في أزمة اليسار العربي بحثاً عن مشروع سياسي

في نقد أزمة اليسار العربي وفي نقد اليسار لذاته، ركام من الغث والسمين الذي فاض بزيادة الشيء من الشيء نفسه. فمعظم النقد يذهب في اتجاه نقد السلوكيات كالشرذمة وغياب الديمقراطية التنظيمية وغير ذلك في شؤون القيادات "كقصص الحيّات" لا نهاية لها.

أزمة اليسار العربي
في نقد أزمة اليسار العربي وفي نقد اليسار لذاته، ركام من الغث والسمين الذي فاض بزيادة الشيء من الشيء نفسه. فمعظم النقد يذهب في اتجاه نقد السلوكيات كالشرذمة وغياب الديمقراطية التنظيمية وغير ذلك في شؤون القيادات "كقصص الحيّات" لا نهاية لها. وقد يتناول بعض النقد المواقف السياسية و"الأخطاء العملية"، إنما قلّما يتجاوز البحث في ما يعتقده اليسار أنه "أسباب موضوعيّة"  تبدأ في انهيار الاتحاد السوفييتي و"العدوانية الامبريالية"... ولا تنتهي بالنقمة على "تخلّف العقل العربي" وانقسامات البلاد والعباد إلخ. والحال على هذه الحال تحاول هذه المقالة إثارة البحث في مقاربة أخرى لأزمة اليسار العربي نقداً للفكر السياسي اليساري العربي الذي نراه عموماً حاجزاً أساساً في البحث عن حلول وبدائل فكرية ــ سياسية لانتاج مشروع سياسي يساري. فالبحث في مشروع قابل للحياة هو خلاف ما يعتقده اليسار العربي عموماً بشأن المطالبة باصلاحات دستورية في السلطة وأشكال الحكم "الديمقراطية"، بل في الذهاب إلى قراءة الأزمات والحلول في تحوّلات المنطقة الجيو ــ استراتيجية وأسباب المعاش وسبُل العمران في تناقضاتها الاجتماعية والسياسية، انعكاساً لتحوّلات المنظومة النيوليبرلية الكونية.

في أشكالية السلطة والدولة

في إشكالية السلطة والدولة
في الأسس المؤسسة لهذا الفكر السياسي الحاجز، لعل عزمي بشارة يوضّح حدود الالتقاء والتباين بين الفكر السياسي اليساري العربي وبين فكره الليبرالي ــ النيوليبرالي في مقالته "حول إطلاق تسمية اليسار على اليمين". فهو "يطلق التسمية" بناءً على تبسيط شائع في "دليل الطالب" بشأن جلوس نواب على يسار الملك "يؤمنون بالمساواة بين الطبقات ويدافعون عن الحرية الفكرية وحرية التعبير" بحسب ظنّه، مقابل نواب يمين الملك. ثم يخلص في تمايزه عن "اليسار الاشتركي" إلى : "أن تفضيل قيمة المساواة على قيمة الحرية وهم. فالحريات الفردية ترتبط بالحريات عموماً بما فيها الحريات والحقوق السياسية أيضاً، وهذه الأخيرة شرط المساواة". لكن هذه النظرة الليبرالية ثم النيوليبرالية لليسار الجمهوري هي نظرة خاصة بالديمقراطية الأميركية المتعولمة بعولمة التحوّلات النيوليبرالية الكونية. ففي نظرة أبعد من "دليل الطالب" كان اليسار الجمهوري في أوروبا يعبّر عن صراع اجتماعي بين نظامين نقيضي القيَم في معنى الوجود الانساني، وفي الأسس الناظمة لنشاطات الحياة في مجمل أبعادها الاجتماعية - الاقتصادية - السياسية - الثقافية. ففي كل من فلسفتي النظامين قيمة مختلفة عن الأخرى بشأن تضامن الجماعة (الأخوّة) في العمل والملكية والثروة، وبشأن دور الدولة والسلطة. ولكل منهما أيضاً قيمة مختلفة عن الأخرى في شؤون الفرد والمواطنَة والحرية والمساواة... إلخ. هو الخلاف الأساس بين ديمقراطية النظام الجمهوري في الثورة الاجتماعية الفرنسية وبين ديمقراطية الثورة الدستورية الأميركية. ففي تاريخ هذه التيارات الديمقراطية كان لليسار الجمهوري في فرنسا قيمته الخاصة للحرية من الأعلى إلى الأدنى (حرية الجماعة القومية، الجماعات المهنية، الجماعات الدينية والإثنية، فالحريات الشخصية) وهي قيمة شأنها شأن القيَم الأخرى كالمساواة القانونية وغيرها عنصر متغيّر في إطار منظومة كاملة تتيح حرية التعبير والتنظيم وحقوق الإنسان، للتوازن مع سلطة الحكم المتعسِّفة بالضرورة حتى لو كانت منتخبَة من الملائكة. (جورج لوفيفر، الثورة الفرنسية، المنشورات الجامعية، باريس، 1989). لكن كل ذلك بموازاة دور الدولة الراعية للحقوق القومية والاجتماعية والسياسية.... في حقلها التاريخي - الجغرافي، وفي إعاقتها حريات وحوش الغابة ولا حرية لغالبية "المواطنين" من دون إعاقة حريات بعضهم. (ماكس غالو، التاريخ الاجتماعي للثورة الفرنسية، تاكلانديه، باريس، 2005). فقيمة هذه الحرية هي في منظومة نقيض لقيمة الحرية المطلقة في الثورة الدستورية الأميركية التي تذهب في "إطلاق" الحريات الفردية، أساساً ناظماً لسلطة الحكم وناظماً أيضاً لدور الدولة في إطلاق حريات الغابة.

