مذود المغارة لم يَعُد يتّسع!

إن السنوات تمرّ وصورَهم لا تُمحى من الذاكرة. الأيام تمضي ونرى صوَراً تشبههم بوجوهٍ مختلفة؛ فيحفر التاريخ الذي يُعيد نفسه ملامحهم في نفوسنا. يوم غادرونا ضجّ العالم بالإجرام الذي لحق بهم. والاستنكارات وصلت إلى أقصى حدودها حتى وُصِفت هذه الأعمال الإرهابية بالمجازر!

هؤلاء الذين قُصِفت أحلامهم بصواريخ أجنبية يُطالب صانعوها بـ"حقوق الإنسان وحقوق الأطفال
إنهم أطفال قانا الجليل وفلسطين المُحتلّة. أطفال العراق وسوريا... هؤلاء الذين قُصِفت أحلامهم بصواريخ أجنبية يُطالب صانعوها بـ"حقوق الإنسان وحقوق الأطفال"... فتوقّفت نبضات قلوبهم التي لم يُسمح لها بأن تختبر الحب يوماً... تسمّرت عيونهم ولم ترفّ أجفانهم لتحفظ المشهد الأخير من مسلسل حياتهم القصيرة، مشهد رُعبٍ بامتياز... حاولوا أن يُخبّئوا وجوهَهم بأيادهم ولكنَّ غدرَ النارِ أحرقَ تلكَ الوجوه وأتلفَ تلكَ الأنامل..

هؤلاءِ هم أطفالنا الذين أُجبِروا على العودة إلى التراب فيما كانوا يلعبون بحبّاته... هؤلاء هم الذين حُرِموا من هذه الحياة لكنهم انتقلوا إلى تلك الحياة. تركوا بيتوهم قَسراً فكان المذود بانتظارهم. وخُطِفوا من أحضان أمّهاتهم فاستقبلتهم مَن حضنت العالم بأسره. فطفل المغارة لم يعد وحيداً في مذوده... ولم تعد مريم العذراء هادئةً بصمتها... ولم تعد أصوات الملائكة تملأ الكون الساكِن..

امتلأ المذود بأطفالِ قانا وفلسطين والعراق وسوريا. قانا التي عاشت مجزرتين: الأولى منذ عشرين عاماً في مركز قيادة فيجي التابع لليونيفل حيث قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي بقصفِ المقرّ، في 18 إبريل 1996، بعد لجوء المدنيين إليه هرباً من عملية عناقيد الغضَب التي شنّتها إسرائيل على لبنان، ما أدّى إلى استشهاد أكثر من مئة مدني أغلبهم من الأطفال والنساء. والثانية منذ عشر سنوات أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان في العام 2006. فقصفت إسرائيل مبنى مكوّناً من ثلاث طبقات في قانا بحجّة استخدامها كمنصّة للصواريخ التي تُطلَق من قِبَل حزب الله؛ غير أن الواقع كان عكس ذلك إذ تم انتشال 27 جثة تعود كلها إلى أطفال، كانوا قد لجأوا إلى البلدة بعد نزوحهم من القرى المُجاورة.

وأكملت إسرائيل خطفها لنفوس الأطفال في فلسطين.. وكم جريمة ارتكب الاحتلال الإسرائيلي بحقّ العائلات؟ من العام 1937 وحتى العام 1948 "أبدعت" إسرائيل بمجازرها مُستخدِمة مختلف الوسائل بين مجازر القتل الجماعية وزرع السيارات المُفخّخة والمُلغّمة وسط الأسواق والتجمّعات، أو نسف المباني والمقار بالمُتفجرات، أو إلقاء القنابل وفتح نيران البنادق على المارّة. الأمر الذي خلّف آلاف الضحايا من المدنيين العُزّل أغليبتهم من الأطفال والنساء والشيوخ. ولحقت بالفلسطينيين اللاجئين إلى لبنان، فأوقعت مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982 التي استمرّت 40 ساعة ، 3297 رجلاً وطفلاً وامرأة من الضحايا.

أما أطفال العراق فقصّتهم مختلفة بأركانها ولكن الإجرام نفسه. فهم ضحية ما يُعرف بتنظيم "داعش" الذي بلغ ذروة إرهابه في العام 2014، مُرتكِباً المجازر بحقّ الأطفال بخاصة المسيحيين والأيزيديين الذين فرّوا من التدريب، فاعتدى عناصره عليهم وقتلوهم وصنعوا تلالاً من جثثهم ووضعوهم في مقابر جماعية.

وإلى سوريا وصل عناصر "داعش". سوريا التي لم يعد يُعرَف مَن يُحارِب فيها ولماذا يُحارب فيها... سوريا التي لم نعد نعرفها استشهد أطفالها في مدارسها ومستشفياتها.. والعالم يستنكر كل ما يجري.. يُعبّر عن غضبه على مواقع التواصل الاجتماعي... ولكن الكلام لا ينفع طالما أن أصحاب النفوذ لا يفعلون.


نعم طفل المغارة لم يعد وحيداً، انضمّ إليه جيل كامل من أطفالنا. ومريم تمسح الدماء عن وجوههم، تقبّل جراحَهم، وتدعوكم إلى التوبة والصلاة. يوسف يُشعل نار المحبة من حولهم لتدفأ نفوسهم. وبات أنينُهم يشاركُ الملائكةَ بأنغامها. والمجوس يسجدون لأرواحهم الطاهرة التي يفوق نورها كل النجوم.

فيا أمثال هيرودوس كُفّوا عن إعطاء الأوامر بقتل الأطفال. أبعدوهم عن حروبكم ومصالحكم. كفاكم إجراماً، فمذود المغارة لم يعد يتّسع أطفالاً يردّدون: "أغفر لهم يا أبتاه لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون".