الدبابة في وجه العرب: من تل المخافي إلى وادي الحجير

إنَّ الدبابة كمعزّز لروحية الجنود، متى ما قاتلت إلى جانبهم، قد تتحول إلى وبال على معنوياتهم متى تدمّر. لا يمكننا على الرغم من ذلك أن ننفي دورها، ولكنّها، مثل باقي الأسلحة، تمتلك نقاط قوّة وضعف.

  • شهدت ألوية العدو المدرعة عمليّة تحديث مكثّفة في السنوات التي تلت حرب تموز/يوليو
    شهدت ألوية العدو المدرعة عمليّة تحديث مكثّفة في السنوات التي تلت حرب تموز/يوليو

جندي صهيوني: "هل لدينا فكرة عن عدد جنود حزب الله الَّذين قتلناهم؟".

الضابط: "ليسوا جنوداً، ولكنهم إرهابيون".

جندي آخر: "مهلاً، هم يملكون أسلحة حديثة. لم يتم تحديث دباباتنا منذ 10 سنوات. كانت مهمّتهم تتلخّص بإيقافنا. لقد قاموا بذلك بشكل جيّد جداً. لا تقل لنا إنّهم ليسوا جنوداً، بل هم جنودٌ وأكثر. إذا قلت إنهم إرهابيون، فأنت تستخفّ بعدوّك".

الضابط: "فلنحافظ على مسار الحوار".

الجندي ساخراً: "نعم، فلنحافظ عليه".

(من تلخيصٍ لحوار بين أفراد إحدى كتائب الدبابات الصهيونية عن "منجزات الحرب" من وثائقي فرنسيّ) (1). 

الدبابة في التاريخ

يقوم المؤرخ العسكري الأميركي آرشر جونز (Archer Jones) في كتابه "فن الحرب في العالم الغربي" بوضع الدبابة كسلاح يوازي بوظيفته سلاح الفرسان الثقيل تاريخياً؛ الفرسان المدرّعين من القرون الوسطى بشكل أساسي، وما يسمى بالـ"كاتافراكتاري" في الإرث الفارسي والروماني الأقدم. 

لم يكن جونز أول من خطرت له هذه المقابَلَة التاريخية، إذ ما زال الكثير من جيوش العالم، وخصوصاً الجيوش الأكثر قدماً، كالجيش البريطاني، يعتبر هذا السلاح بديلاً من الخيّالة تقليدياً في تشكيلاته. يظهر ذلك في تسمية التشكيل العسكري نفسه، مثل فوج "الهوسار" (اسم نوع خيّالة) الخاصّ بالملك (King's Royal Hussars) في الجيش البريطاني الذي يضمّ دبابات "تشالنجر-2".

يعتري هذا التصنيف الرباعي بين مشاة ثقيلة/خفيفة وخيالة خفيفة/ثقيلة، والطريقة التي يحاول بها جونز فرضها بالقوّة على كلّ العصور، العديد من المشاكل، إلا أنه يصمد في بعض الأحيان، وخصوصاً في بدايات الدبابة نفسها، كآلية مدرّعة تفوق سرعتها سرعة المشاة، وتملك قوّة ناريّة أكبر منها. متى ما تخترق الدبابة الخطوط الأولى من الدفاع، فإنها تصبح أشبه بالخيالة الخفيفة في هذا الإطار، وتضرب في عمق العدو وفي خطوطه الخلفيّة، في محاولة لتطويق قوّاته، وقطع تواصلها، وتدمير مراكز القيادة والتموين، بهدف تحقيق انهيارها. 

والجدير بالذكر هنا أنَّ دور "الدبابة الخفيف" لم يظهر حتى الحرب العالمية الثانية، رغم أن نماذجها الأولى الإنكليزية والفرنسية كانت قد ظهرت في الحرب الأولى، ولم تكلّل بهذا النجاح الكاسر للتوازن، كما يحلو للبعض التوصيف.