 في هذا الصدد لا نعرض لما يسميه عزمي "اليسار الشمولي" الشيوعي وغيره الذي يأتي بحسب معرفته من تراث "الطوبيات البدائية"، إنما نتناول اليسار الجمهوري الديمقراطي تحديداً بما هو مختلف مع الفكر السياسي لليسار العربي الذي يتقاطع مع حرية عزمي بشارة في تأسيس الدولة على المساواة القانونية "بما هي شريك للحرية"، على الرغم من تباينه مع عزمي في الإضافة لهذه الحرية ما  يسميه اليسار العربي عموماً "المساواة والعدالة الاجتماعية" وهي مطالب نقابية ووطنية عمومية يراها اليسار العربي مع الإصلاحات الدستورية في السلطة مشروعه السياسي. هذا التباين يفسره فواز طرابلسي في مقالته (لا حرية من دون مساواة، مجلة دراسات فلسطينية، 2011) بالقول : "لا حرية من دون مساواة، وأنا هنا لا أقصد المساواة الاقتصادية والاجتماعية أو العدالة الاجتماعية... مع أن تطعيم النضال الديمقراطي السياسي (تطعيم مطالب الحريات بمطالب نقابية) يجب أن يكون الشغل الشاغل لليساريين، المقصود هو المساواة القانونية بما هي شريك للحرية.

 أ- إعادة تأسيس الاجتماع السياسي على تعاقد جديد بين المواطنين، يجسده دستور جديد...

ب- تثبيت مبدأ غلبَة السلطة التشريعية... (الاصلاحات الدستورية في السلطة)

الشغل الشاغل في تطعيم المساواة الاقتصادية والاجتماعية (المطلبية والنقابية) على جذع المساواة القانونية والحريات (الاصلاحات الدستورية)، هو مشروع اليسار العربي عموماً على اختلاف مدارسه. ففي "بيان اشتراكي عربي، نحو حركة عربية موحدة، 2014"، يكتب عادل سمارة : "هو مشروع حريات شامل يفتح الطريق لحرية الرأي والتعبير وهو لتأكيد مشروع حريات أشمل من الديمقراطية...". ويخرج "اللقاء اليساري" العام 2010 على أبواب انفجار الثورات العربية بالدعوة إلى "نهوض دفاعاً عن الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وصيانة للحريات الأساسية في إطار المواطنَة المتساوية". فاللقاء اليساري (19 حزباً) المتهم كما عادل سمارة وغيره بالانتماء إلى "اليسار الشمولي"، يتخذ الاصلاحات الدستورية في السلطة الجذع الذي "يطعّم" عليه المطالب الاجتماعية أو المواقف المعادية للامبريالية. فـ"العنوان الأساسي لبرنامج التغيير المميز لليسار هو إقامة حكم وطني ديمقراطي بأفق اشتراكي". وهذا الحكم الوطني في إصلاح السلطة هو الشغل الشاغل لليسار العربي عموماً كما يلخصه جميل هلال "في توصيف اليسار في المشرق العربي لنفسه، 2014" بالقول : "ضرورة تفكيك الأنظمة المستبدة واستبدالها بأنظمة ديمقراطية مدنيّة تتبنّى مؤسساتها وتشريعاتها أسس المساواة في الحقوق والواجبات والحرّية". وهو قول فواز طرابلسي في بداية الثورات العربية عام 2011، "تفكيك أنظمة الاستبداد واستبدالها بأنظمة ومؤسسات وتشريعات جمهورية ديمقراطية مدنية" (اليسار في الزمن الثوري). ولا غرو أن الانتشار الواسع لمثل هذه المقولات في الثقافة السياسية "الديمقراطية" المعولمة التي تتجاوز اليسار إلى ما هو أعمّ، أسهمت في إجهاض الثورات العربية عند حاجز المطالبة بإصلاح السلطة من فوق، فأتاحت للثورات المضادة اغتيال الثورة العربية وأتاحت انفجار المشروع الفاشي لاحتلال الفراغ الاستراتيجي الاقليمي في "إدارة التوحّش". لكن ما يعنينا فيما نتناوله في إشكالية السلطة والدولة هو أنها مقولات سياسية محدثَة في سياق عولمة الثقافة الديمقراطية النيوليبرالية خلافاً لتراث اليسار الديمقراطي الجمهوري، ناهيك عن تراث "اليسار الشمولي".

اليسار الجمهوري تناول الاصلاحات الدستورية لتغيير شكل الحكم (نحو حكم ديمقراطي)، في مجرى بناء الدولة على أسس منظومة اجتماعية وجيوــ سياسية تجري صناعة رؤاها في أرض الصراع بين قوى اجتماعية متناقضة المصالح والطموحات. ولم تكن الاصلاحات الديمقراطية في السلطة والحكم مبعث تغيير المنظومة نحو الجمهورية الديمقراطية كما تسري ثقافة الثورة الدستورية الأميركية التي باتت ثقافة معولمة (وهي ثقافة إنجيلية في كتاب مقدّس على شكل دستور برائحة جمهورية)، إنما يعكس التغيير الفعلي في موازين القوى الاجتماعية والسياسية نفسه في إصلاحات دستورية وأشكال الحكم. فالجمهورية تنتج دساتيرها وأشكال السلطة والحكم الديمقراطي، ولا ينتج  الحكم الديمقراطي (الوطني والمعادي للإمبريالية...) الجمهورية. (جاك غوديشو، دساتير فرنسا منذ الثورة العام 1789، فلاماريون، باريس، 2006). ففي مجرى بناء الجمهورية أخذ اليسار الجمهوري بدمقرطة السلطة والحكم متأثراً بفلسفة عصر الأنوار، ولا سيما جون لوك والثورة الانجليزية في "إعلان الحقوق، العام 1689"، لكن اليسار الجمهوري عزل "يسار الملك" الذي بعثه لويس السادس عشر للمساهمة في الثورة الأميركية، وعلى رأسه "الماركيز دو لا فاييت" الذي سماه الدستوريون "بطل الثورتين الاميركية والفرنسية"، بل اتُهم "دو لا فاييت" بخيانة الأمة لانحيازه ضد الجمهورية في مسعى استنساخ الثورة الأميركية في الاقتصار على الإصلاحات الدستورية والمساواة القانونية في حقوق الإنسان.

