جولة في جبيل تنسي هموم الأزمات!

تُشكِّل مدينة جبيل اللبنانية متنفّساً ومستراحاً، حيث يمكن للمرء أن يغوص عبرها في مختلف الحقب التاريخية، لما تتوافر فيها من آثار ودروب شرقيّة الروح تضفي ألفةً وطمأنينةً للعابر.

  • جولةٌ في جبيل تُنسي هموم الأزمات!

إنه زمن اشتداد الأزمات محلياً ودولياً. ينعكس الوضع على الانسان تأزُّماً وتوتراً وحيرةً وقلقاً على الحاضر والمستقبل. 

لكن الإنسان، مهما قيل، بحاجة للترفيه ولو بنسبة معينة، والتخفيف من تأزمه بطرق شتى يختارها كلّ واحدٍ وفق حاجته وميوله. 

يمكن أن تُشكِّل مدينة جبيل اللبنانية متنفّساً ومستراحاً، حيث يمكن للمرء أن يغوص عبرها في مختلف الحقب التاريخية مبتعداً عن عالم أزماته، لما تتوافر فيها من آثار تلك الحقب والمتنزهات، ودروب شرقيّة الروح تضفي ألفةً وطمأنينةً للعابر، فيغوص الانسان في جمالات الماضي تعويضاً عن مآزق الرّاهن.

أبرز ما يمكن زيارته في جبيل هي القلعة التاريخيّة التي تعاقبت عليها مختلف الشعوب والحضارات، ويمكن التنقل في جنباتها عبر مدارج، وممرّات محفوفة بالزهور، والنباتات العطرية الملوّنة المختلفة، وبين أقسام القلعة، ومستوياتها المتعاقبة، ينتقل المرء من موقع لآخر، ويخرج من القلعة لتطلَّ عليه كنيسة قديمة هي "كنيسة مار يوحنا مرقس".

كذلك توجد كنيسة أخرى هي كنيسة "سيدة النجاة" التي بنيت في القرنين الثاني والثالث عشر على أنقاض كنيسة بيزنطية، إلى جانب العديد من الكنائس الأحدث عهداً والمنتشرة في أمكنة أخرى من المدينة.

مواقع أثرية كثيرة يمكن للانسان زيارتها مثل بقايا البوابة القديمة والسور القديم، وأساسات معبد يعود للألفية الثالثة قبل الميلاد، والطريق الرومانية التي تقدم نموذجاً عن الطرق المعبدة بالحجارة السوداء، ومعبد الأنصاب الذي كان قائماً فوق المعبد الكبير ونقل إلى موقع آخر، وفيه الكثير مما يعبر عن تقاليد العصور القديمة حيث عثر فيه على مسلات متنوعة الأحجام قدمت لآلهة ذلك العصر، ومتحف الأسماك المتحجّرة الواقع في منطقة الأسواق القديمة، للجهة الجنوبية الشرقية للمدينة، إضافة إلى بقايا بيوت وقصور ومستوطنة العصر الحجري الحديث، والمسرح الروماني، والمدافن الملكيّة، ومخلّفات من مختلف الحقب التي لا تنحصر عدّاً.      

اللافت في القلعة انتشار بيوت السكن الحديثة فيها، موحية بامتداد حياتها الاجتماعية باستمرار منذ القدم. 

  •  الأنصاب أو المسلات
     الأنصاب أو المسلات

خارج القلعة، وكأنه امتدادٌ لها، طرقاتٌ ودروبٌ ضيّقة، هي الأسواق ذات الطابع الشرقي القديم، مسقوفة بالقناطر والعقود، تبدأ عند الساحة التجارية للمدينة، بالنزول عبر درجات قليلة، يتم التجوال في دروبها الضيقة المرصوفة بحصى البحر المتعددة الألوان، بين أسود، شبيه بحجارةٍ في القلعة، وأبيضٍ، أو زهريٍّ، أو أحمر. 

تحفّ بالدروب المطاعم، والمقاهي المتلاصقة، وأبواب المحلات الخشبية المرتفعة، ومختلف أصناف المنتجات التي يمكن أن تجذب الانسان، والعديد من الحانات التي حوّلها الذوق الرفيع من بساطة بناء إلى ألق الضيافة، يجتمع فيها الأحباب والأصدقاء. 

يعبر المرء بين الدّروب، وأحياناً تحت القناطر المقفلة، يدخل من زقاق ليخرج بآخر فتنفتح آفاق متجددة بين حيٍّ وآخر. 

