سوسيولجيا المقدس: الدين والتغيّر الاجتماعي

ما بين إحياء الدين والتحول العلماني، ظهر الموقف الثالث وهو "بعث المقدس"  ليوجه الانتباه بعيداً عن حدود ما هو ديني وماهو علماني.

فقد الدين أهميته الإجتماعية في المجتمعات الغربية خاصة وفي غيرها من العالم خلال القرن العشرين وعلى الرغم من احتفاظ أعداد كبيرة من الأفراد والجماعات بأهمية الدين لديهم، لكن كان هناك حالة من العلمنة الدائمة للمجتمع والثقافة والاقتصاد السياسي هي ما جعلت الدين هامشياً. وفي القرن الحادي والعشرين كان هناك ثمة ظهور لمجتمعات ما بعد العلمانية بدلاً من الحديث عن التحول العلماني وأصبح الحديث عن "عودة الدين"، و"عودة المقدس".

يكشف الكتاب عن العلاقة بين الدين والتحول العلماني في الحقبة الكونية المعاصرة، ويشير إلى أن هناك إعادة إحياء للديانات الخاصة في العقود القليلة الماضية بجانب نمو ظواهر ثقافية واجتماعية تفهم على أنها مقدسة. ويفهم التحول العلماني بشكل عام على أنه عملية من التغير لأهمية الأبعاد غير الدينية للحياة الثقافية والاجتماعية والتي تهمش كلا من الدين والمقدس.

 

التحديث والعولمة

إن عملية نزع العلمانية تفهم على أنها إعادة تأكيد لأهمية الدين والمقدس بالنسبة إلى العلماني، ولكنها تكمن أيضاً فى أن مفهوم "المقدس" يختلط بالدين. ولذلك فإن غالبية التصورات عن الدين والمقدس والعلماني هى تصورات شائعة لا تساعد في فهم العلاقات المتغيرة التي توجد بين هذه الظواهر، وفي الجزء الأكبر من القرن العشرين كان الحديث حول مصير الدين مع التحول نحو العلمانية، والتي عكست وجهه نظر سوسيولوجية مفادها أن الحداثة تؤدي إلى تآكل الهويات والمؤسسات الدينية. ومن أمثلة ذلك الأهمية المتناقصة للدين في المجتمعات المتقدمة تكنولوجيا وبالتالي بدأت الرؤية العامة للدين في الغرب تتغير وعملت على إعادة توجيه علم الاجتماع الديني إلى أربعة اتجاهات، أولها: "إعادة إحياء الدين" والذي يرفض بشدة فكرة التحول نحو العلمانية، ثانيها: لا يرفض سرديات التحول العلماني ولكن يتناولها بالتعديل، حيث نظر إليها على أنها أطروحة خاطئة ليس في تحديدها عناصر للتحديث يمكن أن تضعف تأثير الدين. لذلك رفض هذا الاتجاه الفكرة التي تشير إلى أن العناصر العلمانية تعمل على تحويل المعتقدات والممارسات والهويات الدينية إلى مكانة هامشية.

وما بين إحياء الدين والتحول العلماني، ظهر الموقف الثالث وهو "بعث المقدس"  ليوجه الانتباه بعيداً عن حدود ما هو ديني وما هو علماني. وبالتالي كان التوسع في مفهوم المقدس ليتجاوز كلا المصطلحين الديني والعلماني من خلال التماس ظواهر لها طابع علماني وروحي في نفس الوقت، وهو ما أطلق عليه "سوسيولجيا المقدس" الذي يرتبط بالبناء الاتصالي للمعايير والقيم، فإن الأنماط التي لها طابع مقدس تصبح ذات أهمية بصرف النظر عن توصيفها أو اعتبارها مقدسة أو دينية.