في غير اتجاه يذهب اليسار الجمهوري لبناء دولة - أمة تتميّز عن دولة "اليسار الشمولي" بدور ناظم للاستقرار الإجتماعي والسياسي في توافق المصالح والطموحات "فوق الطبقات". لكن هذه الدولة التي تأخذ بمساواة مواطنيها المولودين متساوين، يقوم دورها على اللامساواة الاجتماعية في إعاقة حرية الفئات الأكثر حظوطاً من أجل تكافؤ الفُرص مع الفئات الأخرى. فـ"حين تسقط الجمهورية في أيدي الرأسمالية يثور اليسار الجمهوري على الجمهورية" (جان جوريس، صحيفة لاديباش، 1893). وفي سبيل دورها الناظم للتضامن الاجتماعي والاستقرار السياسي تذهب الجمهورية أبعد من حدودها القومية إلى تغيير حقلها الإقليمي الجغرافي - التاريخي، الذي أنتجها في ديناميته وتعيد إنتاجه في ديناميتها، ولا تغيير في بلدٍ واحدٍ إنما هو جزء من كل فوق الحدود. (إيريك هوبسباوم، بدايات الثورة في أوروبا تاريخ من دون حدود، فايار، باريس، 1963). وفي أية حال إذا لم يذهب اليسار الجمهوري إلى خارج حدود الجمهورية، تأتي إليه الثورة المضادة في داخل الحدود وخارجها، على ما توحّدت الإمبراطوريات الهنغارية - النمساوية - البروسية العام 1792 لمحاولة اغتيال الجمهورية في فرنسا.

ليس بين اليسار الجمهوري ويمينه ملك بثوب ديمقراطي "يؤمن بحرية التعبير والمساواة بين الطبقات"، إنما بينهما هوّة سحيقة في نقيضين لتنظيم الغابة أو إطلاق العنان للهمجية.

اليسار العربي بين دور الدولة وقيَم "العلمانية"

السلطة والدولة
 ما يعيق اليسار العربي (عموماً) عن بلورة مشروع فكري - سياسي في قراءة أزمات المنطقة والبحث عن حلول بديلة. فبيّن البحث أن "تطعيم" المطالب النقابية والمدنيّة والمواقف المعادية للإمبريالية، على جذع الإصلاحات الدستورية لدمقرطة السلطة وأشكال الحكم، هو مجرّد حركة احتجاجية - مطلبية في سياق تحوّلات المنظومة الدولية و"ديمقراطيتها" النيوليبرالية المعولمة. وهو ما بات ثقافة سياسية ليبرالية (نيوليبرالية) سائدة تتجاوز اليسار فيما يسمى "الديمقراطية" (بالألف واللام المطلقَة) ونقيض التراث اليساري الجمهوري الديمقراطي، ناهيك عن "اليسار الشمولي"، في فلسفة الدولة ودورها الناظم لنشاطات الحياة الاجتماعية والجيو - سياسية بمعزل عن مسار دمقرطة السلطة والحكم.

أحد الأسس المؤسِّسَة التي يختلف بها تراث اليسار الجمهوري، و"اليسار الشمولي" أيضاً عن كل التيارات والمدارس الفكرية الأخرى، هو نموذجه الاجتماعي الخاص في فلسفة تنظيم نشاطات الحياة الاجتماعية ــ الاقتصادية والجيو ــ سياسية، سبيلاً لتنظيم المجتمعات في الغابة الكونية. وفي هذا الأساس المؤسس يتناقض اليسار الجمهوري كما "اليسار الشمولي" مع اليسار العربي (عموماً) في "تطعيم" المطالب الاجتماعية والنقابية والمواقف المعادية للامبريالية، على جذع نموذج الديمقراطية الليبرالية (تغيير أشكال الحكم). وهو التناقض الأساس مع كل التيارات التي تنطلق من الأفكار والمعتقدات والمبادىء والقيَم الدينية أو "العلمانية"، سبيلاً ناظماً للمجتمعات في الصراع بين الخير والشر. فاليسار الجمهوري الديمقراطي يُرسي رؤيته لوجود الكائن البشري على قاعدة "توماس هوبس" (1588 ــ 1679) القائلة بأن الناس يولدون بطبيعتهم متساوون أحراراً، لكنهم يولدون ويموتون في غابة عنف تكوّنها حالة الحرب الدائمة في تناقضات المصالح بين ذئاب بشرية. فذئبية الغابة ليست نتيجة حكم استبدادي يمكن أن يهذّبها حكم رشيد، وهو حقل خاص بالحكم في مجرى تغيير منظومة حياة أساسه حقل بناء الدولة. ولا هي حصيلة أفكار ومعتقدات "شريرة" يمكن تغييرها بأفكار وقيَم "خيّرة" دينية أو مدنيّة "علمانية"، إنما الصراع على هذه القيَم هو احتراب دموي كالتراجيديا اليونانية لا قعر له من الدم. ولا سبيل للحدّ من ذئبية الغابة سوى تهذيب السلوك البشري من دون تغيير الافكار والمعتقدات، عبر تنظيم توازن المصالح في أسباب المعاش وسبُل العمران (هوبس، لوفياتون، "لوفياتون هو وحش الغابة الأسطوري في الميثيولوجيا الفينيقية"، فصل لماذا الخضوع للدولة، غاليمار، باريس، 2001).

على نقيض الليبرالية والتيارات الدينية والثقافوية... يذهب اليسار الجمهوري الديمقراطي إلى العمل لدولة حيادية تجاه المعتقدات والقيَم كافة، يصنعها البشر بالمقايضة فيوكِلون إليها  "الحماية من الخوف" في الاطمئنان إلى معاشهم وسبُل العمران، مقابل تخليهم لها عن الحرية الطبيعية وعن المساواة بالولادة وخضوعهم لسيادتها. (السيادة تعبير لاتيني بمعنى صاحب المُلك). لكن ديمقراطية هذه الدولة هي في دورها الاجتماعي ــ السياسي الناظم لنشاطات أسباب الحياة بين الفئات الاجتماعية المتضاربة. فـ"الدولة هي شكل يأخذه العالم الاجتماعي (مصالح القوى الاجتماعية)، فتأخذه هي بمأسَستِه".(بيار بورديو، من البيت الملكي إلى منطوق الدولة، نموذج بزوغ الحقل البروقراطي، سوي، باريس، 2011). لكن اليسار العربي عموماً يتخذ من القيَم المدنيّة (العلمانية) حركة دعاوية ثقافية في الصراع على أفضلية القيَم، في منحى اعتقاده بإصلاح أشكال الحكم سبيلاً لدولة يسميها تارة "دولة الحرية والمساواة" وطوراً "دولة المواطنَة" والعدالة الاجتماعية.

