اليونان وقبرص تواجهان أنقرة.. تَرْكة الماضي وتحدّيات المستقبل

على الرغم من بذور الخلافات المُتجذّرة في التاريخ بين قبرص واليونان من جهة، وتركيا من جهةٍ أخرى، على خلفيّة ملفات عدَّة، من بينها تقسيم قبرص وجُزر بحر إيجة، فإنَّ الخلافات بين الجانبين تجدَّدت عقب اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر وقبرص في العام 2013.

  • اليونان وقبرص تواجهان أنقرة.. تَرْكة الماضي وتحدّيات المستقبل
    التحديات التي تواجهها اليونان وقبرص ترتفع في الآونة الأخيرة

تزايدت في الأشهر الأخيرة التحدّيات التي تواجهها اليونان وقبرص اليونانية على مستوى محيطهما الإقليمي، وخصوصاً تركيا، التي ترتبط معهما بعلاقاتٍ عدائيةٍ تمتدّ جذورها إلى الحقبة العثمانية.

وقد وصلا من خلال التطوّرات الإقليميّة الأخيرة شرقي البحر المتوسّط إلى قناعةٍ مفادها أنَّ الاستعداد للمواجهة العسكرية مع تركيا، ربما تكون الاختيار الأنسَب والأقرَب، في ظلّ تصاعُد التوتّر في المنطقة وغياب أية آفاق للتهدئة مع أنقرة، التي تستغلّ كلّ الفُرَص المُتاحة من أجل تصعيد التوتّر معهما.

شرارة الاشتعال الجديد

  • اليونان وقبرص تواجهان أنقرة.. تَرْكة الماضي وتحدّيات المستقبل
    تجددت الخلافات بين اليونان وقبرص عقب اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر وقبرص في العام 2013

على الرغم من بذور الخلافات المُتجذّرة في التاريخ بين قبرص واليونان من جهة، وتركيا من جهةٍ أخرى، على خلفيّة ملفات عدَّة، من بينها تقسيم قبرص وجُزر بحر إيجة، فإنَّ الخلافات بين الجانبين تجدَّدت عقب اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر وقبرص في العام 2013، والتي اعترضت عليها أنقرة بشدّة، لكونها الدولة الوحيدة التي تعترف بما يُسمَّى "جمهورية شمال قبرص"، وترى أن لها حقوقاً في مياه إقليمية واقتصادية مُنفصِلة عن بقيّة أراضي قبرص. 

منذ ذلك التوقيت، بدأت أنقرة بزيادة عديد قوّاتها ومعدَّاتها العسكرية في شمال قبرص، وبدأت في آذار/مارس الماضي بعمليات البحث والتنقيب عن الغاز في المنطقة الاقتصادية القبرصية، سواء في المناطق الشرقية أو الشمالية أو الغربية للجزيرة، بشكلٍ ينتهك المياه الاقتصادية القبرصية. 

وقد كانت ذريعة أنقرة في عمليات التنقيب الادّعاء بأنَّ لها حقوقاً في القطاعات الأولى والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة من قطاعات المنطقة الاقتصادية المُعلَنة من جانب قبرص اليونانية، وأضافت إلى ذلك المنطقة الاقتصادية التي أعلنتها قبرص التركية، والتي تتضمَّن 7 قطاعات تقع ضمن المنطقة الاقتصادية التابعة لقبرص اليونانيّة. 

وقد واكب عمليات البحث والتنقيب التركية عددٌ من القِطَع البحرية التابعة لسلاح البحرية التركي.

قبرص تواجه التهديد باللجوء إلى الإقليم

  • اليونان وقبرص تواجهان أنقرة.. تَرْكة الماضي وتحدّيات المستقبل
    .

استشعرت كلّ من مصر وقبرص من خلال ردود الفعل التركية على ترسيم الحدود بينهما، أنَّ أنقرة ستتّخذ من الآن فصاعِداً منحى تصعيدياً في تعامُلها مع ملف شرقي المتوسّط، فدشّن البلدان، بمعيّة اليونان، اجتماع قمّة عُقِد للمرة الأولى في تشرين الثاني/نوفمبر 2014، ليصبح اجتماعاً دورياً يُعقَد كلّ عام، تُضاف إليه اجتماعات مشتركة بين وزراء دفاع الدول الثلاث، تتمّ على هامش مُناورات "ميدوزا" الجوية والبحرية المشتركة بينهم، والتي باتت تقليداً سنوياً وضعت من خلالها كل من اليونان وقبرص يدهما على مواطِن القوّة والضعف العسكرية لديهما.

