حرّاس الحضارة .. أُمناء البلاد وحُماة العباد

إنّ وجودك وأنت مُطأطأ الرأس لا يعني أنّك تنتمي إلى حضارةٍ ما زالت تُناطح السحاب، فقد تكون جزءاً من أطوار الفراغ والدِعة، والقنوع والمُسالمة، والإسراف والتبذير.

  • حرّاس الحضارة .. أُمناء البلاد وحُماة العباد
    حرّاس الحضارة .. أُمناء البلاد وحُماة العباد

لا ترد مفردة الحضارة في بحثٍ إلا ورأيت حالاً من التضاد والتشابك واختلاف في الرأي، وهذا يعكس أهميّة المفهوم، واتّساع دلالاته، وشموليّته، وتعدّد الآراء التي نظّرت وكتبت فيه، حتى بات لمَن أراد الخوض في غماره، والإبحار في المختلفات من أبعاده ودلالاته، عليه أولاً أن يتحصّن بعلوم الدين والتاريخ والجغرافية والاجتماع والسياسة والفلسفة.

والحضارة في اللغة مأخوذ من الفعل حضر، وذكر إبن منظور في لسان العرب: (الحضور: نقيض المغيب والغيبة؛ حضر يحضر حضوراً، وحضارةً؛ ويعدّى فيقال: حضره وحضره. والحضر: خلاف البدو. والحاضر: خلاف البادي..).
وأما في الإصطلاح، فالحضارة مفهوم مُتنوّع، فقد يُراد بها الأديان والمذاهب والعقائد، أو يُراد بها القوانين والتشريعات، أو العادات والتقاليد، أو المراتب المعرفيّة والإنجازات الفكريّة، أو هي الأبعاد العلمية والفكرية والأدبية والصناعية والتجارية والزراعية التي تعتمدها الأمم الناهضة وتجاهد من أجل الوصول بها إلى أعلى المقامات.

إنّ المُتبحّرين في حياة ومذاهب وأفكار وتراث الأمم ذات الحضارات العريقة، يدركون، أنّ الواقع الذي نعيشه اليوم هو في الحقيقة خلاصة مؤلمة لتراكُماتٍ من الأخطاء والاضطرابات، سببها الإبتعاد عن السياقات المؤثّرة والمعايير المُحرّكة في عمليّة البناء الحضاري، والخروج عن المنظومة الفاعلة التي تشكّل المسار التصاعُدي في قيام الحضارات، وهذا الابتعاد أدّى إلى ردَّة إنعكاسيّة تمثّلت بقيام شبه حضارة، ماديّة، تسلّطية، حديثة، تسعى إلى الهيمنة على البشريّة جمعاء، من خلال مدّ أذرعها بإسم العولمة، لتحبس الأنفاس، وتغرق الناس في مستنقع القطب الواحد.

وأما باقي الحضارات الأصيلة فقد جاءت، ومن خلال ما تحمله من تركات عقائدية وفكرية وعلمية وثقافية، لتكون ندّاً طبيعيّاً لمنهج الحضارة المادية (المُصطنعة)، والمُتسلّطة على رقاب الشعوب، فتشكّل بذلك ما اصطُلح عليه بصراع الحضارات، حتى باتت الأمم في فاقرة جعلت الإنسانية تعيش البؤس، والحرمان، والضياع؛ لقد جعلت حضارة القطب الواحد هذه أغلب شعوب الأرض تعيش التّيه والتمزّق، فبات الجهل هو الأعلى صوتاً، والهمجيّة والسفاهة والتفاهة هي المُتحكّمة.