أزمة الفكر السياسي لليسار العربي (عموماً) التي تمنع البحث عن مشروع سياسي في قراءة التحوّلات النيوليبرالية الكونية وبدائلها في المنطقة، هي عودته إلى عصر الأنوار والنهضة قبل الجمهورية الديمقراطية والدولةــ الأمة. فما تراه الليبرالية محرّكاً للتاريخ في الفكر التنويري والقيَم المدنيّة، يراه "فريدريك هيغيل" في نقده لايديولجية التنوير بتأثير الثورة الفرنسية، فلسفة قاصرة عن مقاربة الوقائع التاريخية. (موسوعة العلوم الفلسفية، فيرن، باريس، 1970). كما ضحده "كارل ماركس" في (نقد النقد ضد باوير، المنشورات الاجتماعية، باريس، 1969). إنما للفكر والفلسفة والقيَم تاريخه في مجرى التاريخ، وللوقائع التاريخية قراءات في مجرى الصراع الاجتماعي السياسي قد تأخذها المقاربة الليبرالية إلى قراءة في القيَم خلافاً لمجريات الوقائع وأحداثها. في هذا السياق يتبنّى اليسار العربي (عموماً) "العلمانية" مع غيره من التيارات الثقافوية العربية بحسب تأويلات أصلاحي النهضة في المنطقة العربية، المتأثرين بدورهم بليبرالية التنوير في أوروبا، خلافاً لوقائع "اللائكية" في مجرى تاريخ الثورة الفرنسية. فالترجمة العربية لعبارة "اللائكية" مشحونة بتأويل ذهني للثورة الفرنسية نفسها كأنها ثورة قيَم "عِلمَ انية" مقابل الجهل أو "عَلمَ انية"، من عَالَم (موسوعة عبد الوهاب المسيري). وهي في قراءة اليسار الجمهوري للثورة الفرنسية صراع مديد بين الكهنة والعامة قبل الثورة ( كليريكوس ــ لاوس) أخذه النظام الملكي الفرنسي بمثابة صراع على القيَم في تحريض الاقطاع والكنيسة ضد الثورة. لكن الثورة أخذت من هذا الصراع أدوات عمل لتفكيك المنظومة الاجتماعية ــ السياسية في مسار بناء الجمهورية. فعكفت الثورة على تحرير الفلاحين (المواطنين) من السخرة والضرائب وحروب الكنيسة والاقطاع، وتحرير ملكية الأراضي من قرصنة "مواطنين" آخرين. ومثل هذه الاجراءات "اللائكية" وغيرها في تنظيم مصالح الفئات الاجتماعية هي التي جذبت الفلاحين إلى الثورة على الرغم من اعتناق معظمهم معتقدات الكنيسة وقيَم الكهنوت.(كلمة جون جوريس العام 1893 في غرفة النواب الفرنسية بشأن المنظومة السياسية والمنظومة الاقتصادية).

النموذج الجمهوري الديمقراطي في اعتماده تنظيم مصالح الفئات الاجتماعية منهج تغيير المنظومة والحياة، هو الابداع الفكري الذي تنتجه نشاطات الحياة أعمق مما يمكن أن تحيط في أبعاده الفلسفة (هيغل) وقيَم التنوير. وقد تكوّن هذا النموذج في الثورة لتغيير منظومة حياة في مرحلة من تاريخ من الصراعات. لكنه كوَّنَ في تكوينه أسساً أهمها : أ ــ التضامن الاجتماعي (الأخوّة) بين الفئات الاجتماعية بمعنى دور الدولة في حرمان تطوّر الرأسمال من القضاء على نشاطات الفئات الضعيفة اقتصادياً والمحافظة على استمرارية عملها وبيئتها الطبيعية لإشباع حاجاتها بنفسها. وهي عملية تتناقض مع الليبرالية والتيارات الأخرى (بما فيها اليسار العربي عموماً) التي تطمح إلى "نهضة" الأمة أو الدولة في زيادة تراكم الانتاج والثروة  لكي تتمكن الدولة في تحقيق ما يسمى "المساواة والعدالة الاجتماعية" وخرافة إعادة توزيع "الثروة العامة"على الفقراء والمحتاجين. ب ــ المحافظة على الملكيات العمومية أرثاً مشتركاً منقولاً من الأجيال السابقة إلى الأجيال اللاحقة. فدور الدولة الناظم لتوازن المصالح يحرم استثمار الرأسمال في  الخدمات الاجتماعية والصحة والتعليم والمياه والنقل العام والكهرباء والحياة البرّية... ويحفظها ملكية عامة يموّل تكاليف إدارتها كل العاملين من اقتطاعات عملهم وضريبة الدخل وتديرها الدولة.

في هذين الأساسين يختلف تراث "اليسار الشمولي" عن اليسار الجمهوري الديمقراطي، في أن دور الدولة الناظم لتوازن المصالح بحرمان الرأسمال من التطور في داخل المجتمعات الديمقراطية، يعوّض الرأسمال في فتح الأسواق الخارجية بالحرب والسياسة الخارجية وإيدولوجيا التبعية بما فيها الثقافة السياسية الليبرالية. وفي هذا الأمر يطمح تراث "اليسار الشمولي" إلى تغيير منظومة الرأسمال في منظومة أممية قد يطول البحث فيها لكن أساسها هو إشباع الحاجات الانسانية بالتبادل والاستغناء عن ثقافة السوق والعملة والاستهلاك... إلخ وفي الأساس الآخر يختلف تراث "اليسار الشمولي" عن اليسار الجمهوري في أن دور الدولة الناظم لتوازن المصالح، لا يلبث أن يبتلعه تطوّر الرأسمال في تطوير منظومته على الصعيد العالمي وفي بلدان المركز، على بات اليوم معولماً. فما يُطلق عليه تسمية "الرأسمالية المتوحشة"، هو انفجار الرأسمال في قضائه على دور الدولة الديمقراطي وعلى الدول الوطنية الوليدة في المنظومة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية. وهو المسلّح بتقانة المعرفة والاتصالات وثقافة الحريات الفردية وحرية السوق والاستثمار، يعود إلى وحشية التراكم الأولي في وضع اليد على البيئة الطبيعية الخام للوجود البشري في "استثمار" المياه والارض والغذاء وقرصنة الهواء والثروات العمومية والارث الانساني.