أما رابعها، فهو المتبني للتحول نحو العلمانية بشدة بل ويؤكد على الأهمية الاجتماعية والثقافية المتناقضة للدين والتي تنتج عن التباين الاجتماعي الوظيفي للمجتمعات الحديثة ويشير إلى تراجع الالتزامات الدينية الصريحة في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، وبالتالي فإن المواقف الأربعة " إعادة إحياء الدين"، "إعادة إحياء التحول العلماني المنضبط"، "إعادة التأكيد على المقدس"، و"التحول العلماني القوي" جميعها تكشف عن صور من التوافق فيما يتصل بالاعتراف بالتحول نحو العلمانية وتشير إلى أننا بحاجة إلى مزيد من البحث عن جدوى التباين واللاتباين الاجتماعي بالنسبة لأشكال السلطة الدنيوية وغير الدنيوية.

 

أنماط المقدس

إن انخراط الناس فيما هو مقدس بطرق متداخلة حتى وإن كانت متمايزة هو ما يجعل من الصعب تناول الدين والمقدس كنقيضين. وكذلك فإن التمايز والاختلاف بينهما يشير إلى ظهور ديانات متنافسة ونماذج علمانية للمقدس.

وينطلق الفصل الثاني من الأسس التي تقوم عليها أشكال المقدس والتي تحمل طابعاً مثالياً، ولكنها تقدم إطاراً مفيداً لفهم القضايا المتصلة بعلاقة التحديث بالتحول العلماني وعمليات التباين واللاتباين، وكذلك قضايا التأثير والسلطة في الحياة الدنيا والآخرة.

وقد لخّص الكتاب هذه الأنماط من المقدس في ضوء أشكالها الاجتماعية – الدينية، والبيولوجية – الاقتصادية، والمتعالية والبيولوجية السياسية، فالنمط الاجتماعي – الديني للمقدس يتضح من خلال مماراسات تضفي قداسة على المجتمع باعتباره مصدراً للدين، وهي الصورة الأولية للحياة الدينية، وهو ما يتعارض مع أي علمنة بمقدار تداخلها مع التقديس الديني للمجتمع.  

يمكن التعرّف على عناصر جوهرية من المقدس الاجتماعي – الديني في بعض الأشكال المعاصرة للإسلام، وبالتالي الاستفادة من ذلك في التغلب على تلك المخاوف المتعلقة بدمج الإسلام في الثقافة والسياسة الغربية كدليل واضح على المناقشات التي تجري في الوقت الراهن.

وهو ما يتضح في "الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية" وفيلم "طهارة المسلمين" حيث أدت الدلالات المرتبطة بالعبادات ذات الطابع الإيجابي والسلبي والتي تحرم وتمنع التمثيلات التصورية للرسول محمد (ص) إلى إثارة الإدانة والعنف حول العالم. يفهم هذا العنف باعتباره استجابة لاعقلانية للتعدي على المقدسات يهدد ويزعزع استقرار المجتمعات الإسلامية بل ويمكن النظر إليه باعتباره مهدداً للدين ككل.

أما المقدس البيولوجي الاقتصادي ظهر في المجتماعات الحديثة التي تمتلك اقتصاداً متطوراً وتقسيماً للعمل في أي شيء بما فيها الظواهر الدنيوية، وهو ما يساعد على تراجع الشعائر الدينية التي أسست للهويات الجسدية من قبل، وهو ما يعد مختلف تمام الاختلاف عن المقدس ذي الطبيعة الاجتماعية – الدينية والذي يشير إلى الاستهلاكية للأشكال الدينية وغير الدينية للمقدس والتي ترتبط بعواطف الأفراد التي تقوم على أساس بيولوجي.

