ميريل ستريب تُتقن فن الخطاب في عرضها الخاص

نادوا باسمها لتستلم جائزتها التكريمية عن مُجمل أعمالها الفنية. وقف لها الجميع احتراماً وصفّقوا لها. اعتلت المسرح. ابتسمت،. واستمر التصفيق. فكانت كلماتها الأولى: "شكراً جزيلاً لكم، أرجوكم إجلسوا، أحبكم جميعاً".

ميريل ستريب النجمة الهوليوودية الأكثر ترشيحاً لجوائز أوسكار.
إنها ميريل ستريب، أيقونة السينما الأميركية، النجمة الهوليوودية الأكثر ترشيحاً لجوائز أوسكار.

التقطت أنفاسها، وإن كان التوتّر ظاهراً من رهبة اللحظة، إلّا أنها بقيت مستقيمة، وتابعت مبتسمة: "يجب أن تسامحونني، خسرت صوتي نهاية هذا الأسبوع بسبب الصراخ! وفقدت عقلي في وقت ما ببداية هذه السنة، لذا سأقرأ ما كتبت على الورقة".

قد يكون فعل حمل الورقة أثناء إلقاء أي خطاب، دليل ضعف الخطيب؛ إذ من المُحبّذ حفظ ما سيقوله وإلقائه على الجمهور وكأنه مرتجل. فهل فشلت ستريب بهذه الناحية؟

وهنا ألقت نظرة سريعة على ورقتها، نظرت إلى الجمهور بوجه جدّي، وقالت: "سوف أبدأ بما ذكره "هيو لوري": أنتم وكل مَن في هذه القاعة تنتمون إلى شريحة مكروهة في المجتمع الأميركي في الوقت الحالي... فكّروا بها... هوليوود، أجانب، وصحافة... ولكن مَن نحن؟ وما هي هوليوود؟ نحن عبارة عن حفنة من الأشخاص الغرباء، أنا تعلّمت في مدارس نيوجرسي المحلية، بيولا ولدت في غرفة بمزرعة في ولاية غرب كارولاينا لتأتي إلى مدينة سينترال فولز في ولاية رود ايلاند؛ سارا بولز ولدت في فلوريدا ورعتها أمها العزباء في بروكلين؛ سارا جيسيكا باركر نشأت في وسط سبعة أو ثمانية أشقاء ومن ولاية أوهايو؛ إيمي آدامز ولدت في مجينة فيتشنزا بإيطاليا؛ ناتالي بورتمان ولدت في القدس، كما هو واضح في شهادات ميلادكم؛ والجميلة روث نيفا ولدت في أديس أبابا في إثيوبيا، ترعرعت في إيرلندا وهي هنا كونها مرشّحة عن دورها فتاة صغيرة من فرجينيا؛ رايان قوسلينق، كل الأشخاص اللطفاء هم في الواقع كنديون! وديف باتيل ولد في كينيا، ترعرع في لندن وهو هنا لترشّحه عن دور هندي نشأ في تازمينيا...".


تلَت كل هذه الأسماء، ونظرت في أعينهم، وحتى أكتافها كانت تستدر نحوهم، مع ابتسامة صغيرة على وجهها... كل ذلك ليس عن عبث! فهي جذبت الحاضرين، وسيطرت على انتباههم، وباتت عيونهم مُسمّرة عليها بانتظار معرفة ما تخبّئه تلك الابتسامة المُحنّكة.


وتابعت: "إذاً هوليوود مزدحمة بالغرباء والأجانب، وإذا طردتَهم جميعاً لن تجد شيئاً لتشاهده سوى مباريات كرة القدم الأميركية وأفلام الفنون القتالية، وهذا لا يُعدّ فنّاً".


وكان صوتها قد ارتفع، وبدا الإنفعال واضحاً على ملامحها، وحتى أنها رفعت إصبعها ناهية أن هذا ليس فناً. واتّضح من خلال استخدامها المخاطب، مَن هو هدف خطابها.


وما كان من الجمهور إلّا وأن قاطعها مُصفّقاً، فابتسمت لأن الحاضرين علموا عن من وماذا تتحدّث؟ وأكملت خطابها براحة وثقة أكبر مع صوت جدّي قليل الإنفعال.