انقسم العالم قبل الحرب العالمية الثانية إلى معسكرين من الناحية العقائدية عسكرياً في هذا المجال. ينتمي السوفيات والألمان إلى المدرسة الأولى، بمنظّريها توخاشفكي السوفياتي وغودريان الألماني، اللذين ركّزا على مفهوم عمل الدبابة والقوات المتحرّكة الموازية لها كتشكيل عسكري مستقلّ بذاته، يقوم بالخرق، ثم الضرب والتطويق من خلف خطوط العدو، كخيّالة "خفيفة". 

أما المدرسة الثانية، فضمّت الإنكليز المنتصرين في الحرب العالميّة الأولى، والذين لم يروا أن ثمة ضرورة لتغيير استخدامها كمدفع مدرّع متحرّك ثقيل مساند للمشاة. يظهر ذلك بشكل واضحٍ جداً من مجرّد مقارنة شكل كلّ من النماذج وحركيّتها وتدريعها، بين "البي تي-7 السوفياتية" و"البانزر-2" الألمانية في الحالة الأولى، و"الماتيلدا" الإنكليزية و"الشار بي-1" الفرنسية في الحالة الثانية.

أثبت كلٌّ من الاستخدام الألماني لما سمّته الصحافة الغربية "حرب البرق" (Blitzkrieg) (عَلِم الألمان بالتسمية منها) والاستخدام السوفياتي لتكتيكات "المعركة العميقة" (Deep battle) أن الاستخدام المستقلّ للدبابات، بالتوازي مع مجموعات المشاة المدولبة أو الممكننة، هو الاستخدام الأكثر فاعليّة لقدرات هذا السلاح في الحرب.

بعد الحرب، ومن دون الدخول في تفاصيلها، طبعت هذه الذاكرة والدروس المستخلصة منها استخدام كلّ من القوّتين العظميين اللاحقتين، الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية، وقامت بقولبتها بناءً على تجربة كلّ منها؛ ففي حين استخدم السوفيات المدفعيّة بشكل تمهيدي بشكل هائل لفتح ثغرات في خطوط العدّو تمهيداً لخرقها على الجبهة الشرقيّة، استخدم الأميركيون الدبابة بشكل "اقتصادي" أكثر مع المشاة المتحرّكة، وركّزوا على أيضاً على النيران المساندة في العمليّات الحربيّة باستخدام سلاحي الجوّ والمدفعيّة، بالتوازي مع القوّات المتحرّكة نفسها.

سنرى لاحقاً كيف أثّرت كلّ من هاتين المدرستين في أداء القوات العربية والصهيونية في حرب العام 1973 التحريرية، كلّ بحسب من وفّر له السلاح في وقتها.

الدبابات.. حروب العرب في القرن العشرين

كان استخدام هذا السلاح محدوداً جداً في حرب العام 1948 لدى كلّ من القوات الصهيونية والجيوش العربيّة التي شاركت في المعركة. وكانت القوّتان العربيتان اللتان وضعتاه في أرض المعركة هما سوريا ومصر. في الجانب السوريّ، كان الجيش السوري الفتيّ يملك عدداً قليلاً من دبابات "الرينو إر-35" الفرنسيّة الخفيفة، وهي دبابة خفيفة وبطيئة في آن، بقدرة ناريّة محدودة ودرع متواضعة، على الرغم من عدم وجود دبابات صهيونيّة مقابلة، إلا أن بعضها تعرّض للتدمير باستخدام قنابل المولوتوف وقاذفات قنابل من طراز "بيات" (PIAT)، بعد محاصرتها إلى جانب بحيرة طبريّا.

جنوباً، كانت مصر تملك عدداً من دبابات "ماتيلدا" المدرّعة بشكل جيّد كماً، وعدداً أكبر من دبابات "الفيكرز" الخفيفة المزوّدة برشاشات. أيضاً، لم توفّق هذه الدبابات في القيام بدور مهمّ في المعركة، وليس هناك العديد من التفاصيل حول استخدام المصريين لها. يظهر من مذكّرات الرئيس الراحل جمال عبد الناصر أن الفوضى وانعدام الكفاءة العسكريّة كانا سائدين في المعسكر المصريّ، فالتنسيق كان شبه غائب، وعمليّات الأسلحة المشتركة (Combined arms) كانت محدودة جداً. ولا يمكننا إلا أن نتخيّل أن هذا الأمر انعكس على استخدام الدبابات نفسها. 