المقدس المتعالي، يتعارض مع إضفاء الطابع العلماني الشامل على المجتمع، ويركز على قوة الاستقطاب بين المقدس والمدنس وإن كان هذا الاستقطاب يحد من التوتر الرأسي بين العالم الأخروي والعالم الدنيوي الذى يتضمن التمييز بين العالم الروحي الخاص بالكنيسة والعالم الزماني الخاص بالسياسة والاقتصاد والمجتمع. وبالتالي فإن المقدس المتعالي يرفع الناس وتجاربهم بعيداً عن الوجود العلماني من الهويات والروابط الاجتماعية بدلاً من تصنيف جميع أشكال الحياة الاجتماعية والخبرة، باعتبارها انخراطاً في المقدس أو فيما يهدد بتدنيس المقدس وتقويض المجتمع، وهو ما يعكس نمطاً من التدين يجاوز حدود العلمانية وقيودها.

النمط البيولوجي السياسي ينطوي على شكل من أشكال الضعف أو الانهيار الذي يصيب حالة الاستقطاب بين المقدس والمدنس ويصيب روابط هذه الحالة التي تصلها بالدين المؤسسي. كما تنطوي على إزاحة صور المشروعية الأخروية للسلطة لصالح الاهتمامات السياسية أو الاقتصادية الدنيوية. وبالتالي فإن الأنماط البيولوجية السياسية والبيولوجية الاقتصادية مرتبطة بعمليات العلمنة التي تظهر في إضفاء الطابع المادي البيولوجي السياسي الذى تتحكم فيه التكنولوجيا على المقدس باعتباره حياة مجردة، أو في شكل النزعة العاطفية ذات الهوية البيولوجية الاقتصادية داخل المجتمع المستهلك للسلع التجارية.

 

الانتشاء الديني بـــــــــين الدنيا والآخرة

ارتبطت خبرات الانتشاء الديني المرتبطة بالحياة الآخرة لزمن طويل بتطوير حساسيات وممارسات دينية، ولكن تحليلها لم ينعكس بشكل دائم في النظرية السوسيولوجية، وربما يكون من الصعب أن الشكل المعاصر من الدين أو الذي يرتبط بالقوة الانتشائية منظوراً إليه على أنه قادم من خارج هذا العالم وأن تأثيراته فردية.

وأشار الكتاب إلى جزء مهم مفسراً انبعاث الانتشاء الديني المفرط حيث أن الجماعات الدينية يمكنها أن تكشف عن شكل من أشكال الانتشاء المفرط الذي يحدث بشكل كبير بحيث لا يمكن مواجهة المشاعر العنيفة المترتبة عليه إلا من خلال أفعال متطرفة. وبالتالي فإن اعتداء الحملات الصليبية والثورة الفرنسية كل ذلك يمكن النظر إليه باعتبارها عمليات من الانتشاء التي يمكن أن تشكل مصدر تهديد إذا ما شاعت.

ومن أمثلة ذلك، أشكال العدوان العنيفة التي تتضمن التضحية بالنفس أو الآخرين كنوع من الدفاع عن الشعائر المقدسة وما يرتبط بها من صور الفوران أو الإثارة طائفة "اليهود المتعصبين"، وجماعات " العتلات الهندوس" والتفجير الانتحاري الذى أصبح أسلوباً مفضلاً لبعض الجماعات الإسلامية التي ترى أن الانخراط في حرب نفسية يمكن أن يؤثر في جمهور واسع من الناس، وهو ما اتضح في أحداث الحادي عشر من أيلول - سبتمبر، وإن اختلفت الصور الدافعة للانخراط في مثل هذه الاعتداءات.

وإذا ما كانت الأشكال العلمانية للانتشاء تتجزأ وتصبح محدودة في أشكال من التضحية التي تتطلبها والإمكانيات التي تحتويها، فإن هذه الأشكال الدينية الكريهة تذكر بالآثار التي يمكن أن يحدثها الانتشاء الذي تقف خلفه فكرة التضحية التي تسم المقدس ذا الطابع الديني – الاجتماعي.