بلادنا هي جزء من منظومة معولمة يعصف بها نموذج الهمجية التي تغذي ردود فعل الهمجيات في مشاريعها الفاشية "لإدارة التوحش". فبين النموذج المؤسس لانهيار الدول وخراب المجتمعات وبين المشروع الفاشي في التوحّش، يمكن لليسار العربي أن يساهم بالحوار لقراءة التحوّلات بحثاً عن مشروع سياسي في تفكيكها وإنتاج الحلول على مستوى المنطقة، على ما نتناول في مقالة ثالثة أخيرة. فنقد الفكر السياسي لليسار العربي ليس نزوة فكرية، إنما هو محاولة لرفض تكلّس اليسار بالحث على نقد فكري ــ سياسي في العمق. فالفكر هو كما يقول "دوركهايم" في العلوم الاجتماعية. " لا تستحق ساعة من الجهد إذا لم تساهم في تغيير العالم".

في بدائل النموذجين "النيوليبرالي" والفاشي ــ التكفيري

التوحش الذي اجتاح عالمنا
 الاصلاحات الدستورية وأشكال الحكم ليست طريق بناء دولة ديمقراطية، كما تذهب المدارس الفكرية ــ السياسية التي تعتقد أن صلاح المجتمعات في صلاح حكامها. إنما قد تؤدي في ظروف كمرحلة تعيشها بلادنا ومنطقتنا إلى احترابات قاتلة على السلطة والنفوذ مديدة. فدمقرطة السلطة وأشكال الحكم في النموذج الديمقراطي الجمهوري كان في مجرى بناء الدولة الديمقراطية الحيادية تجاه المعتقدات والقيَم كافة، في تنظيم أحوال المعاش وسبُل العمران أساساً مؤسِّساً لتهذيب "ذئبية الغابة". فهو نتاج مساومة تاريخية بين الطبقات البورجوازية الصاعدة وبين طبقات الفلاحين (المواطنين) في الحقل التاريخي ــ الجغرافي الاوروبي، على منظومة جمهورية ــ  اقتصادية ــ اجتماعية ــ سياسية ــ ثقافية وجيوسياسية أعلى من منظومة الاقطاع ــ الكنيسة ــ المَلَكية. ورست تلك المساومة على دور الدولة الناظم للاستقرار الاجتماعي والسياسي في إعاقة حرية الاستثمار داخل مجتمعاتها، مقابل دور الدولة في إطلاق حريته في الأسواق العالمية. وقد أمسكت بيروقراطية الدولة في إدارة القطاعات الانتاجية الاساسية ملكية عامة، (صناعات الفولاذ والحديد، المناجم والطاقة...) كما أمسكت بالحفاظ على القطاعات الصغيرة في إدارة رعاية الدولة التضامن الاجتماعي بين الطبقات لتمويل الخدمات الاجتماعية وتكافؤ الفرَص. (الصحة، التعليم، السكن، العمل... وباقي الحقوق الإنسانية). لكن هذا المسار لدولة الجمهورية الديمقراطية وثيق الصلة بدورها في تعويض الرأسمال بإطلاق حريته في الأسواق العالمية بحماية جنود الحرب ومبشّري الكنيسة و"العلمانية" وإيديولوجية الحداثة والرفاه! ولا ينفصل دور هذه الدولة الديموقراطية في تنظيم الاستقرار الاجتماعي والسياسي الداخلي، عن دورها الخارجي في حماية توسّع مصالح الرأسمال في منظومة التبعية. ولا تُبنى دول ديمقراطية في داخل بلدانها باصلاح الحكم وتهذيب النفوس بالقيَم الدينية أو "العلمانية"، إنما تُبنى في مجرى تاريخي على صعيد المنظومة الدولية في دورها الناظم لتوازنات الاستقرار الاجتماعي الداخلي، وبالقضاء على أسباب نشؤ الدول الديمقراطية في معظم البلاد. وهو دور في تاريخ متحوّل لا يلبث أن ينسخ حاضره ماضيه في متغيرات نشاطات الحياة. وفي هذا المسار التاريخي لم يلبث النموذج الجمهوري الديمقراطي أن وقع أسير انفجار حرية الرأسمال في الأطراف، ليعود إلى القضاء على دور الدولة الناظم لديمقراطية التوازنات الاجتماعية في المراكز. ففي بلدان المركز الأوروبي لا يزال "المواطنون" اليوم يختارون الحكام في صناديق الاقتراع لكن تحوّلات حرية الرأسمال "النيوليبرالي" تجرّ سلطات الحكم الديمقراطي إلى الاستبداد في إلغاء ديمقراطية الدولة الاقتصادي ــ الاجتماعي الذي ذهب بدور الدولة أثراً بعد عين. ففي هذا الخضمّ الكوني العاصف بالحروب والصراعات نشأت دول بلداننا إثر تحوّلات "إزالة الاستعمار"، وفي أحشاء تحولاته "النيوليبرالية" تنهار، وفي إطار قراءة أزمات النموذج للبحث عن حلول وبدائل، يمكن إعادة البناء.