عبوراً لأحياء منحدرة باتّجاه الغرب حيث البحر، تنفتح الممرّات على فسحة واسعة، ارتفعت فيها أعمدة غرانيت، وفيها منشآت أثرية، ويلفت الانتباه في وسطها وجود مئذنة تتوسّط المدينة، هي مئذنة جامع السّلطان عبد المجيد، بني سنة 1186 ميلادية بناء على ما ذكره العديد من المؤرخين. 

بعده بقليل نزولاً باتجاه البحر، يقوم مسجد أو مصلى، هو مسجد السّلطان ابراهيم ابن أدهم نسبة إلى الإمام العابد الزاهد إبراهيم ابن أدهم الذي سكن مدينة جبيل لفترة طويلة؛ وهناك مسجد ثالث هو مسجد "الخضر" ويلقبونه بمسجد البحر لقربه من الساحل للجهة الجنوبية - الغربية من المدينة.

  • نصب الأديب مارون عبود
    نصب الأديب مارون عبود

وتتخذ الدروب والممرات منحى انحدارياً باتّجاه البحر، تحفّ بها الأبنية العتيقة التراثية، ومختلف أصناف الأشجار، ولا يلبث المسار أن ينتهي بإطلالة على مرفأ المدينة الداخلي، تحتمي فيه عشرات المراكب والزوارق بأحجام مختلفة، منها القليل للصيد، والكثير للسياحة البحرية على ما تشي به أحجامها وتشكيلاتها.

على يمين الطريق وعند نهايتها، مستوى مرتفع وممتدّ على طول محيط المرفأ، تشكّلت عليه المقاهي والمطاعم الجميلة المطلّة على البحر، وتحتها في وسط الطريق يقوم متحف للشّمع، فيه مئات النصوب من الشمع، يحكي كلٌّ منها بعضاً من تاريخ لبنان الحديث، ويجسّد شخصياتِه الفكريّة والثقافيّة والدينيّة والسياسيّة. 

يمكن للسّائح الاتّجاه جنوباً حيث يرتفع برجان لمراقبة المرفأ شِيدا زمن الصليبيين، ورُمِّما في العصر المملوكي، ثم ينتقل المرء إلى رصيف مرتفع قليلاً أُنشيء لحماية المرفأ، وزوارقه من أعاصير الشتاء، ويمكن عبوره لمئات الأمتار وصولاً إلى أقصى الغرب ليستقرّ عند تلاطم الأمواج. وعند العودة منه، تنكشف سلسلة الجبال المترامية التي تعلو المدينة، وساحل المتوسط الشرقي.

كما تمتدّ بقايا سور المدينة زهاء 500 متر بكافة الاتّجاهات، ويُرجّح أن السّور يعود للزّمن الصليبي، وجرت عليه ترميمات متعدّدة من أيام المماليك والعثمانيين.

أما يمين الطريق التي تنخفض عن مستوى سلسلة المطاعم، فتعود بالسائح تدريجيّاً إلى الطريق العام، وقبل بلوغها، يعبر المرء عدة مواقع، ومحطّات هامة، وهو يسير صعوداً باتجاه الشرق بعد انعطافة المرفأ، ويبدأ بالصعود بالاتّجاه المعاكس، يختبر المرء فيها اختلاط الأبينة الحديثة، والمنشآت السياحيّة من فنادق ومطاعم، مع البنى الأثرية للمدينة.

وتنتهي الجولة حيث بدأت منتصف الطريق العام الذي عرف سابقاً بطريق بيروت قبل تحويلها إلى الأوتوستراد الحالي، ويلفت نصب حجريّ للأديب اللبناني الراحل مارون عبود في فسحةٍ زاوية الشارع.

قبالة مدخل المدينة الأثريّة، لجهة الشرق، منخفض عريض فيه العديد من الأعمدة القديمة الأثريّة جُلُّها من الغرانيت الأسود، وحجارة أبنية زائلةٍ متفاوتة الأحجام، اعتادت بلدية المدينة إقامة شجرة الميلاد الضخمة والشهيرة عند الطرف الغربي للمنخفض، ويُرَجَّح أنّ الأعمال الأثريّة اقتضت نقل الكثير من الآثار، فتجمعت هذه البقايا في المنخفض للحفاظ عليها. 

جولةٌ قد تختصر كل حقب التاريخ المعروفة، وبعضاً من العصر الحجريّ، تستغرق ساعاتٍ إذا شاء الانسان التمتُّع بما تقدمه له من معطيات، وصورٍ تاريخيّة، وعند الخروج منها، يشعر الانسان بالانسلاخ عن جمال فائق.

لا يمكن للمرء إنهاء الجولة الميدانيّة دون استراحة في أحد المطاعم المطلّة على المرفأ، والمنفتحة على البحر، ولا يشعر بمرور الوقت فيها، كما لا يرغب بالمغادرة قبل إيداعه للشّمس في شَفَق المغيب.