 

الألم .. الكاريزما .. الشبقية .. خبرات وظواهر دينية

تهتم مناقشات عملية التحول العلماني بموضوعات مثل الذهاب إلى الكنيسة والتعبير عن الالتزام بمعتقدات دينية بعينها. وهذا الاهتمام هو ما يلفت النظر إلى قوة المشيئة الإلهية أو تبرير العدل الإلهي كطريقة لتفسّر قدرة الدين على البقاء داخل منظومة الحداثة. ولكن الانخراط الديني في الألم يكشف عن أمور أبعد من قضية المشيئة الإلهية كمحاولة فلسفية لحل مشكلة المعاناة الإنسانية.

أشار الكتاب إلي قدرة الكاريزما على شق طريق للخبرة الدينية بتمييزه لثلاثة من أشكالها، الكاريزما التربوية المرتبطة بمجتمعات التعليم المسيحية المبكرة، ومفهوم الشخصية الكاريزمية، ومفهوم الكاريزما الجمالية المادية والمصنعة، جميعها تقوم على أنماط مختلفة من السلطة وتقوم على أساس أشكال متناقضة من التضحيات. كما يمكن أن ترتبط الشخصيات الكاريزمية بالدعوة للتديّن والتقوى، رغم أنها في العالم الحديث أكثر ارتباطاً بالمباهج الدنيوية لثقافة المشاهير، في حين أن الكاريزما الجمالية توفر شكلاً علمانياً تماماً حتى وإن كان هذا الشكل قادراً على استثارة الخبرات الاستثنائية من خلال التقديس البيو- اقتصادي للعلامة التجارية.

تناول المؤلف الشبقية باعتبارها ظاهرة متناقضة اجتماعياً، وذلك بسبب قدرتها على أن تكون معززاً للحياة وطريقاً للولوج داخل طابع ثقافي اجتماعي ديني معين، وبسبب قدرتها أيضاً على استثارة أشكال من القمع وتقويض الديانة المؤسسية وزعزعة استقرار العلاقات الاجتماعية.  وفي إشارة إلى الشبقية المادية، فإن المرجعيات الآخروية للأيقونات الدينية لا تزال ترى أن من واجبها أن تتنافس مع الأشكال الأدائية المسلعة للشبقية ومع المنتجات العلمانية الأخرى المشرّبة بنوع من الكاريزما الجمالية. وبالتالي فإن مظاهر القلق المسيحية من الفنون الإباحية، واعتراضات المسلمين على ما يرون أنه تجسيدات مادية مهينة للمقدس.

وختاماً، هناك أربعة مواقف فكرية أساسية تتعلق بقضية التحول العلماني حيث يمثل كل موقف فكري في الظاهر دعاوى متباينة فيما يتعلق بالصلة التي بين الدين والمقدس والعلماني في وقتنا الحاضر، وبإمكان مظاهر التلاقي ومظاهر الاختلاف بين هذه المواقف الفكرية أن تشكل جزءاً أوسع من التركيبة الفكرية، أعقبها الكتاب تفسيراً لعملية صياغة الخبرة المجسدة داخل أنماط دنيوية وأخروية متميزة للمقدس من خلال التحليلات المهتمة بأشكال استقصاء الحيوية المتواصلة للدين من ناحية، والمستويات المتعددة للتحول العلماني من ناحية أخرى.

وقدم الكتاب النتائج المترتبة على نزع المقدس من ارتباطه بالدين، والقيمة المحتملة في فهم الملامح التي تضفي الطابع العلماني على الحداثة الكونية في الوقت الحاضر. وخلُص إلى أن الخلافات الفكرية الراهنة حول موضوع عملية التحول العلماني وإعادة إحياء الدين تميل إلى تجاهل الأسس المجسدة التي ترتكز عليها الأنماط الدينية والعلمانية للمقدس، فبعد أن كان الفكر مركزاً في الماضي على قدرة منظومات الاعتقاد الديني على البقاء داخل المجتمعات التكنولوجية الحديثة تحولت إلى قضايا تتعلق بالحواس الجسدية في أثناء الانشغال بموضوع حضور المقدس ومادية الدين.

 

*باحثة مصرية.