"مهمة الممثل الوحيدة أن يدخل حياة الناس والذين بطبعهم يختلفون عنه ويسمح لكم أن تعيشوا إحساسه...".


وفجأة اختفت الابتسامة عن وجهها، راحت تتحدّث ببطء أكثر، وتستخدم يديها مُعبّرة عمّا بداخلها من مشاعر، وقالت: "ولكن كان هناك أداء واحد هذا العام أذهلني وفطر قلبي، لأنه كان مؤثراً وحقّق مراده وساهم بجعل جمهوره المقصود يضحك؛ هي تلك اللحظة، التي تدعو شخصاً إلى الجلوس على أكثر الكراسي احتراماً في دولتنا، ثم يبدأ بتقليد صحافي من ذوي الحاجات الخاصة...".


ولم تتمكّن من السيطرة على صوتها، فغصّت قليلاً، ولكن تابعت: "مشهد حطّم قلبي عندما شاهدته، ولا أزال لا أستطيع أن أزيله من رأسي لأنه لم يكن من فيلم، كان مشهداً حقيقياً من الواقع؛ وهو يجعل الإهانة أمراً طبيعياً، كونها جاءت من شخص يعتلي منصّة عامة، من شخص ذي مكانة عالية، ينقل هذا الطبع ليكون جزءاً من حياة المرء، ويعطي الصلاحية لكل شخص أن يفعل الأمر نفسه. عدم الإحترام يقابله عدم الإحترام؛ العنف يولّد العنف؛ عندما تستغل المنصب القيادي لتسخر من الآخرين، كلنا نخسر!".

أنهت الهدف الأول من خطابها، بحزم وحزن. الجمهور صامت، متأثّر، بعض أفراده أدمعت أعينهم. فتمكّنت ستريب، من خطف الجمهور لدقائق قليلة.

وفي الحال، انتقلت إلى الهدف الثاني، بابتسامة عريضة، وكأنها انتقلت من مشهد إلى آخر، وتوجّهت إلى الصحافة، مُعبّرةً عن الحاجة إلى صحافة صاحبة مبدأ تملك سلطة المحاسبة. وبالروح ذاتها، انتقلت إلى الهدف الثالث رابطة الصحافة الأجنبية، وطلبت منها الانضمام والالتزام بجمعية حماية الصحافيين.

أمّا ختام خطابها، فكان بقولٍ للراحلة الأميرة ليا، أدخلنا إلى عمق ستريب الإنسان، ويقول: "إصنعي من حطام قلبك فناً".


كل هذا في ستّ دقائق... ميريل ستريب عاشت العَظَمَة والفخر، السعادة والحزن والحزم... وكأننا نشاهد عرضاً هوليوودياً لامرأة واحدة تجمع الدراما والتراجيديا والكوميديا الساخرة. والأهم أنها أقنعتنا بأدائها، فلم تؤثّر بالجمهور الأميركي فقط، بل بالعالم أسره الذي علّق على خطابها على مواقع التواصل الإجتماعي كافة. حتى أنها أجبرت هدفها الأول أن يردّ عليها بدل أن يتجاهلها.

ميريل ستريب، اختارت اللحظة المناسبة والمكان المناسب، لتلقي خطاباً يحكي وجعاً تتشاركه وأهل بلادها، مُستخدمةً حضور الممثلة، كاريزما السيّدة، وذكاء العاشقة. ولم تسمح للحظة خوف شعرت خلالها إلى حاجتها إلى ورقة كتبت عليها رؤوس أقلام، أن تحدّ من أفكارها وإلقائها. فتلك الورقة التي لجأت إليها في بداية خطابها، لم تنظر إليها إلّا مرةً واحدة نظرة خاطفة، حتى أننا نسينا أنها تحملها بين يديها.

نعم نجحت ميريل ستريب بإتقان فن الخطاب؛ ومما لا شك فيه، أن التاريخ سيذكرها كممثلة كبيرة لعبت أدواراً كبيرة، وأيضاً كسيّدة كانت جميلة ولم تصمت!