سوف ننتقل مباشرة إلى حرب العام 1973 التي تضمّ نماذج لمعارك واستخدام دبّابات جديرة بالذكر أكثر من نكسة العام 1967. في عرض لأنواع الأسلحة المستخدمة، استخدمت كلّ من مصر وسوريا دبابات "تي-55" و"تي-62" السوفياتية؛ الأولى تملك مدفعاً محلزناً من عيار 100 ملم، والأخرى مدفعاً أملس السبطانة من عيار 115 ملم، مكَّنها من إطلاق قذائف ذات قدرة اختراق أكبر. 

هذه الدبابات لم تكن سيّئة من أيّ معيار يُذكر موضوعياً، كما يحلو للصهاينة والأميركيين الترويج، في محاولة للتقليل من فاعلية العتاد السوفياتي، وبكلمات الرئيس الأميركي نيكسون نفسه الذي قال إنه "يجب إفهام العالم أن السلاح السوفياتي لا يفوز بالحروب"، ولكنّها، كما في الحرب العالميّة الثانية، بُنيت حول العقيدة السوفياتية العسكرية ومتطلّباتها. 

المثال على ذلك كان محدوديّة زاوية الانخفاض لمدفع الـ"تي-62". الموضوع لن يؤثّر في أرض سهليّة، كما في أوروبا الوسطى التي كان السوفيات يخططون لشنّ المعركة فيها، بقدر ما سيؤثّر في الجولان الهضبيّة مثلاً، إلا أن كلّاً من قدرتها النارية ودرعها وحركيّتها كانت جيّدة بحسب متطلّبات العصر.

 في المقلب الآخر، كان الإسرائيليون يمتلكون مروحة من دبابات الميدان الغربيّة الصنع، ومنها "السنتوريون" البريطانيّة التي زوّدها الصهاينة بمدفع 105 الممتاز، ودبابتا الـ"إم-48" والـ"إم-60" الأميركيتان (ما زال الجيش اللبناني يشغّلهما).

 كانت كلّ من هذه النماذج (ما عدا الـ"إم-48") أفضل بشكل موضوعيّ من الـ"تي-55" الأقدم منها، بينما شكّلت نداً مكافئاً للـ"تي-62". بعيداً من الشرح التقنيّ، إذ إنه ليس العامل الوحيد الذي يحقق الفوز بالحروب، تعرّضت الدبابات الصّهيونيّة لمجزرة بالمعنى الحرفي للكلمة، عندما حاولت القيام بالهجوم المضادّ على التحصينات التي أقامها المصريون بعد عبور قناة السويس، والتي ضمّت مدافع مباشرة؛ مدافع عديمة الارتداد، وأهم هذه الأسلحة: مشاة مسلحون بصواريخ موجّهة من طراز "مالوتكا" أو "ساغر" الشهيرة، والَّتي ستستخدمها المقاومة لاحقاً بكثافة أثناء فترة الاحتلال الصّهيوني. 

عندما خرجت الدبابات المصريّة لتقوم بالهجوم غير المحسوب باتجاه التضاريس المرتفعة داخل سيناء، تعرّضت لنيران مكثّفة من سلاح الجوّ الصهيوني، بعد أن خرجت من مظلّة الدفاع الجوّي بجانب القناة، كما تعرضت أيضاً لرمايات دقيقة من مدافع الدبابات الإسرائيلية من مواقع محصّنة أعلى منها على التلال المشرفة على محور الهجوم، فكانت خسائر المصريين الذين قاموا بمعركة بطولية أكبر منها من خسائر الصهاينة المتمترسين على التلال، الأمر الذي منحهم القدرة على الرماية من مسافة أكبر من موقع محمي البدن (Hull down)، ولكن في معارك متكافئة الظروف نوعاً ما، كما معركة المزرعة الصينيّة، والتي مهّدت لما سمّي لاحقاً بثغرة "الدفرسوار"، أبلت الكتائب المدرّعة المصريّة بلاءً حسناً، وتمكّنت من أن تكون نداً موازياً للدبابات الصهيونية. تمكّن الصهاينة لاحقاً من السيطرة على تقاطع الطرق، مخلّفين خلفهم جثث مئات القتلى وعشرات الدبابات المحترقة من طراز "إم 48" و"إم 60" بشكل خاصّ.

