من يوليوس قيصر إلى ترامب: لماذا يصعب التخلّي عن الحصانة؟

عاد إثنان من الادّعاء العام بشأن تحرّيات روبرت مولر في التدخّل الروسي في الانتخابات الأميركية عام 2016 إلى عملهما في وزارة العدل، وهي إشارة توحي باقتراب التحرّيات من نهايتها وإغلاق القضية. ومن بين الأسئلة الكُبرى التي لا تزال مفتوحة على مصراعيها بعد اتّهام بعض أفراد حملة ترامب أو مستشاريه: هل سيتّهم مولر الرئيس ترامب بارتكاب جريمة؟ وكما أكّدت التغطية الإعلامية هناك تقليد عريق في التشريع الأميركي يحول من دون توجيه أيّ اتّهام للرئيس أثناء تولّيه السلطة.

جذور قديمة

لا تعتبر الحصانة من المحاكمة  للمسؤولين المنتخبين مفهوماً أميركياً حديثاً وتعود في جذورها إلى ما قبل ثلاثة آلاف عام في حوض البحر المتوسّط العريق.

يسمح لنا ذلك التاريخ وعلى الأخصّ الأيام الأخيرة المُضطربة للجمهورية الرومانية في القرن الأول قبل الميلاد ، بفَهْمٍ أفضل لمدى ارتباط حوارنا الراهِن حول الحصانة الرئاسية بالقانون الروماني القديم سواء عَلِمنا ذلك أمْ لا.

وكما ذكرت عالِمة الكلاسيكيات المُعاصِرة سارة بوند مؤخّراً، فإن الحصانة " ليست سوى امتياز للمنصب أو منحة اجتماعية" ذات تاريخ طويل كميزة للقانونين اليوناني والروماني وقوانين القرون الوسطى.

الحصانة في التاريخ الروماني

يمنح القانون الروماني والأميركي بعض المسؤولين الحكوميين حصانة من الادّعاء أثناء تولّيهم السلطة ، ولكن الرومان فسّروا العلاقة بين السلطة والمنصب بشكلٍ مختلفٍ عن القانون الأميركي. مَنَحَ القانون الروماني الحصانة لبعض المسؤولين المُنتخبين حيث منحتهم مناصبهم مكانة " مَن لا ندّ له" أو"التوكيل المُطلِق" أو ذوي المناصب "المقدّسة". يمكن مقارنة المناصب التي لا ندّ لها اليوم بالسلطات الرئاسية. ويترجم هذا التعبير عموماً إلى "حق القيادة" أو السلطة المُطلَقة" التي سمحت لشاغِل المنصب بممارسة السلطة على نطاقٍ عريضٍ من القضايا ، مثل القيادة العسكرية والسلطة التشريعية والحفاظ على النظام العام وسلطة الإجبار (التي تتراوح من الاعتقال إلى الإعدام).

للحماية حدودها

لا يمكن جلب المسؤولين المُتمتّعين بالحصانة إلى المحكمة وفق آراء الفقهاء الرومان بسبب ارتكاب جنايات جُرمية أو مدنية أثناء تولّيهم مناصبهم. و لم يعنِ ذلك عدم مُساءلة هؤلاء المسؤولين على الإطلاق. ولم يسمح بتنحية المسؤولين الرومان المُتمتّعين بالحصانة عن مناصبهم حتى انتهاء فترة تعيينهم ، وحافظوا على مناصبهم لحين تسليمها في احتفال رسمي. ويمكن آنذاك توجيه الاتّهام إلى كافة المسؤولين بعد انتهاء سنوات خدمتهم بارتكاب جنايات مدنية وجُرمية. اشترط القانون الروماني عدم تولّي المسؤولين فترتين مُتتاليتن لذلك المنصب ما سمح بمحاكمتهم بعد انتهاء الفترة المُحدّدة. ومن بين أشهر الأمثلة محاكمة جايوس فيريس للجرائم التي اتّهم بها أثناء تولّيه منصب حاكِم صقيلية عام 70 قبل الميلاد. تم إحضار فيريس إلى المحكمة بعد انتهاء حكمه واتّهم بتلقّي الرشاوى وسرقة الأعمال الفنية من المعابد وغيرها من التّهم. تزايدت مُغريات الرشى وغيرها من الجرائم أمام حكّام المناطق مع احتلال روما لمناطق أكثر. لأن المناطق الجديدة وفّرت منفذاً أكبر للموارد وأغرت سلطة الحاكِم المُطلَقة باستغلال السكان المحليين في هذه المقاطعات ، ما جعل المُساءلة أكثر أهمية مع مرور الزمن. يسمح النظام الأميركي بإمكانية توجيه الاتّهام لبعض المسؤولين المُنتخبين ، ولكن النظام الروماني اعتمد على حق قوّة النقض(الفيتو) من المسؤول الأعلى أو صاحب المكانة المساوية وفترات المنصب القصيرة زمنياً. يمكن اعتراض قرارات القنصل- وهو أعلى منصب مُنتخَب في الجمهورية الرومانية وأقرب في الواقع إلى منصب الرئيس في عصرنا الراهن- من قِبَل القنصل الندّ في ذلك العام ما يُحيل سلطاته إلى العدم. وبما أن تلك المناصب كانت تدوم لسنةٍ واحدةٍ فقط جعل هذا النظام من الصعب على أيّ فرد إحداث ضَرر مُستديم.

