ثلجٌ أبيض مُبهِر ولا ثلمٌ أسود، ولا جروح

من حيث تُصّور كاميرات التلفزة، تبدو جبالنا كما لو مرض أبيض أصابها. أبيض مُبهِر ولا ثلم أسود، ولا جروح . كل جبل سحلهُ البياض، كل طريق، كل شجرة، كل شاحنة. ساحرات بأردية بيضاء غطّت المنازل، ودخلت الحدائق والأزقّة واعتلت السيارات ووقفت على أبواب البيوت وشبابيكها تطرقها وتُخيف أهاليها.

في الأماسي المُثلجة أغرقُ في قراءات دافئة رغم عناوينها الباردة
شتاؤنا لهذه السنة  امتلك مهارات حقيقية في إصابة أهدافه: أجساد ترتعشُ برداً. أكتافٌ مُطيعةٌ تحت ندف سماوي، وانحناء مُروّع وخشية من جبروت الطبيعة كأن شيئاً في سلوكها المُدّمر لهذه السنة  يتضافر ضدّنا، يقتّص من غطرستنا، من قلوبنا التي أسقطناها في المياه الموحِلة. البلد يرزح تحت ضربة مخلب من يد الثلج  وأحوال كوكبنا كلهُ سيئة جداً، نتكلّم في الأحوال المناخية، أما السياسية فهي دون الكتابة، ونلهث إلى حروبنا العنيفة كأنما نتعجّل نهايات صغيرة هنا وهناك، نهايات بائسة ونهايات لا تليق.

في الأماسي المُثلجة أغرقُ في قراءات دافئة رغم عناوينها الباردة، وأرى إلى الفروقات بين " ثلج " الكاتب التركي أورهان باموق، و " بلد الثلج " للكاتب الياباني ياسوناري كاواباتا، آملة بدفء الكلمات كما حلّ بي عندما قرأتهما لأول مرّة، وغمرني سلام داخلي ورضى. فروقات أدبية على علاقة بتميّز كلا الكاتبين، وآن معاً نشدا الجمال كلّ حسب فكرته عنه، إلى الفروقات الثقافية أيضاً وهذه على علاقة بثقافة كل كاتب: بلده، مجتمعه، موروثاته وعاداته وانتماؤه الديني وسوى ذلك من فروقات.


كاواباتا في " بلد الثلوج " قارب مشهد الثلج كجمال مُحرِّر للعقل والجسد، ومدخل إلى الخير والحب، في حدوث التآلف والتكامل بين الشكل والمضمون، بين الداخل والخارج، النقاء والتوازن. الثلج عند باموق هو حجر الزاوية لرصد جمال بلده في الظاهر، متضمناً عديد نظريات الكاتب وملاحظاته الفلسفية والسياسية عن بلده. ليست اللحظة الثلجية الباموقية داخلياً وخارجياً، هي تماماً اللحظة الكاواباتية في الأدب. يأخذ باموق الثلج بالشدّة واللين لوصف أحوال سياسية ومواجع مجتمعية. فيما الشقاق والنفور بائنان بين كاواباتا وبين تضمين روايته رجس السياسة، فالثلج عنده هو رديف الحب في بلد الثلوج.

جاذبية كلا الكاتبين، أكيدة. فباموق موهوب في رصد إيقاع مدينته المضطرب، بينما كاواباتا يكتب اليابان الفخورة بأمبراطوريتها، برفاهية المشاعر. تركيا في  "ثلج " باموق تعيش روائياً الاقتلاع من ماض ٍفاخر لم يتبقَ منه سوى الذكريات المخادعة والمخترعة. الثلج فيها مقطوع عن سياقه الجمالي، مكسور بالإيديولوجيات والتضمينات، والكلمات على قوتها الاستثنائية الصافية مُتّكلة بالكامل على فتات عزّ تاريخي مضى وانقضى.

عالمان مختلفان في الثلجين عند باموق وكاواباتا. الشرق الكولونيالي والتركيبات المجتمعية البدائية، ومزيج من انهيار البنى والاستعمال السيّىء والخارجي مع نوع من الاستلاب، تلك تركيا بحسب باموق. عند كاواباتا في بلد الثلوج ثمة إلى جانب الغرام الذي جمع بين سيّد نبيل وفتاة غيشا في عالم شديد البياض يرفل بترف الحب وثمة ايضاً العناوين التي تتلطّى خلف الحب، عن شعب فخور بعاداته وتاريخه وطقوسه وأساطيره وأسراره.

كاواباتا بحساسية الكاتب المتبطل، القريب إلى النرجسية، يتمتّع بنوع من الحدس يؤهّله أكثر من سواه لاكتشاف أعمق ما في طبيعة النفس البشرية, العلاقة بين باموق وعمل الأدب، تحديداً " ثلج " ليست علاقة استمتاعية وتأمّلية في الجمال أو النفوس، بل موقفية تعتمد طبيعة التفاعل بين ثيمة الثلج وبين الكتابة في مستويات ومواقف متعدّدة.

تمثّل الخبرة الجمالية عند الكتّاب الغربيين، كاواباتا وسواه من الكتّاب الكبار، منطقة وسطى بين الذات والعالم الخارجي، تؤمّن للكتابة نوعاً من التحرّر من العقلانية والمنطقية والسياسية الصارمة التي تُرخي بثقلها على الإبداع. الشكل الفني في بلد الثلوج ومحتواه هما في حال اندماج أو انصهار، لا تعكّرها الترميزات السياسية التي قد تتسبّب بحرمان العمل الفنّي من منزلته الخاصة كموضوع جمالي، أو يجدر به أن يكون كذلك .

يميل بعض كتّابنا في الشرق إلى مزج المواضيع الفعلية والرمزية في آن، فلا يسترسلون في الجماليات الخالصة للكتابة، إذ غالباً ما يتملّكهم الشعور بالذنب حيال ما يُسمّى الكتابة لغاية الكتابة، أو الفن للفن على ما يُقال. إزاء المؤلّفات المُثقلة بترميزاتها، ينتابنا نحن القرّاء الشعور بنقصان الأشياء، ونفتقد شيئاً جوهرياً على صعيد تملي الحال في بديهية صافية. يخجل بعض الكتّاب العرب من اهتماماتهم الفعلية، وتعلّقهم الخاص بما يحبّونه فعلاً،  ويميلون إليه خفية ، فتجد دوافعهم التدميرية – اللا شعورية – تجهد إلى تشويه نصوصهم غير المتضمّنة هموماّ جماعية أو سلوكيات وأحزاناً عامة ومشاعر سلبية.

هذا التدمير المُمنهج والمُتعمّد يوضح خراب علاقتهم بأنفسهم أولاً، وتالياً بمجمل متاهات حياتهم العربية، الخالية من عنصر تمجيد الحب في علاقات فردية وإنسانية، عندما يُدمّر ويفتقر العالم الروائي على سبيل المثال إلى الحب، تستحيل الكتابة إلى فعل يأس مُطلق، وتهرب تماماً من المعنى. لا نعني هنا الحب تحديداً، لكننا نشترط على الكتابة في أيّ من الأمور، التحّلي بالحرية والصدق كمساندات فنية لاغنى عنها. الثلج في الخارج هذا صحيح، لكن بوسع كتاب جيّد خَلق عالم من الدفء والأنس تعجز عنه كل ارتجافات البرد، فتختفي وتنسّل من ليالينا.