على الجبهة السوريّة، كان الهجوم أصعب بمرّات للألوية المدرعة السورية، نظراً إلى أن الجيش السوري كان كمن يصدم جداراً طوبوغرافياً متمثلاً بهضبة الجولان. كان هذا الجدار معزّزاً بالمتاريس المدرّعة، ومرابض الدبابات المحصّنة، وحقول الألغام، والخنادق المضادّة للدبابات. تفاوت نجاح محاولات الاختراق السورية، وكانت أفضلها في الجنوب، في حين أن الوسط والشمال واجها العديد من المشاكل. 

إحدى أعنف المعارك التي شهدتها تلك الجبهة كانت معركة "تلّ المخافي" أو معركة "وادي الدموع"، كما يسمّيها الإسرائيليون. كان النجاح فيها ليمنح السوريين الإطلالة على الداخل المحتلّ وكل مستوطنات بحيرة طبريا. وقد تواجه فيها فرقة مشاة سوريّة (لا يخدعنّكم الاسم، ففرق المشاة كانت معزّزة بعدد كبير من الدبابات) ولواء مدرّعاً إسرائيلياً هو اللواء السابع. 

بعد 4 أيام من المعارك الطاحنة، كان الإسرائيليون يطلقون نيران مدافعهم من مواقع ذات أفضليّة توقف تقدّم الفرقة السوريّة بعد تعرضها لخسائر كبيرة. كانت جبهة الجولان ذات أهمية استثنائية للكيان الصهيوني تفوق في أهميّتها سيناء، وذلك لقربها من العمق الاستراتيجي للكيان، ما دفعه إلى فرز القسم الأكبر من سلاح الجوّ، في محاولة لإيقاف التقدّم السوري.

على الرغم من ذلك، تخلّل التقدّم السوري العديد من الثغرات، فبحسب كينيث بولاك، الباحث العسكري الأميركي، في كتابه "العرب في الحرب"، لم يحاول السوريون البحث عن طريق آخر أو تأمين أجنحتهم قبل التقدّم، فيما يذهب المؤرّخ الإسرائيلي مارتن فان كريفلد إلى القول إنَّ الإسرائيليين هدّدوا سوريا بهجوم نووي لردعهم عن كسر ما تبقّى من اللواء السابع الإسرائيلي، وهو مؤلف من 12 دبّابة فقط لا غير. هناك العديد من النظريّات التي تتناول سبب التراجع السوريّ في هذه المعركة، نظراً إلى أنَّ الموضوع لم يتمّ حسمه حتى الآن. 

كان استخدام السوريين، كما السوفيات، للمدفعية أو الإسناد الناري غير المباشر محدوداً في أغلب الأحيان عندما يتمّ اختراق الدفاعات، إذ عمل الجيش السوري على خلق العديد من الجيوب خلفه، والاستمرار في التقدم حولها، بعد أن تركها لتشكيلات عسكريّة أخرى تولّت عمليّة التنظيف، وهو أمر حسن، كما أنه لبّ نظريّة المعركة العميقة. 

