"فهم التلمود".. الكتاب الثاني لدى اليهود

الـتلمود يعد كذلك تدويناً لنقاشات حاخامات اليهود حول الشريعة اليهودية، والأخلاق، والأعراف، وقصص موثقة من التراث اليهودي، وهو أيضاً المصدر الأساسي لتشريع هؤلاء الحاخامات في الدعاوى القانونية,

التوراة هي الأسفار المعترف بها من قبل اليهود العبرانيين (وهم الذين لهم الغلبة والكثرة الآن) وهو كذلك معترف بها من قبل البروتستانت. أما الكاثوليك فيضيفون سبعة أسفار أخرى مع تبديل في أسفار الملوك. والجدير بالذكر أن عند اليهود كتاباً يعظّمونه أشد من تعظيمهم للتوراة وهو التلمود، ويزعمون أن موسى -عليه السلام- لما استلم كتابه التوراة من ربه مكتوبة في الألواح، استلم كذلك تعاليم التلمود معها شفاهاً. فما هو "التلمود"؟.

  هي كلمة "تلموذ" بالذال المعجمة في اللغة العبرية مشتقة من المصدر لاموذ وهو مصدر الفعل الثلاثي المعروف باسم (قال)، مشتقاته من الثلاثي اسم الفاعل لومذ أي متعلم والفعل الرباعي لمذ بكسر اللام والميم المشددة ومعناه عَلّم من التعليم ومضارعه يلمّذْ واسم الفاعل مِلَمّذْ فهو تفعول بزيادة التاء والواو ومعناه هو التعليم.

   بداية، يعد "التلمود" أحد أهم مصادر التشريع اليهودية بعد (العهد القديم) و(المشنا)، بل ربما يحتل مكانة متقدمة عليهما فى بعض المسائل، وهناك تلمودان: أورشليمي وبابلي، وهما نتاج مدارس دينية يهودية عدة في فلسطين وبابل (300 - 500م). كل ذلك يتعرض له كتاب (فهم التلمود: مختارات مع مقدمات) لـلباحث ألان كوري، أستاذ الدراسات العبرية واليهودية في جامعة وسكنكسين - ميلويكي في الولايات المتحدة الأميركية، الذي صدرت ترجمته العربية عن المركز القومي للترجمة من إعداد سامي محمود الإمام، أستاذ ورئيس قسم اللغة العبرية وآدابها بكلية اللغات والترجمة، جامعة الأزهر.

  نعم يعرف الباحثون أن التلمود البابلي هو الأضخم حجماً، والأكثر دراسة، وهو يتضمن بشكل عام تشريعاً قانونياً، ومنهجاً أخلاقياً، وجملة من الطقوس والشعائر الدينية ومقطوعات شعرية وصلوات وقصصاً تاريخية، وطرائف وحكايات شعبية وأساطير.

ويضم اكتاب (فهم التلمود) بعضاً من أفضل الإسهامات باللغة الانجليزية لدراسة التلمود، التي ظهرت على مدى الأعوام الثمانين الماضية، وتمثل أبحاثًا لنخبة من المثقفين، والهدف من ذلك هو المساعدة في فهم الثقافة التي انبثق منها هذا المصدر التشريعي اليهودي.

  تنقسم المواد التي تشكّل لُب التلمود الى قسمين يعرفان بـ"الهالاخاة" و"الهاجاداة": فـ"الهالاخاة" تتعلق بالأجزاء التشريعية، وهى الاستنباط المنطقي لأجيال من العلماء، وشكلت الهالاخاة أسلوب حياة اليهودي. أما "الهاجاداة" فتتعلق بالأقسام غير التشريعية وهي أقسام تتساوى في أهميتها مع الأقسام الأخرى. وعلى الرغم من التناقض الحاد بين القسمين فإنهما يكملان بعضهما البعض، وينبثقان من أصل واحد ويهدفان إلى الغاية نفسها. فلم يكن التلمود يتضمن فقط المحصلات الأخلاقية والتشريعية لبحوث المتعلمين، بل يتضمن أيضاً الحكمة، والمعتقدات الخرافية لعامة الناس، وهو - بحسب المعتقدات اليهودية - ليس تشريعاً وأدباً وحسب، لكنه رابطة فريدة بين اليهود، ووثيقة روحية لا نظير لها، للحفاظ على الهوية اليهودية وسط كثير من المحن التي تعرضوا لها عبر التاريخ. ولذلك يعد التلمود عند اليهود أحد أعظم كتبهم، على الرغم من زلاته أو أخطائه وإفراطه فى التفاصيل، وافتقاره إلى الأسلوب والشكل إضافة إلى قوانينه التفصيلية وقيوده المذهلة.

