"حلم جورجيا" بين روسيا والغرب

الإنتخابات البرلمانية الجورجية تطرح تساؤلات مهمة حول التغييرات التي قد تحدثها، خاصةً تلك المتعلقة بالعلاقات مع كل من روسيا والغرب.

من جماهير إئتلاف "حلم جورجيا"

أعادت الإنتخابات التشريعية التي جرت في جورجيا بداية تشرين أول-أكتوبر الحالي طرح تساؤلات جديدة حول موقع تبليسي وموقفها من القضايا المفتوحة في القوقاز، وأهمها أنابيب النفط الممتدة من وسط آسيا إلى أوروبا، وتوسع حلف شمال الأطلسي حول حدود روسيا، فضلاً التنافس بين روسيا التي تسعى إلى استعادة تحالفاتها في محيطها القريب، والولايات المتحدة التي لم تمسك عن تقديم الإغراءات لتحفيز الدول السوفياتية السابقة على السير في ركب سياساتها.

لقد شكل ملف العلاقة مع موسكو ورقة مهمة في الحملات الإنتخابية لزعيمي الموالاة والمعارضة في الإنتخابات، حيث اتهم زعيم ائتلاف المعارضة "حلم جورجيا" بيدزينا إيفانشفيلي، الرئيس ميخائيل ساكاشفيلي بإقحام البلاد في حرب مع روسيا أدت إلى خسارة إقليمي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا. ومن جهته لم يتوقف ساكاشفيلي زعيم "الحركة الوطنية الموحدة" عن اتهام خصمه بجني ثروته من روسيا خلال التسعينيات من القرن الماضي، إلى حد اعتباره موالياً للروس.

ومنطقة القوقاز التي تشكل حاجزاً جبلياً كبيراً بين أوروبا وآسيا، تمثل بالنسبة لروسيا أهمية كبرى مستمرة على المستوى الجيو-استراتيجي، منذ "حروب القوقاز"، والصراعات القديمة بين الحضارات الفارسية والتركية والروسية للسيطرة عليها، وقد تحولت المنطقة إلى حديقة خلفية للروس الذين تمكنوا من السيطرة عليها بعد حروب ضارية.

خطأ ساكاشفيلي القاتل

من هذا المنطلق، فإن قراءة أبعاد نتائج الإنتخابات البرلمانية الجورجية لا يمكن أن يكتمل بمعزلٍ عن التمعن في مسار الحياة السياسية في جورجيا، منذ "ثورة الورود" التي قادها ساكاشفيلي عام 2003 ضد الرئيس السابق إدوارد شيفرنادزه الذي كان يوصف بأنه مقرب من موسكو. لقد حصد ساكاشفيلي نسبة كبيرة من أصوات الناخبين وصل بها إلى الرئاسة عام 2004، وحصل على أغلبية أقل في إنتخابات عام 2008، قبل أن يزج بجيش بلاده الذي لا يتجاوز عديده 11 ألف جندي، في أتون حرب مع روسيا بجيشها المهول.

لقد أدت حرب جورجيا عام 2008 إلى إحداث صدمة لدى الجورجيين الذين لم يتوقعوا أن يكون الرد الروسي على اجتياح ساكاشفيلي لأوسيتيا الجنوبية قاسياً وسريعاً بهذه الدرجة، حتى أن الخطوة الروسية جاءت مفاجئة لمعظم المحللين الذين تابعوا أحداث الأيام الخمسة التي قضى فيها الجيش الروسي على مقاومة الجورجيين المتواضعة. وحين تبين حجم المأزق الذي وقع فيه الرئيس الموالي للغرب، لم تسارع واشنطن إلى نجدته بل تركته لمصيره تماماً كما تركت قبله حليفها محمد رضا بهلوي، وبعده حسني مبارك، وقد أبدى الرئيس الجورجي خيبته من رد الفعل الأميركي الخجول على تدخل الروس ووصولهم إلى نقطة لا تبعد أكثر من 30 كيلومتراً عن تبليسي. وحينما تحرك الأوروبيون لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، تم التوصل إلى اتفاق مع الروس أفضى إلى وقف إطلاق النار، وحماية رأس الدولة الجورجية.