أما مشكلتها في هذه الحالة، فتتمثل في أنَّ محاور التقدّم تكون محدودة في عارض جغرافي كهذا، وتكون معرّضة لأن تصبح نقاط مقتل مغلقة، يكون الالتفاف حولها صعباً. في المرات التي ساندت فيها المدفعية السورية نسق الدبابات المتقدّم، تسبَّب ذلك بأضرار بالغة لقادة الدبابات للإسرائيليين الذين كانوا يقاتلون بـ"كوّة مفتوحة" تمنح مجالاً أكبر من الرؤية، ولكنّ تنسيق عملٍ دقيق كهذا بشكل سريع، يتطلّب تغيير الطريقة التي يقاتل بها الجيش إلى طريقة أقرب إلى مثيله الأميركي أو الإسرائيلي. من ناحية أخرى، في حال وصول السوريين إلى المرحلة الأخيرة من "المعركة العميقة"، فعلى الأرجح أن نتيجة المعركة كانت لتتغيّر بشكل كبير، وتغيّر وجه المنطقة معها. 

في مواجهة محوريّة، أثبت الجيش السوري قدرته على مواجهة المدرّعات والدبابات الإسرائيلية خلال اجتياح العدوّ لبنان في العام 1982، في معركة السلطان يعقوب، إذ باغت السوريون رتلاً مدرّعاً إسرائيلياً، ودمّروا وأعطبوا منه 10 دبابات باستخدام تكتيكات استفادت في هذه الحالة من طبيعة المنطقة الجغرافية. كان في ذلك جزء من ردّ الاعتبار.

تمّوز و"الميركافا"

"الميركافا" أو "العربة" هي دبابة اتخذ قرار تصميمها في كيان العدوّ بعد استخلاص العبر من حرب العام 1973. يطيب للإسرائيليين أن يقولوا إنَّها تصميم أصيل، رغم أنَّ العديد من قطع نماذجها الأوليّة، يعدّ إما نسخاً مرخّصة من شركات غربيّة، وإما مستوردة بشكل مباشر من الخارج، كالمحرّك الألماني والمدفع البريطاني.

للدبابة 4 طرازات حالياً، يتفوّق الثاني على الأوّل بعدّة التصويب والمناظير، من دون تغيير عيار مدفع الـ105 ملم والتدريع بشكل عام. يمكننا ضمّ الطرازين الثالث والرابع إلى العائلة نفسها تقريباً، وهي النماذج التي شهدت تعديلات وتحسينات جذريّة بمدفع جديد من عيار 120 ملم، ومناظير حراريّة، ومحرك جديد أقوى، ودروع مركّبة مصمّمة للتعامل تحديداً مع القذائف المجوّفة، أي تلك الخاصة بصواريخ ضد الدروع الموجّهة أو مقذوفات "الآر بي جي" على أنواعها. لتقريب الفكرة، إن ما نراه من البرج في النماذج الحديثة ليس البرج الحقيقي، بل هو معزّز بما يشبه الأجنحة التي تحوي دروعاً مركّبة ذات تصميم سرّي، وهي ما يعطيه هذا الشكل البيضاويّ المميّز.

مما لا يعلمه الكثيرون أنَّ "جيش" العدوّ لم يزجّ دبابات "الميركافا 4" في حرب تمّوز فحسب، بل استخدم العديد من النماذج الأكثر قدماً أيضاً، مثل "الميركافا 2" و"الميركافا 3" التي لم تزل في الخدمة العسكريّة حتى يومنا هذا، وبعض دبابات "الماغاش" (Magach 6&7) المعدّلة عن دبابات الـ"إم 60"، والتي أضيف إليها العديد من الدروع وأنظمة التصويب وغيرها من التحديثات.

المشترك بين هذه النماذج أنَّها عانت بشكل متساوٍ أمام الترسانة الواسعة التي امتلكتها المقاومة، من الصواريخ إلى العبوات الناسفة. من جهة أخرى، إنَّ أغلب الرمايات المضادة للدروع التي نفّذتها المقاومة لم تكن، كما هو معروف، بصواريخ "الكورنيت".

فاق عدد الصواريخ المطلقة، بحسب الصهاينة، ألف صاروخ مضاد للدروع، جلّها من صواريخ "مالوتكا" أو "ساغر" التي دمّرت دبابات العدو في العام 1973. المختلف هنا في معظم الخسائر البشريَّة التي أحدثتها هذه الصواريخ تحديداً كانت في استخدامها ضد المشاة، وليس ضد الدبابات نفسها.

