الشوكي) ؟ ضحك النادل قائلاً: "يا حسرة خويا .. آشْ كون ينجم يخلط عليه توة راهو يتباع أغلى من الموز.. وين عايش إنت صاحبي؟ راهو يتباع مقشر توة زادة"، ص39.

هذا المزج على مستوى الملفوظ القصصي، يمزج في الجملة الواحدة بين الفصحى والإنجليزية، كما يمزج بين الفصحى والعامية، وهذا من شأنه تنويع وتنشيط التلقي، وتحقيق لذة النص ومتعته.

وفضائياً، تتحرك هذه التجربة بين فضاءين، فضاء مدني حداثي، وآخر عتيق وقروي خالص، بحيث لم تعد قصص "رقصة النار" رهينة نهج المدن العتيقة والحديثة وشوارعها وحبيسة عماراتها ومبانيها المغلقة، بل شيّد القاص لها فضاءات قروية ببيوت قشها، وروائح قصبها الندي ومجاميرها وفوانيسها، عبر تضافر شفراتها وتشابك علاقاتها وتفاعلها المفتوح.

وفي سياق تكريسها لجمالية التلقي، تستدعي قصص "رقصة النار" مجموعة من الرموز الأدبية"، المتنبي وأبو القاسم الشابي"، ومن التراث الأسطوري "هيفاستوس" اله النار في التراث اليوناني، وينبني على جملة من الأمور كما أشرنا سابقاً ومنها: الموقف والاستمرار والحركة، وبذلك تتم إعادة تركيب هذه الشخصية الأسطورية مندمجة في الحياة الاجتماعية والسياسية.

  وقبل أن نسدل الستار، هذا بعض مما تبوح به مجموعة "هيفاستوس – رقصة النار"  للتونسي منجي عيساوي، وتلك همومها الساخنة واللاسعة، وذلك بعض من احتراقات شخوصها، التي تجمع بين لذة الحكي وخصوبته، وتفتح شهية القارئ والإنصات لدلالاتها الموحية والعميقة.