وكان ذلك من الأسباب الأساسيّة لموجة التحديث التسليحي التي بدأت مؤخّراً ضمن تشكيلاتهما العسكرية، وخصوصاً في جانب القوَّة البحرية، بعد أن قامت البحرية التركية عدَّة مرات خلال السنوات الماضية بمَنْعِ سفن التنقيب التابعة للشركات الأميركية والإيطالية من التنقيب عن الغاز شرق جزيرة قبرص.

اختراقات تركيا للسيادة اليونانية.. عرض مستمرّ

من جانبها، كانت اليونان مُتوجِّسة من الخطوات التركية، ولا سيما أنَّ انتهاكاتها الجوية والبحرية للأجواء والمياه اليونانية كانت شبه يومية على مدار السنوات الماضية، وهو ما شكَّل ضغطاً مستمراً على حكومة أثينا، وكذلك الجيش اليوناني، الذي يستنفر مُقاتلات سلاحه الجوي بشكلٍ يومي لاعتراض المُقاتلات التركية، وهو ما يتسبَّب في توتّرٍ مستمر ينعكس على الجهوزيّة الفنية والاستعداد القِتالي لسلاح الجو اليوناني، ويضعف المعنويات بصورةٍ تدريجية، نتيجة عدم وجود قوَّة ردع كافية لدى الجيش اليوناني لثني أنقرة عن هذه الاختراقات التي تتمّ تحت عنوان الخلاف القديم بين البلدين على ملكيَّة جزر بحر إيجة، التي تدَّعى أنقرة ملكيَّة 18 جزيرة منها.

جاء الردّ التركيّ على ترسيم الحدود البحريّة بين مصر وقبرص مُتأخّراً بعض الشيء، ولكنه أعاد خَلْط الأوراق شرقي المتوسّط، حين وقَّعت أنقرة مُذكّرتي تفاهُم مع حكومة "الوفاق" في طرابلس في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي؛ إحداهما أمنية وعسكريَّة، والأخرى تتعلَّق بترسيم الحدود البحريَّة بينهما.

وقد شكَّلت المُذكّرتان عامِل قلق وتوتّر لأثينا، وخصوصاً أنَّ ترسيم الحدود البحرية بين أنقرة وطرابلس ينتهك مياهها الاقتصادية، ويُشكّل تهديداً لأيّة محاولةٍ من جانبها لترسيم الحدود البحريّة بينها وبين مصر.

وقد تأكّدت مخاوِف أثينا عقب بدء سفينة التنقيب التركية "بارباروس" بعمليات التنقيب عن الغاز شرق جزيرة كريت، في كانون الأول/ديسمبر الماضي.

اليونان تتحرَّك لحماية مصالحها 

  • اليونان وقبرص تواجهان أنقرة.. تَرْكة الماضي وتحدّيات المستقبل
    تم توقيع اتفاقية إنشاء خطّ غاز "إيست ميد" الذي يبلغ طوله ألفي كيلومتر  في 2020

كنتيجةٍ مباشرةٍ للخطوة التركية ومن بين جملة أسباب ودوافع، سرَّعت أثينا وقبرص مفاوضاتهما مع "إسرائيل" حول مشروع خطّ غاز "إيست ميد"، الذي سينقل غاز شرقي المتوسّط إلى إيطاليا وجنوب شرق أوروبا.

وبالفعل، تمَّ في الأيام الأولى من العام الجاري توقيع اتفاقية إنشاء الخطّ الذي يبلغ طوله ألفي كيلومتر، ومن المُتوقّع أن ينقل ما يصل إلى 11 مليار متر مكعّب من الغاز سنوياً إلى إيطاليا. 

إنَّ توقيع اتفاقيَّة إنشاء الخطّ، وقبلها توقيع أنقرة وطرابلس مُذكّرة ترسيم الحدود البحرية بينهما، يضعان جميع هذه الأطراف في مواجهة بعضها البعض، نظراً إلى اعتراض أنقرة على هذا المشروع، ولأنَّ إجهاضه كان من أهم أسباب توقيعها مذكّرتي التفاهُم مع حكومة طرابلس.