لم تكن الحرب المضادة للدبابات ببساطة "صوّب وأطلق النار" وستنفجر الدبابة. "الميركافا" بأجيالها المختلفة دبّابة عنيدة للغاية، والإسرائيليون صمَّموها لتكون كذلك تحديداً. يقع محرّك الدبابة في المقدّمة بخلاف كلّ دبابات العالم، لتوفير حماية إضافية للطاقم، كما أنَّ "الميركافا 4" تملك إضافات في بدنها تمكّنها من صدّ الألغام البدائية ضد الدبابات. 

هناك دبابة، بحسب الإسرائيليين أنفسهم، تعرَضت لهجوم بـ16 صاروخاً متتابعاً، قبل أن تتعطَّل ويجرح طاقمها، والـ"كورنيت"، وإن اخترقها، فلن يحرقها بالضرورة ما لم يضرب فيها عنصراً حساساً، كالذخيرة المحميّة جيداً في خلفها، وقد يجرح الطاقم لا غير، ويُقتل واحد منهم لا غير.

 لم تكن هذه الرمايات ذات ضرر ماديّ مباشر فقط، بل إنها دفعت "الجيش" الإسرائيلي أيضاً إلى حصر نقل التموين والجنود بمدرّعات مصفّحة تملك احتمالاً أكبر لأن تصدّ مقذوفات كهذه، كالـ"أخزاريت" والـ"بوما" التي لم تسلم منها لاحقاً، ما حدّ من عمليّة تموين القوّات في العديد من المناسبات.

إنَّ الهدف من الفقرة الأخيرة ليس سلب البطولة من رجال المقاومة وطواقم الهندسة ورماة الدروع، معاذ الله، بل على العكس تماماً، تعظيم الإنجازات التي قاموا بها، من تفجير دبابة الـ"ميركافا 4" في 12 تموز/يوليو بعبوة ناسفة هائلة الحجم، أطاحت برجها لمسافة 136 متراً، إلى حرق أرتال المدرّعات في وادي الحجير وسهل الخيام، كما حول بنت جبيل وفي عيتا الشعب، إذ كانت المواجهات من بيت إلى بيت ومن غرفة إلى غرفة.

 في حادثة طريفة كنت قد سردتها في مقال سابق، يرويها عوفر شيلح ويوآف ليمور بشكل أوضح في كتابهما "أسرى في لبنان" عن عمليّة تشكيل "عمود النار" في سهل الخيام ومرجعيون، طلب أحد قادة الكتائب من قائد التشكيل إيرز تسوكرمان إعفاءه من مهامه، لأنه ليس أهلاً لقيادة الكتيبة. كان الخوف الذي اعترى التشكيل من بضع رمايات أصابت دبابتي "ميركافا" ورتلاً مدرّعاً، بعد أن علقت في داخل أحد العوائق الطبيعية، كفيلاً بإفشال الهجوم وإلغاء العمليّة. 

لا أعتقد أنَّ توصيف الكاتبين بأن تشكيل "عمود النار" هزم نفسه خلال 24 ساعة يوفي المقاومين حقّهم، ولكن لا شكَّ في أنه توصيف طريف. يصف الكاتب والباحث الإسرائيلي أوري بار-يوسف هذه المواجهة بأنها واحدة "من أكثر العمليات إذلالاً في تاريخ الجيش الإسرائيلي".

أصبحت تشكيلات المدرّعات الإسرائيلية ضمن استراتيجية الهجوم السريع والتطويق التي لطالما طبّقها "جيش العدو" ضمن جنوب لبنان نفسه بطبيعته الجغرافية مستحيلة في حرب تمّوز. كان الإسرائيليون يملكون ثقة كبيرة، إلى درجة أنهم لم يتعبوا أنفسهم بتغيير محاور التقدّم التقليدية التي دخلوا فيها في اجتياحي العام 1978 والعام 1982.