لقد جنّدت حضارة القطب الواحد كل طاقاتها من أجل إفراغ الوعي الإنساني لدى الحضارات الأخرى من البُعد المعرفي واستخدمت كل الأساليب من أجل تمزيق الميدان العقائدي وتجفيفه من المنابع الروحية وإخلائه من الروابط الحياتيّة، حتى أصبحت الأمم ذات الحضارات تعيش الحصار المُطبق، ومُنعت عنها سُبُل الحركة التصاعُدية، لتبدأ مرحلة التسافل والتقهقر، حيث علت اللغة المادية، وتنامت لديها الازدواجية، وغلبت عليها النفعية، وليكون القطب الواحد، بما يحمله من تشوّهات فكرية، ونظرة تسلّطية هو المؤثّر وهو المُحرّك، وأنّ باقي الأمم قد ارتضت لنفسها أن تكون تبعاً، وأن يملى عليها فكراً مشوّهاً، لتعيش به هوَس المدنية العمياء، ولتسير بأقدامٍ عرجاء، فقد أريد لها أن تعيش تراثاً ممزّقاً وواقعاً ذليلاً ومستقبلاً مجهولاً.

لقد بتنا اليوم، ونحن أصحاب أعرق الحضارات، نعيش التخبّط والازواجية بين ما تبقّى لدينا من قِيَمٍ أخلاقيّة، ومُعتقدات فكرية وعقائدية، وبين فكر مُصنّع ومُعبّأ بقوالب الذلّ والخضوع، وسلوكيّات مستوردة سحقت القِيَم المُتوارثة، حتى بلغنا مرتبة الغياب التام في ثُنائية الفَهْم المشترك والاعتراف بالرأي الآخر. لقد كرَّس الإعلام الموجّه ثقله لقطع جميع حلقات التواصُل بين الأمم والمجتمعات، فغاب مفهوم تعدّد الحضارات، وانمحت نظريّة المشتركات، ورفع شعار "إن لم تكن معي فأنت ضدّي".

وبغياب البُعد الروحي تبدأ معه مرحلة التغييب المُمَنْهَج للوعي الفكري والعقلانية والحوار البنّاء، لتبدأ مرحلة التخطيط المدروس، من قِبَل حضارة القطب الواحد، لتحطيم أعمدة باقي الحضارات العريقة. لقد أريد محو القِيَم والأخلاق لتحلّ محلّها مفاهيم التبعية، والعمالة، والهيمنة، والتسلّط، وثقافات مستوردة، ومفاهيم دخيلة، وأعراف هجينة، وهذه بأجمعها ترسم معالم علاقة بين الحضارات قوامها إلغاء الرأي الآخر، والتحكّم، والهيمنة.

ولأنّ البُعد الروحي (الميتافيزيقي) والعقائدي ودوره في قيام حضارات وسقوط أخرى إنّما يقوم على أساس سننيّ؛ وأنّ هناك من العِلل ما يُهيّىء ويسبّب في نشوء حضارات، وأنّ منها ما يُسبّب في انهيارها وفنائها. ولعلّ مفهوم "العصبيّة" على الدين أو الولاء أو الفكر أو القومية، والتي تعتبر أحد أهمّ ركائز نظرية إبن خلدون في قيام العمران البشري، هي من المُشتركات الأساسية التي تُثبّت أعمدة الدولة وتضمن استمرارها، فقد حدَّد إبن خلدون خمسة أطوار تمرّ بها الدول وهي: الظفر، والانفراد بالمجد، ثم الفراغ والدِعة، ثم القنوع والمُسالمة، ثم الإسراف والتبذير.

إنّ الإنحراف في السلوك الأخلاقي والذي قوامه الطمع والتبذير والترف واللاأبالية والأنا، إنّما هو معول هدم في طريق بناء الدولة، وسبب في انهيار حضارة، حيث يقول إبن خلدون في ذلك: "وأما الجيل الثالث فينسون عهد البداوة والخشونة، كأن لم تكن ويتقدون حلاوة العزّ والعصبية بما هم فيه من ملكة القهر، ويبلغ فيهم الترف غايته بما عاشوه من النعيم وغضارة العيش، فيصيرون عيالاً على الدولة، ومن جملة النساء والولدان المُحتاجين للمدافعة عنهم وينسون الحماية والمدافعة والمطالبة، عنهم وتسقط العصبية بالجملة وينسون الحماية والمدافعة، ويلبّسون على الناس في الشارة والزيّ، وركوب الخيل وحُسن الثقافة، ويموّهون بها. فإن جاءهم في الأكثر أجبن من النسوان على ظهورهم..".