استعداداً لمواجهة عسكرية مقبلة مع أنقرة

  • اليونان وقبرص تواجهان أنقرة.. تَرْكة الماضي وتحدّيات المستقبل
    تتفاوض البحريّة اليونانيّة خلال هذه الفترة على عددٍ من القِطَع البحرية لتعزيز وحداتها

مؤخّراً، بدأت كلّ من قبرص واليونان الاستعداد على المستوى العسكري لاحتمال التصادُم المُستقبلي مع أنقرة بشأن عمليات إنشاء خط "إيست ميد". هذه الاستعدادات تمَّت في اتجاهين؛ الأول عبر سلسلة من التدريبات العسكرية المُتنوِّعة مع عدَّة دولٍ أوروبية، منها فرنسا، التي أرسلت مؤخّراً حامِلة الطائرات "شارل ديغول"، تُصاحبها سفن دعم مُتنوِّعة، منها سفينة هجوم برمائي من الفئة "ميسترال". وقد نفَّذت هذه القِطَع، بالاشتراك مع الفرقاطات اليونانيّة، تدريبات بحرية وجوية مُكثّفة في بحر إيجة. 

وفي هذا الصَدَد، تُراهِن أثينا على باريس، نظراً إلى تطابُق وجهات النظر بين البلدين في موضوع شرقي المتوسّط، وتضرّر الشركات النفطية الفرنسية من عرقلة تركيا عمليات التنقيب حول قبرص. كذلك، شارك مؤخّراً الجيش اليوناني في تمرينٍ مُشتَركٍ في بحر إيجة مع مُشاة البحرية الأميركية والفرنسية.

تلقَّت العلاقات العسكرية بين اليونان والولايات المتحدة خلال الأسابيع الماضية دفعة قوية، فقد لبَّت أثينا طلباً أميركياً بإرسال منظومات صواريخ الدفاع الجوي والصاروخي "باتريوت" إلى المملكة العربية السعودية، وذلك في خطوةٍ لاقت انتقادات داخلية في اليونان، لكنَّها ضمنت لأثينا تطوير علاقاتها مع الرياض، وكذلك ضمان علاقات عسكرية أفضل على المستوى المرحلي مع واشنطن، ذلك أن اليونان ترغب في شراء المُقاتلات الأميركية الأحدث "أف 35".

وقد زار رئيس الوزراء اليوناني واشنطن في كانون الثاني/يناير الماضي خصيصاً لهذا الغَرَض. والجدير بالذِكر هنا أنّ سلاح الجو الأميركي يبحث استثمار ملايين الدولارات في منشأة في قاعدتيّ "لاريسا" و"سودا" الجويّتين في اليونان.

تتفاوض البحريّة اليونانيّة خلال هذه الفترة على عددٍ من القِطَع البحرية لتعزيز وحداتها. وقد وقَّع حرس السواحل اليوناني، أواخر شهر يناير/كانون الثاني الماضي، عقداً من ترسانة "فابيو بوزي" الإيطاليّة، لبناء وشراء 15 زورق دورية سريعاً من نوع "أف بي 56". كما تتفاوض البحريّة اليونانيّة مع فرنسا لشراء فرقاطتين لدعم سلاحها البحريّ.

  • اليونان وقبرص تواجهان أنقرة.. تَرْكة الماضي وتحدّيات المستقبل
     تركِّز قبرص حالياً على تحديث الدفاع الجويّ والساحليّ

بالنسبة إلى قبرص، فقد نفَّذت فرنسا مؤخّراً مع قوات الحرس الوطني القبرصية مُناورات للدفاع الجوي، شاركت فيها مُقاتلات "رافال" الفرنسية. كذلك، نفَّذت البحرية الإيطالية تمريناً عابِراً مع القوات الخاصّة البحريّة القبرصيّة.

على مستوى الصّفقات العسكريّة، تركِّز قبرص حالياً على تحديث الدفاع الجويّ والساحليّ. وقد طلبت بالفعل من فرنسا تزويدها بصواريخ سطح- جو من نوع "ميسترال"، لتزويد زوارق الدورية السريعة التي تمتلكها بها، من أجل تشكيل تهديد للنشاط الجوّي التركي في شمال قبرص، وخصوصاً المروحيات والطائرات المُسيَّرة.

كما طلبت قبرص من فرنسا تحديث بطاريّاتها للدفاع الساحليّ الصاروخيّ من نوع "إكزوسيت"، بحيث يتراوح مداها المؤثّر بين 70 كلم و180 كلم، وهو، إن حدث، سيُمثّل قُدرة رَدْع كبيرة ضد النشاط البحري التركي حول الجزيرة.