تحايل يوليوس قيصر على النظام

بدأ النظام السياسي الروماني بالتفكّك في الجمهورية الأخيرة من القرن الأول قبل الميلاد. وكان ذلك في وقت يشبه لحظتنا الراهنة حيث تواجد تمزّق للنُظم واستغلال لقواعد النظام من قِبَل نخبة صفيقة. ومن بين أشهر الأمثلة على ذلك يوليوس قيصر. انتُخِب قيصر عام 59 قبل الميلاد قنصلاً للمرة الأولى واستخدم قيصر ومنافسيه الرشوة بشكلٍ كبيرٍ للحصول على الأصوات أثناء الانتخابات. ومن أجل تمرير التشريعات قام قيصر بترهيب قنصله المُرافق بيبولوس إلى درجة البقاء في منزله لمدة عام. وفي نهاية فترته الرئاسية تدبّر قيصر أمره بحيث عيّن نائباً للقنصل أو حاكماً لبلاد الغال لمدة خمس سنوات نتيجة لتحالف سرّي مع ماركوس كراسوس ، وهو ارستقراطي ثري وبومبي وهو قائد عسكري مُتنفّذ ما مدّد حصانته وسمح له بتجنّب المحاكمة المُنتظَرة. ومدّدت حكومة الثلاثة - كما سُمّيت لاحقاً- حكم قيصر لمدة خمس سنوات إضافية. وبحلول عام 50 قبل الميلاد وبعد مكوثه في السلطة لمدة 10 سنوات انهار تحالف قيصر ، ولم يعثر على الحلفاء في روما لتمكينه من تجديد فترة حكمه. وعندما اقتربت فترته من نهايتها خشيَ من المحاكمة على أفعاله التي اقترفها أثناء فترة حُكمه. قاد قيصر في السنة اللاحقة جيشاً قطعَ نهر الريبكوني في محاولة للتشبّث بالسلطة ، وابتدأ حرباً أهلية أدّت إلى سقوط الجمهورية وكل ذلك بسبب خشيته من فُقدان الحصانة.

الاتّهام الأميركي مقابل الفيتو الروماني

تشكَّل القانون البريطاني على أسُس القانون الروماني ولكن المؤسّسين للجمهورية الأميركية اعتمدوا بشكلٍ مُكثّفٍ على الفلسفة القانونية الرومانية كنموذجٍ عندما كتبوا الدستور. وصف اليكسندر هاميلتون في الوثائق الفيدرالية الحصانة الرئاسية على غِرار الحصانة المُطبّقة على القنصل الروماني: لا يمكن محاكمة الرئيس أثناء تولّيه المنصب ولكنه مُلزَم بالمحاكمة بعد إنصرام فترته الرئاسية. وبعكس النظام الروماني أوجد هاميلتون والمؤسّسون آلية لتنحية الرئيس عن السلطة أثناء تولّيه الرئاسة: ألا وهي الاتّهام من قِبَل الكونغرس. جاء الاتّهام كإجراء احترازي. كان لدى الرومان رقابة طبيعية على السلطة الرئاسية بوجود قنصلين في الفترة ذاتها بينما لا توجد في النظام الأميركي رقابة مُماثلة بوجود السلطة التنفيذية المُطلَقة بيد رئيس واحد. ويُعيدنا ذلك إلى مشاكل ترامب القانونية. اعتمد القانون الروماني على فترة الحُكم القصيرة وقوّة النقض(الفيتو) للمشاركين في الحُكم ، كرقابة على منح الحصانة. يعتمد النظام الأميركي على الاتهام الموجّه من الكونغرس كآلية ضابِطة للحصانة الرئاسية. توضح مكائد قيصر العديدة من تمديد فترة حكمه إلى شنّ الحرب لزيادة أمَد حصانته إلى أيّ حد قد يذهب أيّ رئيس بما فيهم ترامب للحفاظ على حصانته ضدّ المحاكمة. وتسري هذه المخاطر على السياسيين الجمهوريين والديموقراطيين على حدٍ سواء. وكما أثبتت حال قيصر يصعب التخلّي عن الحصانة عندما تخاف من فقدان شيء تمتلكه.

 

ترجمة: إبراهيم عبدالله العلو