  والجدير بالذكر أن "المشنا" تنقسم إلى أجزاء أو أبواب ستة وكل قسم ينقسم إلى فصول وكل فصل ينقسم إلى فقرات. وترتب هذه الأقسام الستة على النحو التالي: "زراعيم" بمعنى بذور، وهو يتناول تشريعات الزراعة، "موعيد" وتعني أعياد أو احتفالات، ويتناول الأعياد، "ناشيم" بمعنى نساء ويتناول تشريعات الزواج، "نيزقين" وتعني أضرار ويتناول التشريعات المدنية والجنائية، "قوداشيم" بمعنى مقدسات ويتناول القرابين أو ما شابه ذلك، "طهاروت" بمعنى طهارات ويعالج الطهارة الشخصية والتعبدية.

  الحقيقة المجهولة للبعض هي أن الـتلمود يعد كذلك تدويناً لنقاشات حاخامات اليهود حول الشريعة اليهودية، والأخلاق، والأعراف، وقصص موثقة من التراث اليهودي، وهو أيضاً المصدر الأساسي لتشريع هؤلاء الحاخامات في الدعاوى القانونية. إذًا هو المبادئ الأساسية لجميع قوانين شريعة الحاخامات وهو علاوة على ذلك اقتباسات من مؤلفات أدبية لحاخامات آخرين.

ويدعي اليهود أن موسى - عليه السلام - ألقى التلمود على بني إسرائيل فوق طور سيناء، وحفظه عند هارون، ثم تلقاه من هارون يوشع بن نون، ثم إليعاز وهلم جرا… حتى وصل الحاخام يهوذا حيث وضع التلمود بصورته الحالية في القرن الثاني قبل الميلاد. وعليه دأب اليهود يعطون التلمود أهمية كبرى إلى درجة أنهم يعتبرونه الكتاب الثاني، والمصدر الثاني للتشريع، حتى أنهم يقولون "إنه من يقرأ التوراة من دون المشنا والجمارة فليس له إله".

  تعتقد اليهودية الأرثوذكسية بأن كتب التناخ نقلت بشكل متطابق من التقليد الشفوي المتواتر. وهكذا فإن التوراة هي الشريعة المكتوبة. أما الشريعة الشفوية فوظيفتها التعامل مع تطبيقات وتطويرات المعاني المكتوبة. التلمود إذًا يؤلف الإنشاء المكتوب والموثوق لهذا التقليد وبهذا يكون العامل الرئيسي في الإيمان والمعتقد اليهودي. ورغم أنه ليس شريعة قانونية رسمية، فهو القاعدة الأساسية لجميع التشريعات القانونية اليهودية اللاحقة. وهكذا نراه يتابع بذل الجهد كمؤثر رئيسي في "الهالاخا" والممارسات الدينية اليهودية. فالتلمود هو تنظيم محتوى الحكمة بين الوصية والتطبيق.

  إن أول من قام بتدوين تلمود بابل هو آشي (المتوفي 427م)، بمساعدة رابينا، وكان هدفه أن تكون في أيدي اليهود لائحة قانونية معتمدة، وكتاب يدرسه الطلبة اليهود. وقد أكمل الحاخام رابينا بارهونا (المتوفي 499م) عمل "آشي" الذي مات قبل استكمال مشروعه. وقد قام الحاخام سابورائيم (في القرنين السادس والسابع) بوضع الحواشي والشروح على نسخة رابينا، وفصّل في الأمور المختلف في أمرها.

والجدي ذكره أن الكنيس اليهودي أو المذهب الحاخامي لم يوجد إلا أثناء السبي البابلي، وبذلك حل محل الهيكل. وسمي الكنيس باسم: "بيت التجمّع" ويتضح من الاسم نفسه الغرض الذي أنشئ من أجله الكنيس، وهو نفس الغرض الذي استهدفه تدوين التلمود.