ولاشكّ في أنّ تقمّص القِيَم الدخيلة، والتخلّي عن القِيَم الحضاريّة الموروثة، والسقوط في فخّ الترفية، والجحود، والتسلّط كلّها أدوات تقود إلى التفرقة، لتكون أحد أهمّ أسباب انهيار الحضارات. فالرؤية الموحّدة تستدعي التنازل عن كل ما من شأنه خلق هويّة وطنيّة تجمع الجميع وخيمة ينضوي تحتها الجميع؛ ولأنّ التفرّق والتشتّت والتبعثُر مفردات تسهم الترفيّة والتحلّل واللاأبالية في تعميقها وترسيخها، وبالتالي تمنع أية خطوة في طريق رصّ الصفوف وتوحيد الأهداف.

وفي ظلّ حُكّام الترف والدِعة لا بدّ من أن يكون للجماهير الواعية حركة وانتفاضة من أجل تصحيح المسار، لكنّ إبن خلدون (والوقائع الحالية تعكس ذلك)، يؤكّد أنّ في ظلّ هكذا ظروف، فإنّ هذه النُخبة ستهرع طلباً للدعم الخارجي، أولئك الذين يتربّصون ويكيدون ويمكرون، فيجدون أنّ من السياسة الإبقاء على هذه النُخبة الحاكمة لتكون أداة لسحق الشعوب، ووسيلة لإسقاط الحضارة، وفي ذلك يقول إبن خلدون: "فإذا جاء المطالب لهم لم يقاوموا مدافعته فيحتاج صاحب الدولة حينئذ إلى الاستظهار بسواهم من أهل النجدة ويستكثر بالموالي ويصطنع من يغني عن الدولة بعض الغناء حتى يتأذّن الله بانقراضها فتذهب الدولة بما حملت..".

إنّ الأمم الواعية هي تلك التي تولي "الرّفض" و "المقاومة" أهميّة بالغة لما لها من دورٍ محوري في المحافظة على بقاء الأركان الحضاريّة قائمة، تتّكئ عليها الأمم الناهضة، إنّها السبيل نحو رفض التبعية، والاستعباد، ومقاومة جميع أشكال الترفيّة والتخاذُل، وهي توليد لقدرات مُحرّكة تعمل على تغيير المعادلات المرسومة، وتؤسّس لنهضة إبداعيّة تعمل على تثبيت أعمدة الحضارة ومنعها من السقوط.

إنّ وجودك وأنت مُطأطأ الرأس لا يعني أنّك تنتمي إلى حضارةٍ ما زالت تُناطح السحاب، فقد تكون جزءاً من أطوار الفراغ والدِعة، والقنوع والمُسالمة، والإسراف والتبذير، وبذلك فأنت معول هدم للحضارة والتاريخ. وجودك الحقيقي منوط بمدى رفضك لكل أشكال الخنوع والإنقياد، ومقاومتك لكل صوَر الفساد، والظلم، والذلّ والخيانة، وأنّك بعلوّ رأسك إنما تعيد الأمّة إلى الأطوار الأولى: الظفر، والانفراد بالمجد؛ وأنتم أيّها الثلّة الثائرة أمناء البلاد وحُماة العباد، وحرّاس الحضارة في زمن الطُغاة والجبابرة؛ أنتم يا أمل الأمَّة أصبحتم اليوم سبباً في كسر معادلة هدم الحضارة وتمزيق الحاضر والمستقبل.