مجتمعات منطقتنا وثقافاتها المتعددة دهرية كسائر مجتمعات الكون، لكن تاريخ دول مجتمعاتنا التي نعيش وليد حديث يعود إلى الحرب العالمية الثانية التي أسفرت عن تفكيك الامبراطوريات السابقة ومستعمراتها ونشوء "الدولة الحديثة" فيما أُطلق عليه دول "العالم الثالث". فالدول البائدة التي سبقت الدولة الاستقلالية هي جزء من تاريخ نشؤ الدول وانهيارها وقد نشأت وانهارت في مجتمعاتها، لكن أساسها تحوّلات المنظومة الكونية كما نشأت الدول الاستقلالية وتنهار، وليس أساسها ثقافة المجتمعات وأشكال الحكم الصالحة أو الطالحة أو صلاح المجتمعات وفسادها. (قراءة التاريخ من الحاضر إلى الماضي ومن الأوسَع إلى الأضيَق، هوارد زين) في هذا المسار لتحوّلات المنظومة الدولية نشأت دولنا القائمة في المنطقة.  والمعضلة الكأداء التي علقت عندها هي عجزها عن إزالة الاستعمار الصهيوني في فلسطين الذي أنشأته الدول الغربية بتوازنات المنتصرين في الحرب الكونية الثانية، إثر الانتقال من الاستعمار المباشر إلى التبعية. وهو الأمر الأساس الذي حرمها من توحيد الدولة ــ الأمة من فوق بحسب النموذج "البسماركي" أو من تحت وفق النموذج الصيني. وليس لاستعمار فلسطين مثيل استراتيجي بعد تفكيك الامبراطوريات، فدولة جنوب افريقيا العنصرية المستقلة عن بريطانيا في حرب البوير (من 1880 حتى 1902) هي أشبه بأميركا الشمالية المستقلة عن بريطانيا، على خلاف موقع "اسرائيل" العضوي في داخل البلدان الغربية وتقاطعاتها الشرقية، وفي الشرق الاوسط بحسب التسمية الغربية. وقد يكون من السذاجة تبسيط عجز دول الاستقلال بعامل حكم العسكر وغياب الديمقراطية وما شابه، فالدول القليلة التي تتسع لصعودها المنظومة الدولية كالنمور الآسيوية وغيرها لا تزال الآن تحت حكم العسكر بحسب ديمقراطية النموذج الياباني. كما أن صعود الصين وروسيا من جديد... ما يشير الى أن بناء الدولة أمر وسلطة الحكم الديمقراطي أمر آخر. ولعل رعونة العسكر وليس شراسته أكثر ما يفسّر هزيمة الدول الاستقلالية أمام اسرائيل (ومن ورائها الدول الغربية) في الحرب العام 1967 فاتحة انهيار مشروع بناء الدولة في المنطقة.

هزيمة مشروع بناء الدولة في الحرب مع الدول الغربية التي تمثلها اسرائيل، جرّ المنطقة إلى "الانفتاح والسلام والازدهار" في توطيد أواصر التبعية التي ترافقت منذ العام 1973 بانفجار أول قفزة "نيوليبرالية". وهو ما جاء في  تعميم الاصلاحات الهيكلية (وصفة البنك الدولي ومؤسسات حرية الرأسمال) التي قيل فيها مذاك انها تفضي إلى الديمقراطية في اصلاح السلطة، وإلى "التنمية" التي يعيقها استبداد "دولة الرعاية"، وإلى القضاء على العنف لأن "الديمقراطيات لا تتحارب فيما بينها". (الحرب مع إسرائيل) لكن الانفجار الكبير لعولمة حرية الرأسمال بدأ في جولة مراكش "لمنظمة التجارة العالمية" العام 1994 التي تتحكم اليوم بالتلاعب في جينيات الكون سواء البشر والأقوام والقوميات وباقي الكائنات الحيّة، أو المحيط الحيوي المتجدد لحفظ استمرارية الحياة. (أيكوسيستيم، وأيكوسفير) فهو تحوّل يتجاوز القضاء على دور الدولة الناظم للتوازنات في الاقتصاد ــ الاجتماعي لمصلحة حرية السوق (اليد الخفية ــ آدم سميث)، ويتعداه إلى إتاحة وضع اليد على الأحياء والثروة الطبيعية المنقولة إرثاً انسانياً مشترَكاً من الأجيال السابقة إلى الأجيال اللاحقة. فانفجار الرأسمال في البورصات وسندات الخزينة وتجارة الشركات متعدية الجنسية... ليس حصيلة ما يُطلق عليه "اقتصاد المعرفة" والتقانة، إنما هو أساساً حصيلة الاستيلاء على أكثر الثروات الطبيعية "بدائية" كالطاقة الأحفورية والأرض والبذور والحياة البريّة والمياه والمناخ والبحار... إلخ ( اقتصاد المعرفة بكل شركاته يعادل قطاعين من شركات منتجي أدوات التجميل والبذور والأسمدة، وما يقارب تجارة الدعارة والجريمة المنظّمة). ولا يقتصر الأمر على نزع الملكية إنما يتعداه إلى تغيير النوع في تغيير الاقتصاد ــ الاحتماعي الحقيقي الى اقتصاد تجاري افتراضي، ويتعداه الى تغيير الطبيعة البشرية في علاقتها بتراكم الخبرة والارث المعرفي في تطوير تعدد الأنواع لاشباع الحاجات...، نحو فوضى التوحّش في الغابة. ف"الداروينية" كانت تتخذ من الترقّي نَخْباً في صراع البقاء للأقوى، اعتماداً على عامل داخلي آحادي (فردي) كما يبرهن البيولوجي الألماني "ويلهلم روكس، 1850 ــ 1924" الذي يكشف أن الأحياء بطبيعة تكوينها (ومن ضمنها البشر) ليست فردية سمتها صراع البقاء للأقوى، إنما هي في الطبيعة عائلات وجماعات طابعها التكيّف لحفظ البقاء والتطور بمقدار ما تتيحه سلامة محيطها الحيوي. لكن "النيوليبرالية" تذهب إلى اعتناق صراع البقاء للأقوى عقيدة وجودية "للفوضى الخلاّقة" (إيليا بريغوجين، ضد نيوتن التحالف الجديد، غاليمار، باريس، 1979)، وإطلاق حرية الصراعات القاتلة في تمجيد المنافسة الفردية واحتراب الكل ضد الكل على "الترقّي" أو على البقاء في غابة التوحّش.