كثيرة هي التساؤلات التي طرحت حول الرجل بعد تلك الحرب، حيث دارت التحليلات التي تقول إنه لا يتمتع بالخبرة الكافية في مثل تلك الظروف، أو انه مغامر بدرجة غير مقبولة. وبالرغم من ذهاب البعض إلى تأكيد أن قراره بمهاجمة أوسيتيا الجنوبية كان نتيجة تحفيز أميركي، وبالتالي فإن القصور في فهم اللحظة التاريخية، يعود إلى إدارة الرئيس الأميركي حينها جورج بوش الإبن. وفي كل الأحوال فإن نتائج تلك الحرب كانت قاسية على جورجيا، وأدت إلى خسارتها أجزاء من ترابها الوطني، قد لا تستطيع استرجاعها بعد الإعتراف الروسي الذي أعقب وقف إطلاق النار. خاصةً أن الروس إنتظروا فترة طويلة إستمرت قرابة عقدين من الزمن للقيام بمثل تلك الخطوة، وقد سرع تلك الخطوة عاملان مهمان، أولهما الإعتراف الغربي باستقلال إقليم كوسوفو في السنة نفسها، والعامل الثاني الذي أتى متزامناً، كان تخبط الإدارة الأميركية في وحول الأزمة المالية التي وصلت إلى ذروتها خلال عام إنتخابات رئاسية أوصلت باراك أوباما إلى البيت الأبيض.

قطع عسكرية روسية تدخل إلى أوسيتيا الجنوبية صيف 2008

نهاية حقبة العداء لموسكو

زعيم ائتلاف "حلم جورجيا" إيفانشفيلي

وبالعودة إلى الإنتخابات التي جرت قبل أيام، فإن النتائج التي أفرزتها صناديق الإقتراع أعطت إئتلاف المعارضة "حلم جورجيا" برئاسة الثري بيدزينا إيفانشفيلي 83 مقعداً من أصل 150 هم مجموع أعضاء البرلمان الجورجي، فيما حصلت "الحركة الوطنية الموحدة التي يقودها ساكاشفيلي على 67 مقعداً فقط.

وقبل عام من نهاية الولاية الرئاسية الثانية لساكاشفيلي في تشرين الأول 2012، يبدو إيفانشفيلي متجهاً نحو رئاسة الحكومة، بعدما نفى الأنباء التي تحدثت عن دعوته الرئيس الحالي إلى الإستقلالة عقب خسارته الأغلبية البرلمانية.

وفي حال تحقق لزعيم المعارضة السابقة ترؤسة الحكومة، فإن ذلك سيكون ضمن مسار قد يوصله إلى الرئاسة في الإنتخابات القادمة، ما يعني بالنسبة للبلاد نهايةً لعهد التحالف المتين الذي نسجه زعيم "ثورة الورود" مع واشنطن، الأمر الذي أوصله إلى اختبار مخالب دببة بوتين.

مؤشرات عديدة تطرحها نتائج الإنتخابات هذه، أهمها أن مرحلة العداء بين النظام الجورجي وموسكو ذاهبة نحو نهايتها خلال وقت قريب، وذلك بالنظر إلى تبقي سنة واحدة أمام "حليف الغرب" في موقع الرئاسة.

غير أن ذلك يطرح تساؤلات جدية حول طبيعة النهج الجديد الذي سيقود إيفانشفيلي من خلاله جورجيا. هذا النهج يمكن الإستدلال عليه من خلال تاريخ الرجل الذي تربطه علاقة جيدة بموسكو، حيث عمل خلال عقد التسعينيات. هذه العلاقة تُرجمت في تصريحاته لصحيفة بولندية بعد الفوز بالإنتخابات حين أكد أنه سيسعى لبناء علاقات طبيعية مع روسيا، بعد أن انقطعت العلاقات بين البلدين قبل أربعة أعوام.

قائد "حلم جورجيا" يبدو ساعياً إلى بحث الملفات المهمة مع موسكو من خلال الديبلوماسية، فقد أضاف في تصريحه القول "إذا أردنا استعادة وحدة أراضي جورجيا، واستعادة أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، مع الحفاظ على علاقات ودية مع موسكو، فإن هذا سيكون هدفاً على المدى المتوسط، لأن ذلك لن يتم بسرعة وبسهولة".

رسالة إيفانشفيلي إلى موسكو، صحبتها رسالة أخرى وجهها إلى الغرب، حين أعلن (في التصريح نفسه) أنه يعتزم بدء زياراته الخارجية بزيارة واشنطن، وأن الإنضمام إلى حلف شمال الأطلسي والإتحاد الأوروبي يشكلان أهدافاً استراتيجية لبلاده.

إذا،ً هي محاولة لإمساك العصا من الوسط في بداية الطريق نحو تمكين الإئتلاف من مفاصل الحكم في البلاد، غير أن ذلك لا يخفي حقيقة واحدة وهي أن الإنتخابات الأخيرة، بنتائجها وبالخطاب السياسي لحملاتها الإنتخابية، تدحض الأقاويل حول ميل الجورجيين بشكلٍ كامل نحو الغرب، وبالتالي كيفما كانت السياسة التي سينتهجها إيفانشفيلي مستقبلاً مع الروس، فإنه لن يكون عدائياً، ولن يرتكب خطأً قاتلاً مثل ذلك الذي ارتكبه ساكاشفيلي.