 في مواجهة وادي الحجير الذي كان أيضاً محور تقدّم تقليدياً للجيش الصهيوني لقطع الجنوب، تعرّضت دبابات الصهاينة لرمايات بالـ"كورنيت" بشكل أساسي، وأتت النيران حتى من العديسة نفسها التي ظنّوا أنهم قاموا بـ"تطهيرها" في فترة سابقة. أُحرقت وأُعبطت العديد من دباباتهم، حتى إنَّ قائدي سريّتي دبابات قتلا في هذه المواجهة وحدها ضمن 8 أفراد طواقم دبابات، بحسب اعتراف العدوّ.

لم تنجح الدبّابة في أن تكون سنداً للجنود بدرعها وقوّتها الناريّة، كما في عيتا الشعب، إذ أُحرقت دبابة حاولت التقدّم مع المشاة بصاروخ "آر بي جي-29" محمول على الكتف، وعندما حاولت أرتال المدرّعات التقدّم بنفسها، كما في سهل الخيام ووادي الحجير، إذ تحوّلت، مثل الجنود، إلى عالة، بالمعنى العسكري، فغدت عمليّاتها الهجوميّة عمليات إخلاء تشكل مدخلاً للمزيد من الخسائر.

خاتمة 

شهدت ألوية العدو المدرعة عمليّة تحديث مكثّفة في السنوات التي تلت حرب تموز/يوليو، فقد أخرجت كل الدبابات القديمة من ترسانتها، وأبقت على "الميركافا 3 و4"، فضلاً عن أنها قامت بتسليح الأخيرة بمنظومة دفاع حيّ من طراز "تروفي"، ليصبح اسم دبابة "ميركافا 4" "كاسرة الريح". 

قد يكون لنا حديث مفصّل عن منظومة الـ"تروفي" في أحد المقالات القادمة من غير شكّ، إلا أنَّ المفارقة هنا أنّ الإسرائيلي يطرح نفسه دائماً كمفكّر من خارج الصندوق، يأتي دوماً بالحلول العبقريّة، وهو يطرح كل التعديلات التي قام بها سلاح المدرّعات كعامل كاسر للتوازن سوف يمنع دبابته من أن تحرق بالشكل الذي تمّ تصويرها به.

يصعب من جهة أخرى، بسبب طبيعتها السريّة، التنبؤ بما تخفيه المقاومة في جعبتها من أسلحة مضادة، ولكن لنتناسَ أنَّ أعداد الـ"كورنيت" مثلاً تضاعفت مرّات عديدة، مثل المقاومين منذ حرب تموز، ولنتجاهل كلّ ما نتكهّن به ولا نعرفه عن تقنيّات المقاومة التي تعمل على توسيع مروحة الحلول المضادة لسلاح المدرعات. فلننس كلّ ذلك، في الأصل في حرب تموز/يوليو كانت الدبابات تتعرَّض لأكثر من رماية قبل أن تعطب، ولنتذكّر هنا أن لـ"التروفي" 3 طلقات حماية جاهزة عند كلّ جانب، وللمقاومة أضعاف ما كان تملك من القاذفات والرماة، ولكن هل يملك الإسرائيلي أضعاف الدبابات في الحرب المقبلة؟ علماً أننا لم نبدأ بذكر الحلول التقنيّة بعد!

إنَّ الدبابة كمعزّز لروحية الجنود، متى ما قاتلت إلى جانبهم، قد تتحول إلى وبال على معنوياتهم عندما تُدمر. لا يمكننا على الرغم من ذلك أن ننفي دورها، ولكنّها، مثل باقي الأسلحة، تمتلك نقاط قوّة وضعف.

وبعد أن كانت الـ"سنتوريون" والـ"إم-60" رمزاً للجبروت الصهيوني على "العرب الذين لا يجيدون الحرب"، كما يحلو للعدو التوصيف، أصبحت هزيمة "الميركافا" رمزاً لعبقريّة هذا العربي الراجل، متى ما وجد قوّته العقليّة والروحيّة قبل الماديّة، وقرّر أن يتحدى هذا الصندوق الحديدي بمن فيه، ويهشّمه كما فعل بالقيود التي كبّلت صورته عن نفسه.

الهوامش:

1- Liban: israël humilié face au Hezbollah 2/2 - Reportage