في هذا الإطار الأوسع لنموذج التوحّش يطفو انهيار الدول وفساد طبقة الحكم ومعظم النُخَب الاقتصادية والثقافية والمعارضات السياسية. لكن ما يطفو على السطح هو انعكاس لذئبية توحّش الغابة الذي يتعمّم أكثر فأكثر بتخريب أسباب المعاش وسبُل العمران. فنموذج التوحّش المعولَم يأخذ بكل الثروات الطبيعية والانسانية والثقافية والاجتماعية سلعاً للتجارة في سوق المنافسة بدعوى الترقّي "في إشباع الحاجات". فيقضي بذلك على البيئة الطبيعية التي ينبت فيها الحدّ الأدنى من عمران يوفّر الاطمئنان لاستمرارية الحياة. وما يُطلق عليه أوصاف "الفقر والجوع والبطالة والتخلّف..." في العالم العربي وغيره، ليس سوى نتيجة تعميم بؤس النموذج في تدمير شروط نشاطات الحياة الاقتصادية ــ الاجتماعية في حفظ الامن الغذائي والعمل الآمن في الارض والحرفيات، أو حفظ البقاء في توازن تبادل المصالح بين الجماعة القومية في الأرياف والمدن وبين هذه الجماعة ومحيطها الاقليمي. فهو نموذج نمط آحادي يقوم على إشباع افتراضي في القدرة على استهلاك السلع المتداولة في السوق الدولية، بما فيها قيَم السوق المعرفية والثقافية... وهو نمط معولم يسود بمقدار إلغاء تعدد الأنماط وتعدد قيَم ثروات العمل والمعارف في النسيج الاجتماعي ونشاطات الحياة، في سيطرة القيمة المالية الافتراضية الاكثر فساداً في منظومة معولمة جلّ رأسمالها الرمزي هو تمجيد معتقدات غيبية بمخيال ورق النقد. لكنها تدفع وحوش الغابة لاستحواذ هذا الرأسمال رمزاً للنفوذ والمكانة والتسلّط، كما تدفع ضحايا النموذج في الغابة للهيام على وجوههم الى طرق الموت (قبل الحروب الحالية)، بحثاً عن قروش من المال يسدّون بها الرمق حيث لم يعد غيرها يتيح "السَتر" سبيل استمرارية الصراع على البقاء.

الخراب الذي يطفو في انهيار الدول وفساد السلطة والطبقة السياسية والاقتصادية، ينبع من قاعدة الهرم إلى أعلاه أفقياً على مستوى الحقل الجيو ــ سياسي الاقليمي، وعامودياً على مستوى "الدولة الوطنية". فبينما يُنتج خراب قاعدة الهرم تذابحاً على التسابق بين الافراد والعائلات كقطط الشوارع "لالتقاط الرزق" اليومي، يُنتج في الوقت نفسه تكتل الجماعات العصبية الطائفية والعرقية والاثنية بحثاً عن الحماية من الخوف. لكنه يُنتجها في الاحتراب العصبي بين الجماعات لانتزاع كل جماعة من الأخرى نفوذاً ومكانة وأرزاقاً تئدُ بها لهيب الاطمئنان على حفظ الوجود. وهو نتاج مسارات النموذج النيوليبرالي المعولم في تعزيز فوضى التنافس من جهة وفيما يسمى "الارتقاء الديمقراطي" في إلغاء دور الدولة وشرذمة السلطة "الوطنية" (أو ما بقي منها شكلاً) في "كيانات" تمثّل "مكوّناتها" الاثنية والعرقية والطائفية. ففي خضم هذا الخراب المعمّم تترعرع وتزذهر الجماعات الفاشية التكفيرية في تقاطعاتها مع مصالح دول نموذج الفوضى في مراكزه وتوابعه الاقليمية والمحلية، لكنها تحمل مشروعها الفاشي الخاص بها الذي يتغذى من انهيار الدولة (ما بعد الحداثة!) والاحترابات الطائفية والعرقية الناتجة عن خراب اسباب المعاش وسبُل العمران، وعن الفراغ في احتراب التيارات السياسية المعادية للفاشية على أفضلية القيَم فيما بينها بمثابة مشروع فكري ــ سياسي لكل منها في التعويل الذهني على اصلاح السلطة وأشكال الحكم. فهذا المشروع الفاشي الذي يأخذه ظنّ أغلبية المناصرين (وحتى بعض المعادين) بأنه أيديولوجية العودة للأصول الاسلامية، ينتقي من التراث التاريخي،( ككل إيديولوجية)، ما يمكن توظيفه في مشروعه السياسي في نقض التراث التاريخي نفسه الذي تتضمّن نصوصه الشيء وعكسه وما بين الظلال. إنما هو مشروع سياسي فاشي راهن في ظروف وأحداث راهنة يقوم على التطهير العرقي والطائفي وعلى تقديس الطاعة لولي الأمر في الحرب والاحتراب سبيلاً "لعظمة الأمة" في هويتها الصافية، كما انفجرت الفاشية والنازية في أوروبا وتتنامى اليوم في أوروبا والعالم. فالنواة الفاشية قائمة عبر التاريخ فكرة ومريدين، لكن نواتها التنظيمية حديثة العهد كما عبّر عنها المدعو عبد السلام فرج العام 1966 في كتابه الركيك الصياغة والاملاء "الفريضة الغائبة". وهي على ما يقول "إقامة شرع الله ثم تأتي قضية مقاتلة اسرائيل". ولم تتمدد الفاشية من دون تقاطع المصالح الغربية والاقليمية في محاربة الغزو السوفييتي في أفغانستان ثم تقاطع المصالح في احتلال العراق وتمزيقه إرباً. غير أن انفجار المشروع الفاشي انطلق العام 2011 لاحتلال الفراغ الجيو ــ سياسي، كما أوضح المدعو عبد الله بن محمد في "المذكرة الاستراتيجية". وهو ما أتاحه إجهاض الثورات العربية في إيقافها على أبواب الاصلاحات الدستورية، تمهيداً للثورات المضادة في إغتيال الثورات بالجملة والمفرّق.