  لقد طبعت بعض فصول تلمود بابل سنة 1484، إلا أن الطبعة الكاملة نشرت في البندقية فيما بين 1520 و1523. أما نسخة بازل، وطبعة أمستردام (1644 – 1648م) فلم تشوها كثيراً رغم خضوعهما للرقابة. والطبعة المعتمدة هي طبعة روما المنشورة في فيلنا سنة 1886 في عشرين مجلداً. وأحسن طبعة لتلمود بابل نشرها ستراك سنة 1912 عن نسخة أعدت في ميونيخ في أواسط القرن الرابع عشر. ويقول محرر دائرة المعارف اليهودية العامة: "إن أحد أهم الأسباب لعدم بقاء مخطوط كامل لـ(تلمود بابل) هو التعصب الديني المغالي للمسيحية في العصور الوسطى، الذي دفع الكثيرين الى إشعال النيران – أحياناً – في العربات المحمّلة بالتلمود المطبوع أو المخطوط".

  كذلك فإن أول ترجمة كاملة لـ "تلمود بابل" نشرتها مطبعة سونكينو في لندن. وقد ترجم أبراهام كوهين كتاب "براخوت" إلى الإنجليزية سنة 1921. وظهرت كتب عدة تتناول ملخص تلمود بابل باللغات: اللاتينية والفرنسية والروسية والإيطالية واليديش، ولغات أخرى. وتقول دائرة المعارف اليهودية العامة: كل الطبعات الجديدة لـ"تلمود بابل" تشمل رسائل صغيرة عديدة أضيفت في آخر البحث الرابع (نيزيكين). وتلمود بابل يشمل 2500000 كلمة تقريباً، منها ثلاثون في المائة عن "الهاجاداه" أي القصص، والباقي "هلاكاه"، أي الأحكام.

لقد واجه التلمود العديد من المشكلات في روسيا، حيث طبع الكتاب لأول مرة في سنة 1902 باللغة الروسية، ونشرت منه نسخ قليلة، فلما رآها اليهود طاش جنونهم، وحملوا ضد الكتاب حملات مسعورة وتنصلوا منه. ثم حملت عليهم روسيا القيصرية بسببه حملات شديدة حتى قتلت منهم عشرة آلاف في مذبحة واحدة!.

  لقد طبع الكتاب مرة أخرى سنة (1905) ونفذت هذه الطبعة بسرعة وبوسائل غريبة لأن اليهود جمعوها من الأسواق وأحرقوها، ثم طبع سنة (1911) ونفدت نسخه على النحو السابق، ثم طبع سنة (1917) فصادره الشيوعيون لأنهم كانوا قد استلموا زمام الحكم في روسيا حيث كان المجلس الأعلى للحكم الشيوعي يتكون من ستة أعضاء بينهم خمسة من اليهود. وقد قام الحزب الشيوعي الماركسي على مبادئ منظره كارل ماركس اليهودي. وقد كانت نسخة من الطبعة الروسية لسنة (1905) قد وصلت إلى المتحف البريطاني في لندن وختم عليها بخاتمه سنة (1906) وبقيت مهملة حتى زمان الانقلاب الشيوعي سنة (1917).

   ما حدث بعد ذلك هو أنه تمت ترجمة التلمود ونشره بالإنجليزية في خمس طبعات كان آخرها سنة (1921) حيث لم يجرؤ ناشر في بريطانيا ولا في أميركا على نشره، ومع محاولات اليهود المحمومة لاحتواء الكتاب إلا أنه طبع طبعات كثيرة بلغات مختلفة منها الألمانية والفرنسية والإيطالية والبولونية والعربية التي طبعت سنة (1951) بترجمة ونشر محمد خليفة التونسي، ثم نشرها كذلك عجاج نويهض.

الحقيقة المرة هي أن جميع المؤلفات عن التلمود باللغة العربية، تقريبًا، تفتقر إلى الموضوعية وروح البحث العلمي. وتكاد تكون كل تلك المؤلفات صورة طبق الأصل لكتاب قديم، سواء أشار مؤلفوها إليه أم لا. ومعظم هذه الكتب يصبغها طابع التعصب والجهل، في آن واحد. والشوق إلى معرفة حقيقة التلمود وتاريخه هو الذي قاد المؤلف إلى أن يعكف على دراسة هذا الموضوع.

  لقد تمكن الكاتب من وضع هذا الكتاب الذي يبحث بإيجاز، في الفكر التلمودي العميق، بقدر المراجع التي تمكن من الإطلاع عليها. فالمكتبة الفكرية العربية تعاني نقصاً شديداً في الدراسات الجادة التي تعالج القضايا العربية والصهيونية، بالموضوعية، بعيدًا عن التعصب والأحكام المسبقة والأهواء.