ما من أمل في التغيير بغير هزيمة المشروع الفاشي التكفيري بالسلاح كما تسعى مقاومة حزب الله كتيار شعبي مقاوم، وكما حاولت تاريخياً التيارات اليسارية والديمقراطية والجمهورية من كل أنحاء العالم دفاعاً عن الجمهورية في اسبانيا. لكن وقف الخراب والانهيار يعتمد على مشروع سياسي في تفكيك نموذج الأسس المؤسسة لفوضى الغابة على الصعيدين الأفقي الجيوــ سياسي في الحقل الاقليمي، والعامودي من قاعدة الهرم الاجتماعي إلى القمة في السلطة. فالتيارات والقوى المتطلعة الى التغيير يمكنها ان تغمس أيديها في المحليات النائية عن براثن السلطة، للمساهمة في تنظيم الكثير مما يمكن تنظيمه في أسباب المعاش الكريم، بحسب ما بدأت به الحركات الاجتماعية في أميركا اللاتنينية دفاعاً عن الحق بالمياه والأرض والغذاء المحلي النظيف والبذور المحلية والثروة الطبيعية.... وكانت هذه الحركات الاجتماعية أول قاعدة لوصول حزب العمال البرازيلي إلى بلدية "بورتو أليغري" العام 1988. ومن ثم رافعة لوصول اليسار إلى السلطة في فنزويلا والاكوادور والبرازيل وبوليفيا... حيث دفعت الحركات الاجتماعية على مستوى القارة والمنتديات العالمية، في اتجاه الاندماج الاقليمي لتفكيك نموذج الغابة. بيد أن السقوط التي تعيشه اليوم اميركا اللاتينية هو بذمة حزب العمال في البرازيل الذي غلب عليه الطبع اليساري التقليدي في زيادة "الثروة" والتراكم في السوق الدولية... على التطبّع مع الحركات الاجتماعية الجديدة المعادية لنموذج آحادية النمط السائد. وما لبث حزب العمال أن ذهب إلى المصالحة مع حرية الرأسمال لحفظ موقع البرازيل الخامس في السوق الدولية، إجهاضاً للحركات الاجتماعية ولدول أميركا اللاتينية التي تتعلق استمراريتها في تفكيك النموذج النيوليبرالي بالسند البرازيلي لتبادل المصالح الاقليمية والمنفعة المشتركَة. وما لبثت "الاصلاحات" النيوليبرالية الفاسدة أن ابتلعت السلطة البرازيلية المتأرجحة بين البينين في قضائها على "الديمقراطية التشاركية" أو ما يسميه دعاة الديمقراطية المباشرة "المواطنَة الكاملة" (جورجان هابرماس، الديمقراطية والحق، غاليمار، باريس، 1997).

وما من تغيير لوقف الخراب أملاً في إعادة البناء، بغير مشروع بديل لنموذجي النيوليبرالية والفاشية على مستوى الحقل الاقليمي. فالبلدان العربية المنهارة دولها في خراب مجتمعاتها، مهدّدة بتمدد الفاشية وانفجار "المكوّنات" العصبية في "كيانات" وفق انجاز الاحتلال "للديموقراطية التمثيلية" في تدمير العراق المخنوق بفساد "اصلاحات" الشرنقة الاميركية. فالدولتان الاقليميتان الأكثر تماسكاً في الحقل الاقليمي (تركيا وإيران) مهددتان أيضاً بارتدادات حريق المنطقة المتجسّد اليوم في سوريا. ولا تبدو مراهنتهما على تعزيز العلاقات الاقتصادية البينية والالتقاء على مواجهة التهديد الكردي، ضامناً لهما بخروج آمن من الحريق الاقليمي. فالعقدة التركية والايرانية هي الاعتماد على توسّع النفوذ في الحقل الاقليمي بحثاً عن تحسين موقع كل منهما في المنظومة الدولية، وبالتالي تحسين مواقعهما مقابل بعضهما البعض ومقابل المحيط العربي. فتدمير سوريا ومخاطر مآلات العراق التي تخيّم عليها، يكشف أن المراهنة على توسّع النفوذ يستتبعه توسّع مخاطر الارتداد إلى الداخل. في هذا الصدد تزيد الاحترابات العرقية والطائفية بذريعة "منع التدخل في الشؤون العربية"، من الخراب خراباً في المزيد من الانهيار العربي في فوضى التبعية تحت الجناح الاسرائيلي. ولا مناص من الحل في العمل لتحسين موقع الحقل الاقليمي كاملاً في توازنات المنظومة الدولية، سبيلاً لتحسين موقع كل من إيران وتركيا وكل بلد عربي في هذا الحقل. وليست مقولات "التكامل، والتعاون، والتفاهم، والتبادل التجاري البيني..."، سوى لغة السوق الدولية في تهذيب ألفاظ "المنافسة ــ الصراع الذي يشمل في ذخائره العصبية الدم والدمار". بل في العمل على بناء الحقل الاقليمي في اندماجه على أسس تكافؤ المصالح المتبادلة والمنفعة المشتركة من قاعدة الهرم إلى أعلاه، بديلاً من نموذج التوحّش النيوليبرالي والفاشي. وهو حلّ واقعي وعملي لأزمة شرذمة الجغرافيا ــ السياسية الاقليمية، في "كيانات" أو "فيدراليات" عرقية وطائفية معلن أو كامنَة قابلة للانفجار في مجمل أراضي الحقل الاقليمي. لكن مسعى مركزة الحقل الاقليمي في سيادة عليا مشتركة من فوق، وفي علاقة متكافئة تضامنية بين الدول (على الأقل في المشرق العربي المتشابك مع تركيا وإيران في الأزمات والحلول)، مرهون بالعمل الموازي لدمقرطة واسعة من تحت في الادارة الذاتية التي تتخلّى للدولة الاقليمية المركزية (فيدرالية أو غيرها) عن  السياسة الخارجية والدفاع والسياسات الاقتصادية ــ الاجتماعية، مقابل تخلّي السيادة العليا عن بعض سيادتها على محلياتها وأقاليمها.

لا حلول سحرية لأزمات منطقتنا المتحوّلة خراباً في تحوّلات توحّش المنظومة الدولية والفاشية، ولا حلول معلّبة جاهزة للاستعمال كالمفتاح في اليد. لكن بين رؤى الندب المقيت أو المدح القبيح والهجاء الأقبح، قراءة أخرى لرؤية ضؤء في آخر النفق لعلها أكثر صعوبة من الاستسلام لليأس والاحباط، لكنها أو الطريق في طموح الصعود إلى رأس الجبل.